إحسان الظن بالله - (5) إبن حبك لله على أسس سليمة

منذ 2014-09-08

إذا وجدت في نفسك هذا الداء الخطير - شرطية محبة الله - عليك أن تعترف به وتسعى لعلاجه؛ فهو أخطر من أي مصيبة دنيوية؛ لأنه مصيبة في الدين، لأنه خلل فيما نعيش من أجله..

السلام عليكم ورحمة الله

إخوتي الكرام:

ذكرنا في المرة الماضية أن (الحبشرطيَّ) يشرط محبته لله عز وجل  باستمرار النعم الدنيوية.

إذاً؛ هو يؤسس هذا البيت -يعني: محبة الله- يؤسسه على أسس، هذه الأسس هي: المال، الصحة، الاستقرار الأسري، الحرية، المكانة الاجتماعية.

لكن، لاحظوا معي:

هذه الأسس الدنيوية جميعها أليست قابلة للزوال؟

أليس هذا (الحبشرطي) مهددًا -في أي لحظة-:

بالفقر= زوال المال

بالمرض= زوال الصحة

بالحبس= زوال الحرية؟

ماذا سيحصل -حينئذ- إذا ابتلي بفقد أحد هذه الأسس؟

سوف يميل البيت ويسقط وينهار.

سوف تنهار محبة الله المشروطة في قلب هذا العبد الحبشرطي؛ لأنه أسسها على أسس قابلة للزوال في أية لحظة.

إذاً؛ كيف أعرف إن كانت محبتي لله عز وجل مهددة بالزوال في أية لحظة؟

كيف أعرف إن كنت قد أسستها على أسس دنيوية؟

حقيقةً، البلاءُ يساعدك في ذلك جدًا، وهذه من نعم الله عليك في البلاء.

عندما تبتلى وتدعو الله عز وجل وتطلب منه أن يرفع عنك البلاء ويعيد عليك النعم = قد يقدر الله عليك أن يستمر بلاؤك ويطول ويشتد، وحينئذ سوف تعرف إن كان حبك لله مشروطاً بهذه المصالح الدنيوية.

 

عندما واجهت محنة السجن حرمت -فجأة- من: مالي، وظيفتي، حريتي، أولادي، أصدقائي، أهلي، فجأة.

هذا حقيقةً وضعني أمام السؤال المهم:

الآن وبعد حرمانك من هذه الأشياء هل ما زلت تحب الله عز جل؟

هذا السؤال يساعدك في تشخيص مقدار (الحبشرطية) في نفسك؛ لتعيد بناء محبة الله على الأسس السليمة الصحيحة.

أسألك بالله، هل أنت مستعد أن تشتري بيتًا لتسكنه إذا علمت أن هذا البيت مرتكز على دعائم، على أسس واهية قابلة للإنهيار والزوال في أية لحظة؟

طبعا لن تفعل ذلك.

فما ظنك بمحبة الله عز وجل التي من أجلها نعيش، بل من أجلها خلقنا؟

فربنا خلقنا لنعبده، والعبادة محبة وطاعة.

فهل أنت مستعد أن تغامر بمحبة الله عز وجل وتبنيها على أسس قابلة للزوال في أية لحظة؟

إذاً، لا بد لك أن تبني محبة الله في قلبك على أسس صحيحة.

تُرى، ما هي هذه الأسس؟

كثيرة، منها:

التفكر في أسماء الله وصفاته وتأمل آثارها في الواقع.

تعلق القلب بالآخرة ونعيمها.

العرفان لله بنعمة الهداية.

الامتنان لله بما أنعم عليك في الماضي بغض النظر عن الحاضر والمستقبل.

بإذن الله سوف نتكلم عن كلٍ من هذه الأسس في حلقات قادمة.

إذاً، هذه أشياء ثابتة لا تتغير، أسماء الله وصفاته، وانتظار الآخرة، هذه أشياء لا تتغير، ليست مهددة بالزوال، تبني عليها محبتك لله وأنت واثق مطمئن.

أما ما يستجدّ لك -في الحاضر والمستقبل- من نعم جديدة ورفع بلاء؛ فهذه كلها تزيد محبتك لله عز وجل ولكنها ليست شرطًا في وجود هذه المحبة.

قد يقال: لكن الله عز وجل شرع تألف قلوب الناس بإعطائهم شيئاً من نعيم الدنيا، معلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي قسمًا كبيرًا من الغنائم للمؤلفة قلوبهم لكفار يريد رسول الله أن يستميلهم للإسلام، بل إن مصرفًا من مصارف الزكاة هو (المؤلفة قلوبهم)؟

صحيح. لكن هذا التألف لقلوب الناس بنعيم دنيوي هو مرحلي مؤقت؛ حتى ينهار الحاجز النفسي بين قلب الغافل والإسلام، حتى تُزال الغشاوة عن بصره ليرى حقيقة الدين فتخالط بشاشة الإيمان قلبه، فلا يعود يأبه -من ثَم- أعطي أو منع.

في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أنس قال: "وقد كان للرجل يجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يريد إلا الدنيا (يعني حبشرطي صرف) فما يمسي (من نفس اليوم) فما يمسي حتى يكون دينه أحب إليه وأعز عليه من الدنيا وما فيها".

إذاً؛ تحول حبه لله إلى حب حقيقي مبني على أسس سليمة.

أما أن يعيش الإنسان حياته كلها عِيشة المؤلفة قلوبهم فهذا وضع خطير غير مقبول، لأن محبته لله مهددة بالزوال في أية لحظة.

عندما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتد طوائف من الناس، ما الذي حصل؟

المؤلفة قلوبهم -من أهل مكة- الذين تألفهم رسول الله -لكنهم بعد ذلك بنَو محبتهم لله على أسس صحيحة- كانوا هم أسود الإسلام الذين نافحوا عنه أيام الردة، وبذلوا في ذلك أرواحهم ودماءهم وأموالهم.

بينما ارتد من بقي (حبشرطيًا) متعلقاً بالدنيا عندما واجه فتنة وفاة النبي وتمرد الزعماء.

إن استقرار هذا المفهوم في نفوسنا -محبة الله غير المشروطة- يمنحنا فهمًا أعمق لكثير من حقائق ديننا.

فمثلًا: عندما نقرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أَحَبُّ الأعمالِ إلى الله تعالَى أدومُها وإن قلَّ» (صحيح مسلم: [783]). قد يكون من أسباب ذلك:

أن الطاعة الكثيرة المتقطعة كثيرًا ما تكون مدافعةً لبلاء حل أو ابتهاجًا مؤقتًا بنعمة جديدة، خاصة إذا تبعها فتور شديد في الطاعة. أما العمل المستمر من الطاعات فعادة ما يكون نابعًا من حب مستقر في القلب لا يتأثر بالحوادث السارة أو الحزينة.

إذاً، أخي وأختي:

إذا وجدت في نفسك هذا الداء الخطير -شرطية محبة الله- عليك أن تعترف به وتسعى لعلاجه؛ فهو أخطر من أي مصيبة دنيوية؛ لأنه مصيبة في الدين، لأنه خلل فيما نعيش من أجله.

تخلص -حينئذ- من مرض (الحبشرطية) بإعادة بناء المحبة على أسس صحيحة سليمة لا تتأثر بالمتغيرات.

وستكون -حينئذ- بصبرك وحبك لله وأنت مبتلى معلمًا للناس معنى المحبة الصادقة.

خلاصة الحلقة: ابن حبك لله على أسس سليمة لا تزول.

والسلام عليكم ورحمة الله

المقال السابق
(4) لاتكن حبشرطيا مع الله
المقال التالي
(6) الحمد لله على أنه لم يعطني ما تمنيت