الهمة العالية - (24) أسباب اكتساب الهمة العالية (7)

منذ 2014-11-02

قال الرافعي رحمه الله: "فمن ألزم نفسه الجود والإنفاق راضها رياضة عملية كرياضة العضل بأثقال الحديد، ومعاناة القوة في الصراع ونحوه. أما الشح فلا يناقض تلك الطبيعة، ولكنه يدعها جامدة مستعصية، لا تلين، ولا تستجيب، ولا تتيسَّر".

23- السخاء:

فالسخاء يقوم على الشعور بأن للمال قيمة تستدعي عدم الإسراف في إنفاقه؛ وأن للحياة الفاضلة مطالب يبذل المال في سبيلها غير مأسوف عليه؛ فهو بذل ما ينبغي في الوجه الذي ينبغي الإنفاق فيه.

فمن أطلق يده في اتباع الشهوات فهو مسرف، ومن قبضها عن الإنفاق في وجوه الخير فهو بخيل، أما السخاء فكان بين ذلك قوامًا.

وبما أن السخاء يقوم على الرحمة، وقلة الحرص على جمع المال - كان متصلًا بفضائل أخرى تعد من مقومات الهمة العالية، ومن مظاهرها الجلية؛ فالسخي في أغلب أحواله يأخذ بالعفو، ويتحلى بالحلم، ويجري في معاملاته على الإنصاف، فيؤدي حقوق الناس من تلقاء نفسه، وإذا قضى كان عادلًا، فلا تطمح نفسه إلى رشوة، ولا تحدثه أن يأخذ حق ضعيف إلى قوي.

ولتجدن السخي بحق متواضعًا، لا يطيش به كبر، ولا تستخفه الخيلاء، ولتجدنه أقرب الناس إلى الشجاعة وعزة النفس، وإنما يخسر الإنسان الشجاعة والعزة بشدة حرصه على متاع الحياة الدنياز قال أبو الطيب:

فأحسن وجه في الورى وجه محسن *** وأيمن كف فيهم كف منعم[1]

أما البخيل فلفراغ قلبه من الرحمة، ولقلة اهتمامه بأن يكون له ذكر جميل، ولحرصه على جمع المال حرصًا يعمي ويصم - تجده قد فقد كثيرًا من المكارم، وجمع إلى أشح كثيرًا من الرذائل، كما قال عمرو بن الأهتم:

ذريني فإن البخل يا أم هيثم *** لصالح أخلاق الرجال سروق[2]

فإذا اتصف المرء بالسخاء زكت نفسه، ولانت عريكته، وقاده سخاؤه إلى أن يترقي في المكارم، وأن يتطهر من المساوئ والمعايب؛ فالسخي قريب من كل خير وبر.

قال الرافعي رحمه الله: "فمن ألزم نفسه الجود والإنفاق راضها رياضة عملية كرياضة العضل بأثقال الحديد، ومعاناة القوة في الصراع ونحوه. أما الشح فلا يناقض تلك الطبيعة، ولكنه يدعها جامدة مستعصية، لا تلين، ولا تستجيب، ولا تتيسَّر"[3].

ولقد جرت سنة الله بأن السخي بحق يفوز بالحياة الطيبة، ولا تكون عاقبته إلا الرعاية من الله والكرامة؛ فلما كان السخي رحيمًا بالفقراء والمساكين والمحتاجين، حريصًا على إسعادهم وإدخال السرور والبهجة في نفوسهم - كان جزاؤه من جنس عمله[4].

أثر السخاء في سيادة الأمة[5]:

للسخاء أثر في سيادة الأمة؛ فالأمة تبلغ القدر الأسمى من السيادة بحفظ دينها، وسعة معارفها، وسمو أخلاقها، وصيانة أعراضها، ونابهة ذكرها، ومتانة اتحادها، وحماية أوطانها. وكل هذه المقاصد الرفيعة الشأن - إنما تتحقق بالمال الذي يبذله الأسخياء من الناس.

فللسخاء أثر في حفظ الدين؛ فالمساجد التي تقام فيها الصلوات، والمدارس التي تدرس فيها علوم الدين ووسائلها، والجمعيات التي ترشد بمحاضراتها ومجلاتها إلى حقائق الدين، وتدعو إلى التمسك بعروته الوثقى، والحاكم التي تنصب للعدل بين الناس وتحكم بشريعة الإسلام الغرّاء - كل ذلك معدود من مآثر السخاء.

وللسخاء أثر عظيم في تنمية العلوم، وسعة المعارف، وذلك من خلال ما تجود به النفوس الكريمة من أموال تصرف في إنشاء مدارس للتعليم، أو طبع كتب قيمة، أو عقد مسابقات لتحقيق بحث علمي أو أدبي.

وللسخاء أثر في نبل الأخلاق وسلامتها من جهة أنه يحفظ الدين، وينمي العلوم.

وبحفظ الدين، ونمو العلوم ترتفع الأخلاق، وتبلغ الذروة في كمالها.

وللسخاء أثر في إنقاذ كثير من الناس من عوز الفقر، الذي قد ينجرف بهم إلى فساد الأخلاق، وضيعة الآداب.

وللسخاء أثر في صيانة الأعراض، ذلك أن الكريم يبذل المال لذي الحاجة، فيصون وجهه من الابتذال بالسؤال، والسؤال يزري بصاحبه، ويجعله عرضة للوقيعة فيه.

ثم إن الأسخياء أعراضهم بما يسدون به أفواه أناس لولا عطاؤهم لأطلقوا ألسنتهم بذمهم وهجائهم، ولاختلفوا لهم معايب وهم منها براء.

قال بعض الشعراء:
وما خير مالٍ لا يقي الذم ربه *** ونفس امريء في حقها لا يهينها[6]

وقال المثقب العبدي:
لا يبالي طيب النفس به *** أجعل المال لعرضي جنة
تلف المال إذا العِرض سلم *** إن خير المال ما أوفى الذمم[7]

وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
أصون عِرضي بمالي لا أدنسه *** لا بارك الله بعد العِرض بالمال[8]

وقال الشافعي رحمه الله:
وعداوة الشعراء داء معضل *** ولقد يهون على الكريم علاجه[9]

ولهذا فالبخلاء كثيرًا ما يكونون عرضة للهجاء، بل إن أكثر مادة للهجاء في الجاهلية هي البخل والبخلاء؛ فإذا هجي الرجل سارت الركبان بذمه وعيبه.

قال الثعالبي: "قال بعض الرواة: أهجى بيت للعرب قول الأعشى:

تبيتون في المشتى ملاءً بطونكم *** وجاراتكم غرثى يبتن خمائصَا"[10]

ولهذا كان جرير يتألم كثيرًا من قول الأخطل:

قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم *** قالوا لأمهم بولي على النار[11]

وللسخاء أثر في نباهة الذِّكر بعد سلامة العرض؛ فإن الفضائل -والسخاء في مقدمتها- تطلق الألسنة بالثناء، والثناء الصادق من النعم التي تقابل بالارتياح والشكر.

قال عمرو بن الأهتم:
وإن المجد أوله وعور *** وإنك لن تنال المجد حتى
بنفسك أو بمالك في أمور *** ومصدر غِبه كرم وخير[12]
تجود بما يضن به الضمير *** يهاب ركوبها الوَرِع[13] الدثور[14]

وكان خالد بن عبد الله القسري يقول: "تنافسوا في المغانم، وسارعوا إلى المكارم، واكتسبوا بالجود حمدًا، ولا تكتسبوا بالمال ذمًا، ولا تعدوا بمعروف ولم تعجلوه، واعلموا أن حوائج الناس نعمة من الله عليكم، فلا تملوها فتعود نقمًا"[15].

وقال ابن حبان البستي رحمه الله: "فالواجب على العاقل إذا أمكنه الله من حطام هذه الدنيا الفانية، وعلم زوالها عنه، وانقلابها إلى غيره، وأنه لا ينفعه في الآخرة إلا ما قدم من الأعمال الصالحة - أن يبلغ مجهوده في أداء الحقوق من ماله، والقيام بالواجب في أسبابه، مبتغيًا بذلك الثواب في العقبى، والذكر الجميل في الدنيا؛ إذ السخاء محبة ومحمدة، كما أن البخل مذمة ومبغضة، ولا خير في المال إلا مع الجود"[16].

ثم إن للسخاء أثرًا في ستر العيوب وإن كثرت، قال الشافعي رحمه الله:

وإن كثرت عيوبك في البرايا *** تستر بالسخاء فكل عيب
وسرك أن يكون لها غطاء *** يغطيه كما قيل السخاء[17]

وللسخاء أثر في ائتلاف القلوب، وتأكيد رابطة الإخاء؛ ذلك أنه يبذر محبة المحسنين في قلوب ذوي الحاجات.

ثم إن من وجوه السخاء صرف المال في نحو ضيافة أو هدية ولو لغير ذي حاجة.

وهذا مما يذهب بالجفوة، ويجعل القلب من القلب قريبًا.

بل إنه يقضي على كثير من الأخلاق المرذولة، والتي من شأنها أن تفتك بالجماعة وتقضي على وحدتها، كرذيلتي الحسد والكبر؛ فالكبر من ذوي اليسار، والحسد من ذوي الحاجة والفاقة.

فبالسخاء يتواضع ذوو اليسار، وبه يزول الحسد من ذوي الحاجات.

أما أثر السخاء في حماية الأوطان فإن إعداد وسائل الدفاع إنما يكون بالمال، وعلى قدر سخاء الأمة يكون الاستعداد.

وسخاء الأمة في سبيل الدفاع يأتي على حسب شعورها بالكارثة التي تقع فيها إذا هي تركت الدفاع.

هذا وقد أشار القرآن الكريم إلى أن الإمساك عن الإنفاق في سبيل دفع العدو إلقاء باليد إلى التهلكة، فقال تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة من الآية:195].

وكما يسخو المرء بماله في سبيل مجاهدة الأعداء فكذلك يسخو بسلاحه، فيقول:

لئن لم أكن فيكم خطيبًا فإنني *** بسيفي إذا جد الوغى لخطيب[18]

وكما يسخو بسلاحه يسخو كذلك بقلمه فيقول:
ولي قلم في أنملي إن هززته *** فما ضرني ألا أهز المهندا[19]

من صور السخاء[20]: ومما ينبغي أن يعلم أن السخاء ليس مقتصرًا على بذل المال فحسب، بل إن مفهومه أوسع، وصوره أعم وأشمل:

أ- فيدخل في قبيل الأسخاء من يكون له دين على آخر فيطرحه عنه، ويخلي ذمته منه، وهو يستطيع الوصول إليه دون عناء ولا تعب.

"كان قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما من الأجواد المعروفين، حتى إنه مرض مرة، فاستبطأ إخوانه في العيادة، فسأل عنهم، فقالوا: إنهم كانوا يتسحيون مما لك عليهم من الدين، فقال: أخزى الله مالًا يمنع الإخوان من الزيارة، ثم أمر مناديًا ينادي: من كان لقيس عليه مال فهو منه في حل؛ فما أمسى حتى كُسرت عتبة بابه من كثرة من عاده"[21].

ب- ويدخل في قبيل الأسخياء من يستحق على عمل أجرًا فيترك الأجر من تلقاء نفسه.

ج- ويدخل في قبيلهم من يسعى في قضاء حوائج الناس، وتفريج كرباتهم.

عن الحسن رحمه الله قال: "لأن أقضي حاجة أخٍ أحب إليَّ من أن أعتكف سنة"[22].

"وقيل لابن المنكدر: أي الأعمال أحب إليك؟ قال: إدخال السرور على المؤمن. وقيل أي الدنيا أحب إليك؟ قال: الإفضال إلى الإخوان"[23].

وقال الإمام الشافعي رحمه الله:
الناس بالناس ما دام الحياة بهم *** وأفضل الناس ما بين الورى رجل
لا تمنعن يد المعروف من أحد *** وأشكر فضائل صنع الله إذ جعلت
والسعد لا شك تارات وهبات *** تقضى على يده للناس حاجات
ما دمت مقتدرًا فالسعد تارات *** إليك لا لك عند الناس حاجات[24]

د- ويدخل في سخاء سخاوة الإنسان بجاهه، بحيث يبذله في سبل الخير، والشفاعات الحسنة، من إحقاق حق، ونصرة مظلوم، وإعانة ضعيف، ومشي مع الرجل إلى ذي سلطان، ونحو ذلك.

قال تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} [النساء من الآية:85]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اشفعوا تؤجروا»[25].

قال الشافعي رحمه الله:
وأدّ زكاة الجاه واعلم بأنها *** كمثل زكاة المال تم نصابها[26]

هـ- ويدخل في السخاء سخاء الإنسان برياسته، فيحمله سخاؤه على امتهانها، والإيثار في قضاء الحاجات المتلمس.

و- ومن السخا سخاء الإنسان براحته، وإجمام نفسه، فيجود بها تعبًا وكدا في مصلحة غيره.

ومن هذا جود الإنسان بنومه ولذاته لمسامره، كما قيل:

متيم بالندى لو قال سائله *** هب لي جميع كرى عينيك لم ينم[27]

ز- ومن ذلك سخاء الإنسان بوقته في سبيل نفع الناس أيًا كان ذلك النفع.

ح- ومن جميل السخاء سخاء الإنسان بالنصح والإرشاد.

ط- ومن أعلى مراتب السخاء سخاء الإنسان بالعلم، وذلك افضل من السخاء بالمال؛ لأن العلم أشرف من المال.

والناس في السخاء بالعلم مراتب متفاوتة، وقد اقتضت حكمة الله، وتقديره النافذ ألا ينفع به بخيلًا أبدًا.

ومن الجود به أن تبذله لمن يسألك عنه، بل تطرحه عليه طرحًا.

ومن الجود به أن السائل إذا سألك عن مسألة استقصيت له جوابًا شافيًا، فلا يكون جوابك له بقدر ما تفدع به الضرورة، كما كان بعضهم يكتب في جواب الفتيا (نعم) أو (لا) مقتِصرًا على ذلك.

ومن السخاء بالعلم أن لا يقتصر على مسألة السائل، بل يذكر له نظائرها، ومتعلقاتها، ومآخذها، بحيث يشفيه، ويكفيه.

ي- ومن السخاء سخاء الإنسان بنفع البدن على اختلاف أنواعه، كما قال عليه الصلاة والسلام: «يُصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، يعدل بين اثنين صدقة، ويُعين الرجل في دابته فيحمله عليها، أو يرفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة يمشيها الرجل إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة»[28].

ك- ومن السخاء سخاء الإنسان بعرضه لمن نال منه، كما جاء في خبر أبي ضمضم: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضيغم، أو ضمضم -شك ابن عبيد[29]- كان إذا أصبح قال: اللهم إني قد تصدقتُ بعِرضي على عبادك»[30].

قيل للشعبي: فلا نيتنقصك ويشتمك، فتمثل الشعبي بقول كثير عِزِّة:

هنيئًا مريئًا غير داء مخامر *** أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
لعزة من أعراضنا ما استحلت *** لدينا ولا مقلية إن تقلت[31]

وفي هذا السخاء من سلامة الصدر، وراحة القلب، والتخلص من معاداة الخلق - ما فيه.

ل- ومن السخاء السخاء بالصبر والاحتمال، والإغضاء.

وهذه مرتبة شريفة من مراتب السخاء، وهي أنفع لصاحبها من الجود بالمال، وأعز له، وأنصر، وأملك لنفسه، وأشرف لها، ولا يقدر عليها إلا النفوس الكبار.

ويُنسَب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله:

أغمض عيني عن أمور كثيرة *** وما من عمى أغضي ولكن لربما
وأسكت عن أشياء لو شئت قلتها *** أصبر نفسي باجتهادي وطاقتي
وإني على ترك الغموض قدير *** تعامى وأغضى المرء وهو بصير
وليس علينا في المقال أمير *** وإني بأخلاق الجميع بصير[32]

م- ومن جميل السخاء سخاء المرء بالخلق، والبشر، والتبسم، والبشاشة، والبسطة، ومقابلة الناس بالطلاقة.

فذلك فوق السخاء بالصبر والاحتمال، والعفو، وهذا هو الذي بلغ بصاحبه درجة الصائم القائم، وهو أثقل ما يوضع في الميزان، وفيه من المنافع والمسار، وأنواع المصالح ما فيه[33].

قال ابن حبان رحمه الله: "البشاشة إدام العلماء، سجية الحكماء؛ لأن البشر يطفئ نار المعاندة ويحرق هيجان المباغضة، وفيه تحصين من الباغي، ومنجاة من الساعي"[34].

"قيل للعتابي: إنك تلقى الناس كلهم بالبشر!

قال: دفع ضغينة بأيسر مؤونة، واكتساب إخوان بأيسر مبذول"[35].

وقال محمد بن حازم:
وما اكتسب المحامد حامدوها *** بمثل البشر والوجه الطليق[36]

ن- ومن السخاء حض الناس على الخير، وحثهم على الجود والإنفاق.

ولهذا قال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ . فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ . وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:1-3].

فذكر الله عز وجل من لا يحض على طعام المسكين في معرض الذم، وفي هذا أمر للعبد بأن يحض على طعام المسكين إن لم يستطع إطعامه بنفسه.

س- ومن ذلك دلالة الناس على وجوه الخير، وتذكيرهم بطرقه؛ فالدال على الخير كفاعله.

ع- ومن ذلك شكر الأسخياء، والدعاء لهم، وتشجيعهم على مزيد من البذل.

ولهذا لما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ الصدقات من الأغنياء أمره بالدعاء لهم كما قال عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة من الآية:103].

فقوله عز وجل: "{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أي: ادع لهم، وقوله: {إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} أي: طمأنينة لقلوبهم، واستبشار لهم"[37].

ف- ومن صور السخاء الخفية الجميلة - سخاوة النفس بترفعها عن الحسد، وحب الاستئثار بخصال الحمد.

وذلك بأن يحب المرء لإخوانه ما يحب لنفسه، فيفتح المجالات أمامهم، ويعطيهم فرصة للإبداع، والحديث، والمشاركة، ونحو ذلك بعيدًا عن الأثرة، وحب التفرد بالخير. ومما يجمل في ذلك أن يفرح لفرحهم، ويحزن لإخفاقهم، فهذه من الصور الخفية للسخاء، وقل من يتفطن لها، ويأخذ نفسه بها.

ص- ومن جميل السخاء ومحموده سخاء المرء عما في أيدي الناس، فلا يلتفت إليه، ولا يستشرف له بقلبه، ولا يتعرض له بحال ولا لسانه.

قال ابن المقفع: "عوّد نفسك السخاء، واعلم أنه سخاءان: سخاوة نفس الرجل بما في يديه، وسخاوته عما في أيدي الناس. وسخاوة نفس الرجل بما في يديه أكثرهما وأقربهما من أن تدخل في باب المفاخرة. وتركه ما في أيدي الناس أمحض في التكرم، وأبرأ من الدنس. فإن هو جمعهما، فبذل، وعف فقد استكمل الجود والتكرم"[38].

قال ابن القيم رحمه الله: "فلسان القدر يقول للفقير الجواد: وإن لم أعطك ما تجود به على الناس فجد عليهم بزهدك في أموالهم، وما في أيديهم - تفضل عليهم، وتزاحمهم في الجود، وتنفر عنهم بالراحة"[39].

ق- وأروع مافي السخاء سخاء المرء بنفسه، وأجمل ما في ذلك ما كان في سبيل الله.

هذا وقد مر الحديث عن هذا النوع فيما سبق.

قال أبو فراس:
ويدعى كريمًا من يجود بماله *** ومن يبذل النفس الكريمة أكرم[40]

تفاضل الناس بالسخاء[41]:

يتفاضل الناس بالسخاء على قدر هممهم، وإليك تفصيل ذلك:

أ- يتفاضلون من جهة حال الإنفاق؛ فالذي ينفق في السر أكمل في السخاء من الذي لا ينفق إلا في العلانية، قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة من الآية:271].

ب- ويتفاضلون من جهة استصغار ما ينفق واستعظامه؛ فالذي ينفق في الخير، وينسى أو يتناسى أنه أنفق - هو أسخى ممن ينفق ثم لا يزال يذكر ما أنفق، ولا سيما ذكرهفي معرض الامتنان.

ج- ويتفاضلون في جهة السرعة إلى البذل، والتباطؤ عنه؛ فمن يبذل المال لذوي الحاجة لمجرد ما يشعر بحاجتهم - يفضل من لا يبذل المال إلا بعد أن يسألوه.

د- ومن يقصد بالبذل موضع الحاجة -عرفه أو لم يعرفه- يكون أسخى ممن يخص بالنوال من يعرفهم ويعرفونه.

"أعطى رجل امرأة سألته مالًا عظيماص، فلاموه، وقالوا: إنها لا تعرفك، وإنما كان يرضيها اليسير. فقال: إن كانت ترضى باليسير فإني لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي"[42].

هـ- ومن يعطي عن ارتياح وتلذذ بالعطاء يعد أسخى ممن يحسن وفي نفسه حرج.

قال زهير بن أبي سلمى يمدح حصن بن حذيفة بن بدر:
تراه إذا ما جئته متهللًا *** كأنك تعطيه الذي أنت سائله[43]

وقال بشار بن برد يمدح عقبة بن سلم:
ليس يعطيك للرِّجاءِ ولا الخوفِ *** ولَكِنْ يَلَذُّ طَعْمَ العَطَاء
لاَ وَلاَ أَنْ يُقَالَ شيمتُه الجودُ *** ولَكِنْ طَبَائِعُ الآبَاءِ[44]

و- ومن علامات رسوخ الرجل في السخاء ألا يجعل بينه وبين طالبي العرف حجابًا غليظًا.

ز- ومن علامات رسوخ الرجل في السخاء أن يلاقي خدمه الزائرين والمستجدين بأدب جميل، وأن يستقبلهم بالبشر والترحاب؛ حتى يحفظ عليهم عزتهم.

قال ابن هرمة يمدح رجلًا:
هش إذا نزل الوفود ببابه *** سهل الحجاب مؤدب الخدام[45]

ح- وأبلغ ما يدلك على أصالة الرجل أن يرق عطفه، حتى يبسط إحسانه إلى ذي الحاجة وإن كان من أعدائه؛ فذلك من كبر النفس، ومن ضروب الأنفة والعزة.

قال أحدهم:
وأمنحه مالي وودي ونصرتي *** وإن كان محنيّ الضلوع على بغضي

"حكي عن مصعب بن الزبير أنه لما ولي العراق جلس يومًا لعطاء الجند، وأمر مناديه فنادى: أين عمرو بن جرموز -وهو الذي قتل أباه الزبير- فقيل له: إنه قد تباعد في الأرض. فقال: أيظن الجاهل أني أقيده بأبي عبد الله -يعني والده الزبير-؟ فليظهر آمنًا؛ ليأخذ عطاءه موفرًا! فعد الناس ذلك من مستحسن الكبر"[46].

ط- ومن علامات الرسوخ في السخاء أن يتألم المرء، وأن يتأسف أشد الأسف إذا سئل شيئًا وهو غير واجدٍ له.

قال الشافعي رحمه الله:
يا لهف نفسي على مال أفرقه *** إن اعتذاري لمن قد جاء يسألني
على المقلين من أهل المروءات *** ما ليس عندي لمن إحدى المصيبات[47]

قال سفيان بن عيينة رحمه الله: "كان سعيد بن العاص إذا أتاه سائل فلم يك عنده ما سأل قال: اكتب علي بمسألتك سجلًا إلى يوم يسري"[48].

ي- ومن الأسخياء من تسمو به الحال، فيرى أن الفضل والمنة إنما هي لمن جاءه يستجديه؛ حيث تكرم عليه، وأحسن الظن به، فهذا من غرائب السخاء.

فهذا حبر الأمة، وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول: "ثلاثة لا أكافئهم: رجل بدأني بالسلام، ورجل وسع لي في المجلس، ورجل اغبرّت قدماه في المشي إليّ؛ إرادة التسليم عليّ، أما الرابع فلا يكافئه عني إلا الله عز وجل. قيل: من هو؟ قال: رجل نزل به أمر، فبات ليلته يفكر بمن ينزله، ثم رآني أهلًا لحاجته فأنزلها بي"[49].

ويُنسَب له رضي الله عنه أبيات جميلة في هذا المعنى يقول فيها:

إذا طارقات الهم ضاجعت الفتى *** وباكرني في حاجة لم يجد بها
رجت بما لي همه من مقامه *** وكان له فضل عليّ بظنه

وأعلم فكر الليل والليل عاكر *** سواي ولا من نكبة الدهر ناصر
وزايله هم طروق مسامر *** بي الخير إني للذي ظن شاكر[50]

ك- وأرفع درجات السخاء أن يكون الرجل في حاجة ملحة إلى ما عنده، فيدع حاجته، ويصرف ما عنده في وجوه الخير، وذلك ما يسمى بالإيثار.

قال تعالى في معرض الثناء على الأنصار رضي الله عنهم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر من الآية:9].

وقال تعالى في معرض الثناء على عباده المؤمنين: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا . إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:8-9].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ثم أخبر عنهم بإطعام الطعام على محبتهم له، وذلك يدل على نفاسته عندهم، وحاجتهم إليه.

وما كان كذلك فالنفوس به أشح، والقلوب به أعلق، واليد له أمسك. فإذا بذلوه في هذه الحال فهم لما سواه من حقوق العباد أبذل"[51].

قال دعبل الخزاعي:
وليس الفتى المعطي على اليسر وحده *** ولكنه المعطي على العسر واليسر[52]

وقال بعض الشعراء:
ليس جود الفتيان من فضل مال ***إنما الجود للمقل المواسي[53]

فإذا كان السخاء بتلك المثابة فما أجدر العاقل أن يأخذ نفسه به، وأن يجاهدها على اكتاسبه.

وإذا كان من أعظم الأسباب لعلو الهمم وسيادة الأمم - فما أحرانا أن نربي نشأنا على هذا الخلق العظيم، وأن نلقنهم أنه مرقاة السيادة والفلاح.

كما كان فرضًا علينا أن ننذرهم سوء المنقلب الذي ينقلب إليه البخلاء والمبذرون.

فإذا نحن فعلنا هذا أخرجنا للناس أمة تسمو أن تنحدر في تلك المدنية الهازلة المرذولة، ولا يجد خصومها لقهرها أو سلب حق من حقوقها طريقًا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع والهوامش:

[1]- (ديوان المتنبي: [4/141]).

[2]- (شعر الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم، دراسة وتحقيق: د. سعود عبد الجابر، ص: [92]).

[3]- (وحي القلم: [3/14]).

[4]- (انظر: الهداية الإسلامية، ص: [84-89]).

[5]- (انظر: الهداية الإسلامية، ص: [89-92]).

[6]- (عيون الأخبار: [1/340]).

[7]- (المفضليات، ص: [294]).

[8]- (ديوان حسان بن ثابت، ص: [192]).

[9]- (ديوان الشافعي، ص: [34]، تحقيق: الزعبي).

[10]- (أحسن ما سمعت للثعالبي، ص: [130]).

[11]- (ديوان الأخطل، ص: [166]).

[12]- (الخِير: الشرف).

[13]- (الورع: المتحرج، الدثور: الخامل النؤوم).

[14]- (المفضليات، ص: [410]).

[15]- (اتحاف النبلاء بأخبار وأشعار الكرماء والبخلاء؛ لابن المبرد الحنبلي، تحقيق: يسري البشري، ص: [60]).

[16]- (روضة العقلاء، ص: [235]).

[17]- (ديوان الشافعي، ص: [16]، تحقيق: الزعبي).

[18]- (كتاب الصناعتين؛ لأبي هلال العسكري، ص: [22]).

[19]- (الهداية الإسلامية، ص: [91]).

[20]- (انظر: مدارج السالكين: [2/ 279-282]، والهداية الإسلامية: [84-89]).

[21]- (مدارج السالكين: [2/278]).

[22]- (عيون الأخبار: [4/175]).

[23]- (عيون الأخبار: [4/174]).

[24]- (ديوان الشافعي؛ تحقيق: خفاجي، ص: [83]).

[25]- (أخرجه البخاري: [2/118]، ومسلم: [2627] عن أبي موسى الأشعري رصي الله عنه).

[26]- (ديوان الشافعي؛ تحقيق: الزعبي، ص: [21]).

[27]- (مدارج الاسلكين: [2/279]).

[28]- (رواه مسلم في صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى، [720]).

[29]- (هو محمد بن عبيد بن حساب).

[30]- (أخرجه أبو داود: [4886]، والعقيلي في الضعفاء: [4/180]، وابن السني في عمل اليوم والليلة: [65]، والخطيب البغدادي في موضح أوهام الجمع والتفريق: [1/ 35-36] كلهم عن أنس رضي الله عنه، وضعفه العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: [3/163]، وكذلك الألباني في إرواء الغليل: [8/32]، ولكن له شاهد عند أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه ابن بشكوال في كتابه الغوامض والمبهمات: [449]، ونصّه: "أن رجلًا من المسلمين قال: اللهم إنه ليس لي مال أتصدق به، فأيم: رجل من المسلمين أصاب من عرضي شيئًا -فهو له صدقة، فأوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد غفر له" قال عنه ابن حجر في الإصابة [2/500]: "صحيح).

[31]- (بهجة المجالس: [2/436]).

[32]- (ديوان الإمام علي، ص: [106]. وانظر: سوء الخلق.. مظاهره، أسبابه، علاجه للكاتب، ص: [103-116]).

[33]- (انظر: سوء الخلق، ص: [91-90]، و[101-102]).

[34]- (روضة العقلاء، ص: [75]).

[35]- (بهجة المجالس: [2/665]).

[36]- (بهجة المجالس: [2/598]).

[37]- (تفسير ابن سعدي: [2/283]).

[38]- (الأدب الصغير والأدب الكبير، ص: [144]).

[39]- (مدارج السالكين: [2/282]).

[40]- (ديوان أبي فراس، ص: [62]).

[41]- (انظر: الهداية الإسلامية، ص: [86-89]).

[42]- (عيون الأخبار: [1/337]).

[43]- (ديوان زهير بن أبي سلمى، ص: [52]).

[44]- (ديوان شعر بن برد؛ السيد بدر، ص: [14].

[45]- (عيون الأخبار: [1/89]).

[46]- (أدب الدنيا والدين، ص: [253]).

[47]- (ديوان الشافعي؛ تحقيق: الزعبي، ص: [28]).

[48]- (عيون الأخبار: [1/370]).

[49]- (عيون الأخبار: [4/176]).

[50]- (العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده؛ لابن رشيق القيرواني: [1/37]).

[51]- (جامع الرسائل؛ لابن تيمية، ص: [1/72]).

[52]- (عيون الأخبار: [1/344]).

[53]- (عيون الأخبار: [1/344]).

 

المصدر: كتاب: الهمة العالية

محمد بن إبراهيم الحمد

دكتور مشارك في قسم العقيدة - جامعة القصيم

المقال السابق
(23) أسباب اكتساب الهمة العالية (6)
المقال التالي
(25) أسباب اكتساب الهمة العالية (8)