قضايا الحاكمية تأصيل وتوثيق - (30) بيان حقيقة الإجماع على وجوب طاعة الحاكم المُتغلِّب
أنَّ هذا الإجماع لا يُسلَّمُ لثُبوته بإطلاق، لا سيَّما وقد تفرَّد به ابن بطال، وهو ممن يتساهلون في حكاية الإجماع، حتى قال شيخنا عبد الله الغُنيمان، في شرحه على كتاب التوحيد من صحيح البخاري: "وابن بطال كثيراً ما ينقل الإجماع على مسائل الحقُّ على خلافها".
بيان حقيقة الإجماع المَحكِي، على وجوب طاعة الحاكم المُتغلِّب.
سبَق وقد أشرنَا في المنشور رقم (29)، إلى مناقشة هذا الإجماع، من خلال وقفتين اثنتين، كانت الأولى :
- النظر فيمن حَكى هذا الإجماع، وأثبتنا أن أوَّل قائلٍ به؛ هو: (ابن بطال رحمه الله، ثم أخذه عنه ابن حجر، وتناقله بعد ذلك؛ المُتأخرون).
- والوقفة الثانية :
أنه على القول بثبوت هذا الإجماع -تنزُّلًا- ؛ فإنه لا يصحُّ بحالٍ؛ تطبيقُه، وتنزيلُه؛ على الحُكَّام المُعاصرين، كما فعلَ مَن فعل من المُتأخرين، وذلك، لكون الحُكام المعاصرين، وإن تغلَّبُوا على الناس، بالسَّيف والقوَّة؛ إلَّا أنَّهم مُفتقدون لشروط الحاكم المُتغلِّب، التي نصَّ عليها الفقهاء، بل التي نصَّ عليها ناقلُو الإجماع أنفسهم، كـ(ابن بطَّال رحمه الله).
بل إنَّ مما يَزيد الطِّين بلّة؛ أن هؤلاء الحُكام المعاصرين؛ على الضدِّ تمامًا من هذه الشروط، فكيف يتنزَّل هؤلاء منزلةَ أولئك؟! ولمراجعة هذه الشروط؛ انظر المنشور المتقدِّم رقْم (27)، في تعريف المُتغلِّب على لسان أهل العلم، وشروط الصبر على تغلُّبِه.
- وها هي شُروط المُتغلِّب عند ابن بطال رحمه الله، كما ذكَر في شرحه على البُخاري، فتأمَّلها:
"وأهلُ السُّنة مُجمعون على أن المُتغلِّب؛ يقوم مَقام الإمام العدْل؛ في إقامةِ الحدود، وجهاد العدُو، وإقامة الجُمعات والأعياد، والإمام جُنَّة بين الناس بعضهم من بعض، فهو سِترٌ لهم، وحِرزُ الأموال، وسائر حُرمات المؤمنين أن تُنتهَك، وإن كان الإمامُ غير عدل؛ فالواجب عند العلماء من أهل السنة: ترك الخروج عليه، وأن يُقيموا معه الحدودَ والصلوات، والحجّ، والجهاد، وتؤدَّى إليه الزكوات..
قال المُهلب: قوله اسمع وأطع لحبشِي: يريد في المعروف لا في المعاصي، فتسمع له وتطيع في الحق، وتعفو عما يرتكب في نفسه من المعاصي، ما لم يأمر بنقض شريعة، ولا بهتك حرمة لله تعالى"، فتأمَّل وتدبَّر.
كيف أنَّه نصَّ على أن المُتغلِّب، يقوم مقام الإمام العدْل، وهذا إنما يكون بأمرين، هما مَحلّ إجماع:
الأول: الشروط المُعتبرَة في نفسه، مثل كونه عدلًا، مُسلمًا، عالمًا بالدِّين، والحُدود والشريعة... إلخ، الشروط التي ذكرناها في مقدمة السلسلة.
الثاني: ماذكرَه ابن بطال، من كونه مقيمًا للحُدود والجهاد، وكونه وقايةً للناس بعضهم من بعض،حافظًا لحُرمات المسلمين وأموالهم.. إلخ.
* فأيُّ حاكمٍ من المُعاصرين، يَستحقُّ حتى وصف التغلُّب، ويُطيقُه؟!
وتَدبَّر خاتمةَ كلامه رحمه الله، كيف أن الخروج إنما يمتنع؛ لأجل هذه المصالح الشرعية المُتحققة، للمسلمين وبلادهم.. فكيف إذا كان الحاكمُ الآن لا يأتي شيئًا من ذلك؟! فضلًا عن كونه على الضدِّ من ذلك جملةً وتفصيلًا؟! وكلُّ ذلك واقعٌ مُشاهَد.
لذا.. فهؤلاء المُتأخِّرون قد أعظَموا الفِريةَ على ابن بطَّال رحمه الله، لمَّا نزَّلُوا حكايتَه الإجماع؛ على الحُكام المُعاصرين، ووجَّهوا كلامَه وِجهةً أجنبيةً عن مُراده، وحمَّلوه ما لايَحتمل.
قال ابن الوزير اليماني رحمه الله في العواصم والقواصم:
"والعجبُ ممَّن ادَّعى، على ابن بطَّال، أنه نصَّ على تحريم الخروج مطلقًا، فإن ابن بطال رَوى عن الفقهاء، أنهم اشترطوا في طاعة المتغلِّب: إقامة الجهاد والجُمُعات والأعياد، وإنصافَ المظلوم غالبًا، ومع هذه الشروط؛ فما قال ابن بطال عن الفقهاء: إن طاعته واجبةٌ، ولا إن الخروج عليه حرامٌ، بل قال عنهم: إنه متى كان كذلك؛ فطاعته خيرٌ من الخروج عليه، لما فيها من حقنِ الدماء، وتسكين الدهماء".
والخُلاصة:
- أنَّ هذا الإجماع لا يُسلَّمُ لثُبوته بإطلاق، لا سيَّما وقد تفرَّد به ابن بطال، وهو ممن يتساهلون في حكاية الإجماع، حتى قال شيخنا عبد الله الغُنيمان، في شرحه على كتاب التوحيد من صحيح البخاري: "وابن بطال كثيراً ما ينقل الإجماع على مسائل الحقُّ على خلافها".
ناهيك عن حكايته عن أهل السُّنة، وغالبًا مايَقصد بذلك؛ الأشاعرة.
- وقد ردَّ ابن حزم إجماعًا حكاه ابن مجاهد الأشعري في تحريم الخروج على الجائر مُطلقًا.
فكيف بالإجماع المَحكي عن المُتغلِّب؟! وسبق في سلسلتنا؛ ذكرُ الخلاف في ذلك.
- وعلى فرض ثبوته؛ فقد ذكرنَا توجيهَه، وتقييدَه بشروطِه وسِياقِه، فإخراجه عن ذلك؛ خطأٌ فادح، وغلطٌ واضح، وجهلٌ سابِح.
أبو فهر المسلم
باحث شرعي و أحد طلاب الشيخ سليمان العلوان حفظه الله
- التصنيف: