أَعُلماء عَلمانيون؟! - (11) هل الأمة الآن أمية؟

منذ 2015-01-18

نحن نُسَلِّم بأن النبي صلى الله عليه وسلم أميّ، ونسلم بإخباره على الأمة بأنها أمية، نعم، لكن على مراد الله تعالى، وعلى مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا على فقه غير المعصومين، فما مراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه الأميَّة؟

هل هذه الأمة أمية؟!

أبا محمد! كيف تطرح هذا السؤال؛ وأنت تقرأ وتكتب حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا» (متفق عليه)، وتقرأ الايات؟!

والجواب: نحن نُسَلِّم بأن النبي صلى الله عليه وسلم أميّ، ونسلم بإخباره عن الأمة بأنها أمية، نعم، لكن على مراد الله تعالى، وعلى مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا على فقه غير المعصومين، فما مراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه الأميَّة؟

فهل هذه الأمية وصفُ حالٍ كان قبلاً وزال بما أنزل الله من علم؟

أو هو وصفُ حال كان واستمر؟

أَم هو مدح مطلوب تَحقُّقه؟!

أهي أُمِّيَّةٌ عامة، أم خاصة؟

الأمُّيَّة ليست مطلوبةً وقد زالت

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "«إنا أمة أمية» ليس هو طلبًا؛ فإنهم أميون قبل الشريعة كما قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ} وقال: "{وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ}، فإذا كانت هذه صفة ثابتة لهم قبل المبعث لم يكونوا مأمورين بابتدائها. نعم قد يؤمرون بالبقاء على بعض أحكامها فإنا سنبين أنهم لم يؤمروا أن يبقوا على ما كانوا عليه مطلقًا" (مجموع الفتاوى: [25/ 166-167]).

 وقال أيضًا: "فالأمة التي بُعث فيها النبي صلى الله عليه وسلم أولاً هم العرب وبواسطتهم حصلت الدعوة لسائر الأمم؛ لأنه إنما بعث بلسانهم فكانوا أميين عامة ليست فيهم مزية علم ولا كتاب ولا غيره مع كون فطرهم كانت مستعدة للعلم أكمل من استعداد سائر الأمم. بمنزلة أرض الحرث القابلة للزرع؛ لكن ليس لها من يقوم عليها فلم يكن لهم كتاب يقرؤونه منزل من عند الله كما لأهل الكتاب ولا علوم قياسية مستنبطة كما للصابئة ونحوهم. وكان الخط فيهم قليلاً جدًّا، وكان لهم من العلم ما يُنال بالفطرة التي لا يخرج بها الإنسان عن الأُمُوَّة العامة. كالعلم بالصانع سبحانه وتعظيم مكارم الأخلاق وعلم الأنواء. والأنساب والشعر. فاستحقوا اسم الأمية من كل وجه. كما قال فيهم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة:2] وقال تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} [آل عمران:20] فجعل الأميين مقابلين لأهل الكتاب. فالكتابي غير الأمي. فلما بُعث فيهم ووجب عليهم اتباع ما جاء به من الكتاب وتدبره وعقله والعمل به -وقد جعله تفصيلًا لكل شيء وعلمهم نبيهم كل شيء حتى الخراءة- صاروا أهل كتاب وعلم. بل صاروا أعلم الخلق وأفضلهم في العلوم النافعة وزالت عنهم الأمية المذمومة الناقصة وهي عدم العلم والكتاب المنزل إلى أن علموا الكتاب والحكمة وأورثوا الكتاب" (انظر:  مجموع الفتاوي: 25/ 167-169).

و يقول ابن خلدون: "ثم إن الصحابة كلهم لم يكونوا أهل فُتيا، ولا كان يؤخذ عن جميعهم وإنما كان ذلك للحاملين للقرآن، العارفين بناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه، وسائر دلالاته مما تلقوه من النبي وممن سمعه منه من عليتهم، وكانوا يُسَمَّوْنَ لذلك القراء، أي: الذين يقرءون الكتاب؛ لأن العرب كانوا أمة أمية، فاختص من كان منهم قارئا للكتاب بهذا الاسم لغرابته يومئذ، وبقي الأمر كذلك صدر الملة، ثم عظمت الأمصار وذهبت الأمية من العرب بممارسة الكتاب وتمكن الاستنباط وكمل الفقه وأصبح صناعةً وعلماً، فبدلوا باسم الفقهاء والعلماء من القراء" (تاريخ ابن خلدون: [1/ 563- 564]).

وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: "أما وصف الأمة بالأمية فليس المقصود منه ترغيبهم في البقاء عليها وإنما المقصود الإِخبار عن واقعهم وحالهم حين بعث الله إليهم محمداً صلى الله عليه وسلم وقد دل الكتاب والسنة على الترغيب في التعلم والكتابة والخروج من وصف الأمية فقال الله سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَاب} [الزمر:9]  وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:11]، وقال سبحانه: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقا إلى الجنة» (رواه الإِمام مسلم في صحيحه). وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» (متفق على صحته)، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وبالله التوفيق .

فلاحظ كيف يُقيِّد العلماء "الأمية" بما ورد فيه نصُّها، وكيف أنها في الأساس هي "عدم العلم"، وقد زالت أمية هذه الأمة بما أنزل الله عليها من علم؛ فكيف يكون من مفاخرها -أو من مكبِّلاتها- أنها أمة "أمية" لا تعلم حتى ما يدور حولها من أفعال الناس وتصرفاتهم على الأرض وبين ظهرانيها، ومما يسمى بفقه الواقع؟!

بل حتى في الآية التي تصف الأمة بالأميين، فيها إشارة واضحة إلى أن مصير هذه الأمية إلى زوال، فتدبَّر قولَه تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2]، فوظيفة الرسول أن يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وذلك هو زوال الأمّيّة عن هذه الأمة.

نعم هي أمية فيما ينبغي لها أن تكون كذلك، كالأمر الذي ورد فيه الحديث من علم التنجيم ونحوه، وينبغي لها أن تكون أعلم أهل الأرض في كل ما كان من شأن الخواص، فهي الأمة المهيَّئة للخيرية في كل شيء.

الأمِّية معجزة للنبي منقصة في غيره

لقد وُصِف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أميّ، ونحن نؤمن أنه أميّ، لكنَّ أُمِّيَّته ليست أكثر من أنها على الفطرة، وأنه لا يكتب بيده ولا يقرأ الخط، لكنه أعلم الناس على الإطلاق وأقرأ البشر، بما علمه ربُّنا سبحانه.

أما ترى أن هذا النبي الأمي يحدِّث الناس عن دقائق العلوم التي يحار فيها المتخصصون، من علوم الأجنة والأفلاك وأعماق البحار وأعالي الأفلاك، والطبّ وغيرها مما حواه القرآن الكريم والسنة النبوية من معجزات؟! ولم يكتشفه أهل الاختصاص إلى بعد القرون المُقرَّنة؟

قال شيخ الإسلام: "كذلك إذا وُصف صلى الله عليه وسلم بأنه أمي كما وصفه الله بذلك، فهي مدحة له وفضيلة ثابتة فيه وقاعدة معجزته، إذ معجزته العظيمة في القرآن العظيم إنما هي متعلقة بطريق المعارف والعلوم مع ما مُنح صلى الله عليه وسلم وفُضِّل به من ذلك كما قدمناه في القسم الأول. ووجود مثل ذلك من رجل لم يقرأ ولم يكتب ولم يدارس ولا لُقّن مقتضى العجب ومنتهى العبر ومعجزة البشر. وليس في ذلك نقيصة إذ المطلوب من القراءة والكتابة المعرفة، وإنما هي آلة لها وواسطة موصلة إليها غير مرادة في نفسها، فإذا حصلت الثمرة والمطلوب استغنى عن  الواسطة والسبب؛ والأمية في غيره نقيصة لأنها سبب الجهالة وعنوان الغباوة" [1].

أهذا شأن الأمي الذي لا يعلم؟! حاشا أن يكون نبيُّا أميًّا لا يعلم... وإنما هو أُمِّيٌّ فطريٌّ لا يكتب بيده ولا يقرأ الخط، وثمَّ مَكمن الإعجاز الرباني! وهي التي زلَّ فيها أقوام، ولم ينتبهوا إلى الفرق، حتى قال بعضهم: "نحن أمة أمية" وعلوم الآلة من أصول فقه وقواعده ونحو ذلك علوم دقائق، لا يجوز أن نتعلمها أو نشتغل بها!

أمتنا تقرأ وتحفظ ولو لم تحسب وتكتب

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فأمتنا ليست مثل أهل الكتاب الذين لا يحفظون كتبهم في قلوبهم بل لو عدمت المصاحف كلها كان القرآن محفوظاً في قلوب الأمة، وبهذا الاعتبار فالمسلمون أمة أمية بعد نزول القرآن وحفظه. كما في الصحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا». فلم يقل إنا لا نقرأ كتاباً ولا نحفظ، بل قال «لا نكتب ولا نحسب»؛ فديننا لا يحتاج أن يكتب ويحسب كما عليه أهل الكتاب من أنهم يعلمون مواقيت صومهم وفطرهم بكتاب وحساب ودينهم معلق بالكتب لو عدمت لم يعرفوا دينهم" (مجموع الفتاوي، [17/ 436]).

وهي فعلاً علوم دقائق، ولو طبَّقنا عليها قاعدة "علوم الخواص" امتنع تناولها والأخذ بها، ولكن الأمر ليس كذلك.

فلا يصح -إذن- أن نتهم الشريعة بأنها لا تفقه الواقع السياسي، ولا أن علماءها لا يشترط لهم فقه الواقع السياسي أو أنهم عاجزون عن فهم الواقع و إخضاعه لحكم الشرع، وتنزيل  حكم الشارع عليه،ثم نترك الفاسدين يعيثون في سياسة الأمة بأفكارهم العَلمانية، ثم إذا خرج عالم شرعي عن هذا التأصيل الخاطئ، ويحاول أن يوجه بوصلة السياسة وجهة شرعية، ويحاول أن يفقه الواقع ليحمله على الشرع، قام (شرعيون) آخرون فألجموه بفقه تجهيل الأمة وأمية الشريعة، فيتعلمن الواقع السياسي بتأصيلات هي هي الأُمِّية!

وفي المقال التالي نتكلم عن القاعدة الشاطية في (أميّة الشريعة) والتي اعتُمِدت أساسًا لهذا الموضوع، وستتفاجأ بما تشتمل عليه من خطأ في التأصيل وخطأ في المآل.

ويتبع إن شاء الله تعالى

ــــــــــــــــــــ

(1)- ابن تيمية، الإخنائية (الرد على الإخنائي)، تحقيق أحمد بن مونس العنزي، دار الخراز، جدة، ط1، 1420هـ / 2000م، ص: 226.

 

يمكن مراجعة المقالات السابقة: أَعُلماء عَلمانيون؟! (10): لا فقه واقع ولا فقه حديث!

                                   أَعلماء عَلمانيون؟! (9): أمية الأمة وفقه الواقع

                                    أَعَلمانيون؟! (8): فقه الواقع ليس فقه الخواص

                                  أَعُلماء عَلمانيون؟! (7): فقه الشرع ليس فقها للواقع

                                أعلماء عَلمانيون؟! (6): فقيه بالشرع ليس فقيه بالواقع

تاريخ النشر: 27 ربيع الأول 1436 (18‏/1‏/2015)

أبو محمد بن عبد الله

باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.

المقال السابق
(10) لا فقه واقع ولا فقه سُنة
المقال التالي
(12) القاعدة الشاطبية وأمِّيَّة الشريعة