خطوات في التربية - (6) غربة الدنيا!
إنها غربة حقيقية بل هي أحق ما يوصف بالغربة، فإن كنت لم تبدأ من هذه الدار بل من دار أخرى، وإذا كان المقام قليلًا، والرحيل يقينا، وإذا كان المنزل بعدها دائمًا وأبديًا، فتلك إذا دار عابرة.
دارٌ نعيمها أقل من تعبها وشقائها، وما فيها من نعيم ولذة فمكدّر، وهي دار منقضية وأهلها ينتظرون الرحيل بالموت، تلك هي الدنيا، لكن بقي أمر، وهو أن هذه الدار ليست دارنا! نعم فدارنا هي دار أخرى.
نحن لم نبدأ رحلتنا من هنا، لقد بدأنا من الجنة، فقد أُسكن آدم هناك، ومنها أُخرج ثم سافر في غربة هي رحلتنا على الأرض، وعلى أمل العودة، بل على وعد بالعودة وبحال أفضل، لكنها عودة مشروطة، وعلى أساس الشرط يعود الناس ما بين عائد آبق مكبل في سلاسله بعد عصيان مولاه، وعائد من غربة مشتاق إلى أهله وأهله به فرحون، ولذا قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف:27]، ثم قال: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:29-30].
لقد انطلقت البشرية من هناك.، من عند ربها سبحانه، انطلقت إلى الأرض، تعمل وتسعى، وتكد وتشقى، وتصلح وتفسد، وتعمر وتخرب، وتتنافس وتتقاتل، وتكدح الكدح الذي لا ينجو منه شقي ولا سعيد، ثم ها هي ذي تؤوب! ها هي ذي راجعة إلى ربها الذي أطلقها في هذا المجال، ها هي ذي تحمل ما كسبت طوال الرحلة المرسومة، من ورد وشوك، ومن غال ورخيص، ومن ثمين وزهيد، ومن خير وشر، ومن حسنات وسيئات، ها هي ذي تعود في أصيل اليوم، فقد انطلقت في مطلعه!
وها نحن أولاء نلمحها موقورة الظهور بالأحمال -أيا كانت هذه الأحمال- ها هي ذي عائدة إلى ربها بما معها، تظلع في الطريق، وقد بلغ منها الجهد وأضناها المسير، حتى إذا عادت إلى نقطة المنطلق وضع كل منها حمله أمام الميزان، ووقف يرتقب في خشية ووجل، إن كل فرد قد عاد بحصيلته فردًا، {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ} [فاطر:18].
وكل فرد على حدة يلاقي حسابه، ويلقى جزاءه، أفواج البشرية، فوجًا فوجًا، إلى جنة أو إلى نار، حتى تغلق الأبواب التي فتحت لاستقبال المغتربين العائدين، فقد كانوا هنالك في هذه الأرض مغتربين، وبين الغدو والرواح تعرض معارك الحق والباطل.
وقد بدأوا الرحلة فريقين: آدم وزوجه، والشيطان وقبيله، وكذلك سيعودون، الطائعون سيعودون فريقًا مع أبيهم آدم وأمهم حواء المسلمين المؤمنين بالله المتبعين لأمر الله، والعصاة سيعودون مع إبليس وقبيله، يملأ الله منهم جهنم، بولائهم لإبليس وولايته لهم، وهم يحسبون أنهم مهتدون، هاهم أولاء عائدين، في لمحة تضم طرفي الرحلة! (في ظلال القرآن للأستاذ الشهيد رحمه الله، بتصرف).
فهذه الدار ليست دارنا وإنما نحن غرباء، أما دارنا الحقيقية فهي الدار الأولى التي كان فيها أبونا ثم أخرج منها.
ولذا أخذ رسولا لله صلى الله عليه وسلم بمنكبَيْ عبد الله بن عمر،فقال: «البخاري:8/ 89).
» (صحيحوقد انفعل عبد الله بن عمر رضي الله عنه بهذا المعنى، وعاشه، وأخذ كما يعيشه يتكلم به؛ فكان يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك).
إنها غربة حقيقية بل هي أحق ما يوصف بالغربة، فإن كنت لم تبدأ من هذه الدار بل من دار أخرى، وإذا كان المقام قليلًا، والرحيل يقينا، وإذا كان المنزل بعدها دائمًا وأبديًا، فتلك إذا دار عابرة.
والانسان حقيق بأن يحن لأول دار، ولذا كرر ابن القيم رحمه الله هذا المعنى، واستشهد عليه بقول من قال:
نقِّل فؤادك حيث شئت من الهوى .:. ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى .:. وحنينه أبدًا لأول منزل
وهذا هو أول منزل، الجنة فحبه الأول لربه، ومنزله الأول الجنة، وعلى هذا تدور محبة القلب واللهفة للوطن، فمن قعد هنا فهو أحمق، ومن رام فيها الخلود فمجنون.
فإن كان الأمر كذلك رغب عنها العاقل وهرب إلى حيث يستقر، وعاش بنفسية الغريب، وشخصية المهاجر ورحل طوعًا قبل أن يرحل كرهًا، فهاجر إلى الله ورحل إلى الجنة، إذن قد وجب للقلب الرحيل.
يتابع إن شاء الله تعالى.
مدحت القصراوي
كاتب إسلامي
- التصنيف: