الله، الوحي، الدار الآخرة، منظور عقلي
حيث أننا لا نستطيع تحديد التفاصيل الدقيقة لهذا العالم الكامل، وإنما نستطيع فقط معرفة وجوده، ومعرفة معالمه الرئيسية.
- تأمل وتفكير
نظرت للعالم حولي فوجدته يعتريه النقص في أحوال، ووجدت من هذه الأحوال أحوالًا فيزيائية؛ مثل التي يصفها القانون الثاني للديناميكا الحرارية؛ (قانون زيادة الانتروبي أو الفوضى، يصف هذا القانون حالة تبدد الطاقة في النظام المعزول لتنتقل من الصورة المنظمة إلى الصورة الفوضوية، وبالنظر إلى الكون كنظامٍ معزولٍ حراريًا، فإننا نرى أنه مليء بالشموس والنجوم الساخنة، وأيضًا مليء بالكواكب الباردة، والفضاء الخالي البارد، وهذه الصورة التي نراها الآن هي في الواقع صورة منظمة، فكل شيء في الكون حاليًا يؤدي دوره، وذلك لأنه منظمٌ إلى درجة كبيرة.
ولكننا نرى هذا النظام ينهدم، فيحدث تبدد مستمر للطاقة من النجوم الساخنة، و ميل الكون إلى أن يصل إلى توزيع متساوٍ في درجات الحرارة، وهذا ما يُعرف علميًا بالموت الحراري، لأن الكون حينئذ يصل إلى السكون، حيث لا يوجد ما يحفز على الحركة، فالاختلاف دائمًا يحفز على الحركة، والسؤال هنا: أليس الإنسان يعد الموت نقصًا؟ والإجابة: بلى؛ إذن فهو يرى هذا العالم ناقصًا؛ لأنه يموت فيزيائيًا مثل الإنسان في نهاية أمره.
أخذت أفكر في الكون ونقصه فقطع حبل تفكيري منظرٌ لطفل مُعاق يسير على عكازين في الحديقة المجاورة للمنزل، وسألت نفسي: ما هذا؟ أليس هذا نقصًا آخر ولكن في عالم البشر هذه المرة؟ إن العالم فيه من المرضى الكثير، بل إن كل البشر يموتون في النهاية، نعم إنه في المقابل يولد للحياة مواليد أكثر من الوفيات، هذا حقيقي في الوقت الحالي، ولكننا نعلم أن الجنس البشري كله متجهٌ إلى الهاوية بما سببه بعقله الناقص، الذي هو جزء من مظاهر النقص العديدة في الإنسان، من اختلال -والاختلال نقص- في توازن البيئة المهم للحياة.
حدثت نفسي فقلت: "مالي أرى الصورة قاتمة؟" أليس من شيء كامل في هذا الكون؟ استغرقت في التأمل زمنًا ليس بالطويل، فكانت المفاجأة!
لقد وجدت نموذج للكمال ما أروعه، ومن اللطيف أنه مختبيء داخل النقص الذي رأيته لتوي، إن سير الكون على القانون الثاني للديناميكا الحرارية بدقة بالغة -لا يحيد عنه أبدًا- هو نوعٌ من الكمال!
وقوانين الطبيعة كثيرة وقانون زيادة الأنتروبيا ليس إلا مثالًا واحدًا منها.
إن هذه القوانين متناسقة تمامًا مع بعضها في نظامل قانوني كامل، والكون يسير طبقًا لهذا النظام الكامل، حتى وإن قاده ذلك السير إلى نقصٍ في صورة فناء.
وعدت إلى صورة الطفل المعوق فإذا بي أنظر له من زاويةٍ أخرى، فهذه الإعاقة ما كانت لولا أن جسد الطفل سار بدقةٍ شديدة على شفرته الوراثية التي تكمن فيها الإعاقة ذاتها، فجسد الطفل سار بكمالٍ تام وفق أوامر ثابتة نابعة من شفرته الوراثية؛ تلك الشفرة المتناسقة داخليًا تناسقًا تامًا كاملًا، كبرنامج كمبيوتر متناسق تمامًا، وذلك بالرغم أن هذه الأوامر نفسها قادته إلى النقص.
بدا الأمر وكأن الصورة تنجلي لي شيئًا فشيئًا، إن ملخص تأملي في الكون والحياة هو: إن العالم ناقص، إلا أن هذا النقص يحمل كمالات بداخله، ما أعجب هذه العبارة.
- وجود الله:
أخذت أحلل هذه العبارة فلسفيًا، ما لي أرى كمالات في هذا العالم تحتل ثنايا النقص فيه؟! إن هناك ومضة فكرية أضاءت عقلي لوهلة، إنها تبدو لي كأنها بصمات كيان كامل تركها لنا نحن البشر، وسط هذا النقص لنعلم بوجود هذا الكيان، نعم نعم، إن هذا الكيان الكامل هو الله تعالى خالق هذا العالم.
سبحانك يا رب إن اسمك (الظاهر) حقٌ، فأنت تظهر من خلال آثار كمالك، المتمثلة في دقة وكمال قوانينك، التي وضعتها للكون كي يسير عليها، وقد أجبرت الكون أن يسير عليها بكمالٍ تام، وإلا من ذا الذي يستطيع أن يدعي أن الكون يسير على نظام دقيق وهو ليس حي وليس له إرادة؟! لا بد وأن كيان عظيم كامل -ذلك لأن خالق الكمال لا يكون إلا كاملًا- غير خاضع لقوانين الطبيعة التي وضعها يسيره بهذه الدقة.
- وجود الوحي:
ولكن كما أن لله تعالى بصمات كمالٍ ظهرت على خلقه الذي ليس له حرية إرادة -كل شيء عدا الإنسان- وهي سير مكونات الكون على قوانين الطبيعة بكمال تام، وحيث أن الله كاملٌ يحب الكمال، ولا يرضى النقص لطريقة حياة خلقه الواعين (الإنس)، كما أنه لم يرضه لمكونات الكون الأخرى، فإنه ولا بد وأن يرسل للبشر قوانين وأسس حياة كاملة، بحيث إذا ساروا عليها طوعًا بحرية إرادتهم يكونون محسنين طائعين لربهم، وتكون حياتهم كاملةً متناغمين مع باقي الكون الطائع لربه، أما إذا أهملوها طوعًا بحرية إرادتهم؛ يكونون ظالمين لأنفسهم، عاصين لربهم، وتكون حياتهم ناقصةً، شاذين عن باقي الكون الطائع لربه.
- وجود الدار الآخرة:
جلست متفكرًا، فإذا بي ألحظ ملاحظةً عجيبة، ما أدرانا أصلًا أن العالم يعتريه نقص! إننا عندما نرى تفاحةً مأكول بعضها نستطيع تمييز نقص التفاحة، ولكن لماذا؟ لأننا ببساطة نعرف التفاحة الكاملة، رأيناها من قبل، فقارنا التفاحتين فأدركنا نقص الناقصة.
لقد وجدتها، لا بد وأن هناك صورة ما لعالم آخر كاملٍ في عقولنا الباطنة، عالم خالد! عالم غير قابلٍ للاختلالات البيئية، عالم به عقابٌ لمن ينتقلون للعيش فيه، وقد طبع عليهم كلمة (ظالمون)، وأيضًا عالمٌ به ثواب ونعيم كامل لمن ينتقلون للعيش فيه، وقد طبع عليهم كلمة (محسنون).
ولكن من أين أتت تلك الصورة إلى عقولنا الباطنة؟! لا بد وأننا رأيناه (علمناه) ككل دون تفاصيل دقيقة، حيث أننا لا نستطيع تحديد التفاصيل الدقيقة لهذا العالم الكامل، وإنما نستطيع فقط معرفة وجوده، ومعرفة معالمه الرئيسية.
المثير للتساؤل هنا هو؛ أننا لم نر شيئًا كهذا في الدنيا، الاحتمال الوحيد في رأينا هو أن الله الذي خلقنا أشهدنا عليه بصورة كلية قبل وصولنا إلى هذه الحياة، وذلك لنستنبط وجوده من مشاهدتنا لعالمنا الحالي والتفكر في نقصه كما تقدم بيانه.
والله أعلم.
سبحانك اللهم و بحمدك، أشهد ألا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك.
أحمد كمال قاسم
كاتب إسلامي