كلمة حق في دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب
كانت له همة عالية، فرأى من الواجب عليه ألا يسكت على هذا الواقع كما سكت الكثيرون.
الحمد لله، لقد بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم والبشرية في جاهلية جهلاء، لم يبق من نور النبوة إلا ما كان عند بعض أهل الكتاب، كما يدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «الفتاوى [18/292]) فمنّ الله سبحانه وتعالى على البشرية ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، قال سبحانه وتعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، وقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] وسعد ببعثته صلى الله عليه وسلم المؤمنون الذين قبلوا دعوته وآمنوا به وبما جاء به، لذا خصهم بهذه المنّة بقوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164].
فأخرج الله سبحانه وتعالى بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم من شاء من عباده من الظلمات إلى النور، كما قال سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: من الآية1].
فبلّغ صلى الله عليه وسلم الرسالة، وأدى الأمانة، وأبان توحيد الله، وأبطل معالم الشرك، وقد أظهر الله دينه على الدين كله، كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]، وقام بدعوته من بعده أصحابه، ففتحوا البلاد بالسيف السنان، وفتحوا القلوب بالحجة والبيان عن السنة والقرآن، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن هذا الدين بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، كما في الحديث الصحيح: « ». قيل: ما الغرباء يا رسول الله؟ قال: « » (السلسلة الصحيحة [1273])، وجاء في الحديث: « » (سنن أبي داود) وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله سبحانه وتعالى.
وقد وقع كما أخبر، فمع ما ابتلي به الإسلام والمسلمون من كيد الأعداء من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين، مع ذلك لم يزل الإسلام قائمًا محفوظًا بحفظ الله، وبما قيض له من الحَمَلة من أهل العلم والإيمان. ومما يصدق ذلك أنه لما وقعت الردة في العرب بموت النبي صلى الله عليه وسلم قيض الله الخليفة الراشد أبا بكر الصديق رضي الله عنه ومعه الصحابة فجاهدوهم حتى رجع من شاء الله له السعادة، وهلك من قضى الله عليه بالشقوة، واستقر أمر الإسلام، وسارت جيوش المسلمين في فتح البلاد شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، وعندما ظهرت الخوارج والرافضة السبئية في عصر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاتل الخوارج بمن معه من الصحابة، وقتل السبئية، فقمع الله به هاتين الطائفتين، مما جعل الله في ذلك ترسيخًا للإسلام وقمعاً للباطل وأهله.
وعندما ظهرت بدعة الجهمية قيض الله لها العلماء والأمراء العادلين فحاربوها، وقتل رأس الجهمية الجهم بن صفوان، ولما قامت الدعوة إلى القول بخلق القرآن في خلافة المأمون أنكرها العلماء، وردوا شبهات المبتدعين وصبروا على الامتحان، وبرز في ذلك الإمام أحمد وابتلي في ذلك بلاء شديدًا، فصبر وأظهره الله على خصومه حتى عرف في الأمة بإمام أهل أسنة.
وبعد أن مرت قرون، مضت القرون الفاضلة وبعدها قرون، ودرس كثير من معالم السنة، قيض الله شيخ الإسلام ابن تيمية، فأحيا السنة، وجلاّها بالأدلة الشرعية والعقلية، وزيّف شبه المبتدعين، ورد على كثير من طوائف الضلال من النصارى والفلاسفة والرافضة والمتكلمين، وله المؤلفات العظيمة في ذلك، مما كان مصدرًا لدعوات التجديد، تجديد دين الإسلام، وفي القرن الثاني عشر في بلاد نجد، وهي منطقة اليمامة، ظهر الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الإمام المجدد، فإنه ولد في سنة خمسة عشر بعد الألف ومائة للهجرة النبوية في بلدة العيينة، من أرض اليمامة، فنشأ بها وحفظ القرآن وتعلم مبادئ العلوم على والده، وتفقه على يد بعض أهل العلم في ناحيته.
بعد ذلك كانت له همة، فرحل إلى الحجاز، مكة والمدينة، ولقي بعض الشيوخ ورحل كذلك إلى العراق، فأفاد ممن لقيه من أهل العلم بالبصرة وغيرها، وقد أنار الله بصيرته، فأدرك أن كثيرًا من المسلمين قد بعدوا عن حقيقة الإسلام، حتى دان كثير منهم بالشرك الصراح، وقبلوا الخرافة وعظم جهلهم بحقيقة التوحيد، وكانت له همة عالية، فرأى من الواجب عليه ألا يسكت على هذا الواقع كما سكت الكثيرون، قصورًا أو تقصيرًا، فلما رجع إلى بلدته بدأ الدعوة هناك، وتبعه على ذلك كثير من طلاب العلم، فتصدى لمقاومة الشرك والخرافة في بلده العيينة وما جاورها، ثم رحل إلى بلدة الدرعية، فصادف من أميرها محمد بن سعود قبولًا لدعوته، ومناصرة، وذلك في الخمسينات من القرن الثاني عشر، فلقيت دعوته بتوفيق الله نجاحًا، وكثر أنصارها، فانتشرت دعوته في منطقة اليمامة، وامتدت إلى نواحي الجزيرة، وكان ذلك بانتشار حملة هذه الدعوة من الأمراء وطلاب العلم والعامة وبما كان يكاتب به رحمه الله النواحي من الرسائل العامة والرسائل الشخصية، فسعدت نجد قبل غيرها بهذه الدعوة وطهرها الله من مظاهر الشرك والخرافة والصوفية والبدع الاعتقادية، وامتدت آثار هذه الدعوة إلى أطراف الجزيرة وإلى سائر الأقطار الإسلامية، فكان الناس أمام هذه الدعوة صنفين:
علماء موفقين عرفوا حقيقتها وعرفوا أنها تجديد لدعوة التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وهو تحقيق معنى (لا إله إلا الله) وتجديد لدعوة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك ببيان حقيقة التوحيد وحقيقة السنة وإزالة ما علق في العقول من شُبَه، أوجبت لكثير من الناس الجهل بحقيقة الشهادتين وما تقتضيانه من إخلاص الدين لله وتجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم.
الصنف الثاني: مناوئون حاربوا هذه الدعوة بما يستطيعون، فمنهم من حمله على ذلك الجهل بحقيقتها، ومنهم من حمله الحسد والتعصب والتقليد الأعمى، فألصقوا بهذه الدعوة التهم، وافترا عليها وعلى من قام بها الكذب، مثل أنهم يبغضون الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يصلون عليه، وهذه فرية ساذجة، تدل على حماقة من تَفَوَّه بها وجهله الفاضح، ومن أعظم ما رمى به الخصومُ الإمامَ رحمه الله أنه يكفِّر المسلمين، وهي فرية كذبها الشيخ رحمه الله في رسائله ومؤلفاته، وقال: نحن لا نكفر إلا من كفره الله ورسوله، وكذلك أحفاده وتلاميذه والمنصفون، بَرَّؤوا الشيخ من هذه الفرية، وبيّنوا حقيقة دعوته، وأنها تقوم على تقرير التوحيد بأنواعه ولا سيما توحيد العبادة؛ لأنه الذي فيه الخصومة بين الرسل وأعدائهم من المشركين، وكذلك كانت الخصومة والاختلاف فيه بين ورثة الرسل وورثة أعدائهم، وفي هذا السبيل بُيِّن سبب حدوث الشرك في العالم وأنه الغلو في الصالحين، كما جرى من قوم نوح عليه السلام، فأفضى بهم الغلو إلى أن عبدوهم من دون الله وقالوا ما أخبر الله به عنهم: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23]، وهي أسماء رجال صالحين كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما.
كما بيّن الشيخ رحمه الله ومَن بعده مِن أئمة الدعوة أن ما عليه كثير من المسلمين من بناء المساجد والقباب على قبور صالحين أو من يظن فيهم الصلاح ثم الطواف حولها، والاستغاثة بأصحابها، والتقرب إليها بأنواع القربات من النذور والذبائح والصدقات، أن هذا بعينه هو من جنس شرك قوم نوح وشرك المشركين من العرب، بل بَيَّن الشيخ أن شرك هؤلاء المشركين أغلظ من شرك المتقدمين، فإن المشركين في هذا الزمان يشركون في الرخاء والشدة، وأما الذين حكى القرآن شركهم، فإنهم كانوا يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة.
نعم بيّن الشيخ إمام الدعوة ومن جاء بعده من حملتها أن ما يفعله القبوريون من الاستغاثة بالأموات من بُعْدٍ وقُرْب، وطلب الحوائج منهم، والسفر إلى قبورهم لذلك أنه عين الشرك الأكبر المنافي لأصل التوحيد الذي بعث الله به الرسل من أولهم إلى آخرهم، كما بين الله ذلك في كتابه، كقوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف:5]، فعُبّاد القبور هم عند الشيخ كفارٌ مشركون ولو زعموا أن أصحابها وسائط بينهم وبين الله، فإن هذا هو ما كان يزعمه المشركون الأولون، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} {الزمر: من الآية3}، وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18].
فالشيخ إذا كفَّر هؤلاء المشركين من القبوريين لم يكفّر إلا من كفّره الله، كما ذكر في رده على مَن افترى عليه كما تقدم، ومع ذلك فقد نُقِل عن الشيخ في بعض المواضع أنه لا يُكَفِّر الجاهل من هؤلاء حتى تقوم عليه الحجة وبيّن له أن ما يفعله شرك بالله ينافي شهادة أن لا إله إلا الله، فغاية ما يقال إن الشيخ رحمه الله يكفّر هؤلاء القبوريين الذين يستغيثون بالأموات ويدعونهم من دون الله، يكفّرهم بالعموم، لا يكفّرهم بأعيانهم حتى تقوم عليهم الحجة، وهذا هو منهج أئمة أهل السنة في من كفروهم من أصحاب المقالات الكفرية، أي إنهم يكفرون بالعموم وأما تكفير المعين فيتوقف على وجود شروط التكفير وانتفاء الموانع، كما هو مقرر في كتب العقائد.
وبهذا يتبين أن هذه الحملة في هذه الأيام على دعوة الشيخ رحمه الله هي من ورثة خصومه من أهل البدع والأهواء من الرافضة والصوفية لما وجدوا متنفسًا، وتُهيئ لهم أن يكشفوا عن نواياهم، وذلك بسبب ضعف كثير من حماة هذه الدعوة المباركة، وتخلي بعضهم عنها، وانضمامه إلى صفوف المناوئين، ولو في بعض باطلهم، فلم يأت أصحاب هذه الحملة المعادية للدعوة السلفية، لم يأتوا بجديد بل استجروا ما ورثوه عن أسلافهم، وأظهروه في مؤلفات ومقالات كما صنع من قبلهم، ومع كثرة هؤلاء الخصوم وما لديهم من إمكانات فستبقى دعوة التوحيد والسنة محفوظة بحفظ الله، باقية ببقاء الطائفة المنصورة، التي لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} ) [الرعد: من الآية17].
والله أعلم.
بتصرف يسير
عبد الرحمن بن ناصر البراك
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود