بوفيه مفتوح!
والقاعدة تقول أن هذا الفم لن يملأه إلا شيء واحد قد لا يتوفر في أي بوفيه مفتوح أو مغلق.. التراب!
هل حدث يومًا أن دُعيت أو تناولت وجبة في (بوفيه) مفتوح؟
كثير منا ربما حدث له ذلك في حفل زفاف دعي إليه أو في مطعم راق بأحد الفنادق، ربما في رحلة سياحية أو مؤتمر له علاقة بمهنته، وستلتقي بهذا (البوفيه) أحيانًا في رحلات الحج والعمرة!
أيًا كان الحدث الذي احتوى على هذا (البوفيه)، فلا شك أنك لو مررت بتلك التجربة فقد التقيت بصنف من البشر لا يكاد يخلو منه هذا المحفل وأكثرهم للأسف من المصريين.
مشهد تلال الطعام التي تعلو الأطباق ولا تستطيع أي معدة تناول معشارها، لن يفارق ذهنك بسهولة خصوصًا حين يتكرر أكثر من مرة ومن نفس الشخص!
إنه يعلم أنه يستطيع الإتيان بالمزيد..
يستطيع أن يضع كمية تكفيه وإذا وجد في معدته ثغرات تحتمل المزيد فليأت بعد انتهاء الكمية بهذا المزيد..
لكنه أبدًا لا يفعل!
هو يُصر في كل مرة على ممارسة نفس التجربة بنفس الكم الهائل، الذي لا يحده إلا كونه يخشى سقوط الطعام عبر أطراف الصحن المسكين!
والمشكلة أنه في كل مرة لا ينجح في إنهاء ما في ذلك الصحن!
وحينئذ فلربما خرجت الأكياس التي يعبئ -أو تعبئ- فيها ما لم يجد له مسلكًا، بعد أن اكتظت المعدة والأمعاء وكاد الطعام أن يطفح من جوفه.
ليس شرطا أبدًا أن يكون من يفعلون ذلك فقراء أو محرومين.. بالعكس!
وجدت ووجد غيري ذات الممارسات من بعض ميسوري الحال معتادي ارتياد تلك (البوفيهات)!
المسألة في الحقيقة ليست متعلقة بشكل كامل بالمال ولا بالمستوى الاجتماعي أو الثقافي، المسألة في رأيي تتعلق بطبيعة نفسية تتشابك خيوطها لتكون في النهاية نسيجا يؤدي إلى تلك الظواهر.
مزيج من الشعور بعدم الأمان والخوف من المستقبل الغامض، وأيضًا ذلك الشعور الخفي بالاضطهاد والإحساس الذي لا يفارق الكثير من الناس، بأنهم مغبونون وأنهم دومًا عرضة للنصب عليهم أو هضم حقوقهم؛ كل ذلك وغيره يتشابك ليصنع ذلك النسيج، الذي يتدثرون به وهم في سباقهم المحموم لاقتناص حقهم المتصور وتأمين مستقبلهم الغامض!
حتى ذلك المستقبل القريب الذي لن يتجاوز بضعة سويعات سيحين بعدها موعد الوجبة القادمة التي ستكون أيضًا (بوفيه) مفتوح، كما في برنامج الحج أو العمرة الذي أعلمته به شركة السياحة.. لا بد له أن يؤمّنه أيضًا!
وما الذي يضمن له ألا يجوع في تلك السويعات القليلة المقبلة؟!
يحتاج إذا أن يؤمِّن نفسه بشبع مبالغ فيه وكأنما سيجتره بعد حين كما تفعل الإبل، أو بتخزينه في الحقائب والأكياس البلاستيكية الشهيرة.
حتى لو فقد لذة الاستطعام من كثرة الأصناف التي يكتظ بها فمه؟!
حتى لو صار ما في الأكياس عجينا يختلط فيه الحلو والمالح ويمتزج في جنباته الأرز بالجاتوه واللحم بالفواكه؟!
مش مهم..
كل هذا لا إشكال فيه عنده
المهم أن يقتنص الفرصة وأن يؤمن مستقبله القريب، وأن يثبت لنفسه أنه قد أخذ حقه كاملًا لم ينتقص منه شيء!
من الإجحاف أن نقصر اللوم على ذلك الصنف النهم من البشر مرتادي (البوفيهات المفتوحة)، فالحقيقة أننا نعيش في هذه الحياة نفس تلك الحالة
نعيش في (بوفيه) مفتوح ضخم.
ضخم بضخامة الدنيا وشهواتها وملذاتها.
والحقيقة الأخرى أن معظمنا بشكل أو بآخر يفعل نفس الممارسات التي ذكرناها لكن بشكل أكثر (شياكة)!
نفس النهم القلق، والشهوة الجارفة في الاستكثار والاستزادة التي كثيرًا ما تكون بغير داعٍ!
نفس الشراهة، والرغبة في الاستيلاء والتخزين، وملأ الأفواه والبطون والجيوب.
وأيضًا نفس فقدان اللذة الناتجة عن حشر الطعام في الفم حشرًا، رغم وجود تلك المعلومة الشهيرة التي قل من يصدقها والتي تجزم أن أحدًا لن ينال أكثر من نصيبه، وأن كل شيء خلقه الله بقدر، لن يستطيع أحد أن يزيد عنه مهما فعل كما لن يستطيع أحد أن يأكل أكثر مما تسع أحشاؤه.
أما عن ذلك الفم الممتليء فاقد اللذة أو تلك الأكياس المكتظة بعجين الأطعمة المخلوطة التي يصعب بعد حين معرفة كنهها.. فالواقع أن كل ذلك لن يشكل أي معضلة بالنسبة لمن قرر انتهاج هذا الأسلوب في الحياة
الفم سرعان ما سيخلو مطالبا بالمزيد..
أي مزيد!
فهو فم ابن آدم! والقاعدة تقول أن هذا الفم لن يملأه إلا شيء واحد قد لا يتوفر في أي بوفيه مفتوح أو مغلق.. التراب!