الهجوم على السنة نشأته وتطوره (3-3)

منذ 2015-01-16

وقد ضل هؤلاء برفضهم السنة، ووقعوا في أخطاء جسيمة، ومن ذلك: أنهم كفروا المسلمين بالذنوب والسيئات، واستحلوا دماءهم وأموالهم، وجعلوا دار المسلمين دار حرب، ودارهم دار الإيمان.

وخطورة فرقة الخوارج -أول الفرق ظهورًا في الإسلام- أنها ترد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بوقاحة وجرأة، وتخالف ما جاء به، وهذا يتناقض مع ما يزعمونه من أنهم يؤمنون به رسولاً لرب العالمين، فالإيمان به رسولا يلزم طاعته، ولهذا لما قال أولهم للرسول صلى الله عليه وسلم: "اعدل، فإنك لم تعدل"، كان قوله هذا تجويزًا منه أن يخون ويظلم، فبما ائتمنه الله عليه من الأموال! فكيف يستقيم هذا مع ادعاء هذا القائل أنه يؤمن به رسولا لرب العالمين!! ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأمثال هذا الرجل: «أيأمنني من في السماء ولا تأمنوني».

وقد كذب هؤلاء بالسنن الثابتة المتواترة، زاعمين أنها تخالف القرآن، فمن ذلك تكذيبهم بحكم الرجم، وتكذيبهم بالنصاب الذي يقطع فيه السارق، فيزعمون أن الزاني المحصن يجلد ولا يرجم، وأن السارق تقطع يده في القليل والكثير.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فهم لا يرون اتباع السنة التي يظنون أنها تخالف القرآن، كالرجم، ونصاب السرقة، وغير ذلك فضلوا"(1)، وهذا الرد للسنة ليس بسبب تكذيبهم بصحة النقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه رد لقول الرسول صلى الله عليه وسلم.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك: "والخوارج جوزوا على الرسول نفسه أن يجور ويضل في سنته، ولم يوجبوا طاعته ومتابعته، وإنما صدقوه فيما بلغه من القرآن دون ما شرعه من السنة التي تخالف بزعمهم ظاهر القرآن"(2).

وقد كان من أتى بعدهم من نفاة السنة أشد دهاء منهم، فلم يصرحوا كما صرح هؤلاء برد السنة، ولكنهم أخذوا يحتالون لذلك بشتى الحيل. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وغالب أهل البدع غير الخوارج يتابعونهم على هذا، فإنهم يرون: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو قال بخلاف مقالتهم لما اتبعوه، كما يحكي عمرو بن عبيد في حديث الصادق المصدوق، وإنما يدفعون عن أنفسهم التهمة إما: برد النقل، وإما: بتأويل المنقول، فيطعنون تارة في الإسناد، وتارة في المتن، وإلا فهم ليسوا متبعين، ولا مؤتمين بحقيقة السنة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، بل ولا بحقيقة القرآن"(3).

وقد ضل هؤلاء برفضهم السنة، ووقعوا في أخطاء جسيمة، ومن ذلك: أنهم كفروا المسلمين بالذنوب والسيئات، واستحلوا دماءهم وأموالهم، وجعلوا دار المسلمين دار حرب، ودارهم دار الإيمان، والسبب في ذلك كما يقول شيخ الإسلام هو: "خروجهم عن السنة، وجعلهم ما ليس بسيئة سيئة، وما ليس بحسنة حسنة... وهذا تشترك فيه البدع المخالفة للسنة، فقائلها لا بد أن يثبت ما نفته السنة، وينفي ما أثبتته السنة، ويحسن ما قبحته، أو يحسن ما قبحت، وهذا القدر قد يقع من بعض أهل العلم خطأ في بعض المسائل، لكن أهل البدع يخالفون السنة الظاهرة المروية"(4).

وقد واجه الصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان هذه الفرقة وأمثالها من أهل البدع، فأنكروا عليهم بدعهم، وحذروا الناس منهم.

فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها، واستحيوا حين سُئِلوا أن يقولوا: لا نعلم، فعارضوا السنن برأيهم، فإياكم وإياهم"(5).

وعن أبي قلابة قال: "لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة، أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم"(6).

وعن الحسن البصري أنه قال: "لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، ولا تسمعوا منهم"(7).

 ثم قيض الله عز وجل في كل عصر من العصور من يقف لهذه الفرق الضالة وأقوالها بالمرصاد، ويواجه ظلماتها بنور الحق، وهؤلاء هم حملة السنة، وقد وعوا عن الله وعن رسوله ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله، واستناروا بمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في كشفهم للضلال والشبهات، وكلما زاد أهل الضلال في عنادهم وتعسفوا في رد الحق، كلما توسع أهل الحق في الرد عليهم وبيان باطلهم.

يقول ابن المديني رحمه الله في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق... "هم أهل الحديث، والذين يتعاهدون مذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذودون عن العلم، لولاهم لأهلك الناس المعتزلة والرافضة والجهمية، وأهل الإرجاء والرأي"(8).

مناظرة الإمام الشافعي (204 هـ) للرافضين للسنة:

أول من عرف عنه أنه ناظر الرافضين للسنة، وأطال في حجاجهم والرد عليهم، هو الإمام الشافعي رحمه الله فقد ذكر في كتابه (الأم) في (كتاب جماع العلم، باب حكاية قول الطائفة التي ردت الأخبار كلها)، وقد ذكر الشافعي هناك محاورة، جرت بينه وبين واحد من هذه الفرقة (ينسب إلي العلم بمذهب أصحابه).

وملخص حجة من يرد الأخبار كلها كما حكاه الشافعي عنهم: أن القرآن جاء تبيانًا لكل شيء، فإن جاءت الأحاديث بأحكام جديدة لم تكن في القرآن كان ذلك معارضة من ظني الثبوت: وهي الأحاديث، لقطعي الثبوت: وهو القرآن، والظني لا يقوى على معارضة القطعي، والسنة إن جاءت مؤكدة لحكم القرآن، كان الاتباع للقرآن لا للسنة، وإن جاءت لبيان ما أجمله القرآن، كان ذلك تبيانًا للقطعي الذي يكفر من أنكر حرفًا واحدًا منه بالظني الذي يكفر من أنكر ثبوته، ويلزم على هذا أن يقبلوا الأحاديث إذا كانت متواترة، لأنها تفيد القطع بثبوتها، إلا أنهم لا يسلمون بذلك، بل هي عندهم أيضا ظنية الثبوت، لأنها جاءت من طرق آحادية ظنية، فاحتمال الكذب في روايته قائمًا، ولو كانوا جمعًا عظيمًا"(9).

ويتلخص جواب الإمام الشافعي رحمه الله عن شبه هؤلاء بما يلي:

1 - أن الله أوجب علينا اتباع رسوله، وهذا عام بمن كان في زمنه، وكل ما يأتي بعده، ولا سبيل إلي ذلك لمن لم يشاهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلا عن طريق الأحاديث، فيكون الله قد أمرنا باتباعها وقبولها، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

2 - أنه لا بد من قبول الأحاديث لمعرفة أحكام القرآن نفسه، فإن الناسخ فيه والمنسوخ لا يعرفان إلا بالرجوع إلى السنة.

3 - أن هناك أحكامًا متفقًا عليها بين جميع أهل العلم وطوائف المسلمين قاطبة، حتى الذين ينكرون حجية السنة، وذلك كعدد الصلوات المفروضة، وعدد ركعاتها، ونصاب الزكاة وغيرها، ولم يكن من سبيل لمعرفتها وثبوتها إلا بالسنة.

4 - أن الشرع قد جاء بتخصيص القطعي بظني، كما في الشهادة على القتل والمال، فإن حرمة النفس والمال مقطوع بهما، وقد قبلت فيهما شهادة الاثنين، وهي ظنية بلا جدال.

5 - أن الأخبار وإن كانت تحتمل الخطأ والوهم والكذب، ولكن الاحتمال بعد التثبت، والتأكد من عدالة الراوي، ومقابلة الروايات بروايات أقرانه من المحدثين أصبح أقل من الاحتمال الوارد في الشهادات، خصوصًا إذا عضد الرواية نص من كتاب أو سنة، فإن الاحتمال يكون معدومًا.

6 - ولم يذكر الشافعي رحمه الله تعالى في هذا الموضع جواب قولهم: إن الله أنزل الكتاب تبيانًا لكل شيء، وذكره في مواضع كثيرة من كتابه (الرسالة)، وجوابه: "أن الله لم ينص في الكتاب على كل جزئية من جزئيات الشريعة، وإنما بيّن أصول الشريعة ومصادرها وقواعدها ومبادئها العامة، ومن الأصول التي بينها: وجوب العمل بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالي: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (10).

ومن طالع كتاب (الرسالة) للإمام الشافعي، فإنه يجده قد رد ردودًا مطولة على من رفض الاحتجاج بالسنة، أو الاحتجاج بشيء منها، كالذين رفضوا الاحتجاج بخبر الآحاد(11).

--------------------------

(1) مجموع الفتاوى (13/208).

(2) مجموع الفتاوى (19/73).

(3) مجموع الفتاوى (19/73).

(4) مجموع الفتاوى (19/72).

(5) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2001)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (479).

(6) أخرجه الدرامي (1/120) والآجري في الشريعة ص 56.

(7) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/133).

(8) مفتاح الجنة ص 48.

(9) راجع كتاب الأم (7/250) وانظر: دفاع عن الحديث النبوي ص 101، والأضواء السنية على مذاهب رافضي الاحتجاج بالسنة النبوية ص 24، 25 وما بعدهما .

(10) سورة الحشر/7.

(11) انظر: الأضواء السنية ص 27.