تدبر - [269] سورة الشعراء (5)

منذ 2014-08-02

ولماذا اختلف رد فعل السحرة على وعيد فرعون عن رد فعل موسى عليه السلام على نفس الوعيد والتهديد؟

فرغم أن المُعين واحد والمعتقد واحد والتهديد في الحالتين مؤكد إلا أننا نلاحظ فارِقًا ظاهِرًا بين رد فعل السحرة - حين قرَّر فرعون تقطيعهم وتصليبهم وبين رد فعل موسى عليه السلام حين التقى الجمعان وقال أصحابه: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء من الآية:61]..

لقد جزم موسى أنه لن يُدرك ولن يتمكن فرعون من إيذائه جزمًا تلخَّص في كلمة: {كَلَّا}..

بينما استقر قول السحرة على إمكانية إلحاق الأذى بهم لكن ذلك في الدنيا {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه من الآية:72]، وبيَّنوا أن هذا لن يضرهم إلا في تلك الحياة الفانية لكنهم بعدها إلا ربهم ينقلبون..

الفارق ببساطة هو طبيعة الوعد الرباني في الحالتين..

فمع اعتبار فارق مقام النبوة إلا أن موسى عليه السلام كان لديه وعد قطعي مُحدَّد فيه جزم بأن الله تعالى معه هو تحديدًا.. {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه من الآية:46]..

وأنه لا محالة غالب عدوه..

{بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص من الآية:35]..

لذلك كان رد فعله يقينًا قاطِعًا في وعد محدَّد له هو بعينه وفي حياته..

هنا قال للمشككين والمهتزين والمرجفين بجزم قاطع: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء من الآية:62]..

قضية منتهية لا يوجد لديه ذرة شك فيها..

أما السحرة فلم يكن لديهم مثل ذلك الوعد القطعى المُحدَّد لأعيانهم وشخوصهم والذي يقطع لهم من الله بالنجاة الدنيوية من قبضة الطاغية..

لكن مع ذلك كانت هناك نقطة التقاء وتشابه رئيسية بين رد فعلهم ورد فعل موسى عليه السلام..

إنه الثبات في الحالتين..

سواءً كان الوعد المُعيَّن أو يكن..

لذا كان رد فعل السحرة رغم معاينة العذاب الدنيوي - الصدع بالحق والثبات عليه {لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} [الشعراء من الآية:72].. جنبًا إلى جنب مع التسليم الكامل لقضاء الله في عِزَّةٍ واستعلاء على الباطل بلا أدنى ذلة أو استكانة أو وهن {فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه من الآية:72]..

فإن غاية أمانيهم ليست في تلك الحياة ولكن رغبتهم كانت فيما عند الله وجزائه الذي هو خير وأبقى {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ۗ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ} [طه:73]..

ولذلك ثبتوا وأقدموا وأمَّلوا خيرًا عند من هم إليه راجعون مُعلِنين: {لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ}..

الخلاصة..

أنهم لم يجزموا بنجاتهم في الدنيا لكنهم التزموا حدودهم البشرية ولم يتألَّوا على ربِّ البرية بأن ينسبوا إلى أنفسهم ما لم ينسب لها، أو يخصوها بخصوصيةٍ زائدة، أو يُقيِّدوا وعدًا أطلقه الله سبحانه..

ألا رحمهم الله ورحم من كان على دربهم من الشهداء الثابتين على الحق وألحقنا بهم على خير.
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
المقال السابق
[268] سورة الشعراء (4)
المقال التالي
[270] سورة الشعراء (6)