الطريقان صراع خفي

منذ 2015-10-27

التربية على العبودية يلزمها بقدر كبير أن يتدرب القلب على الأنس بالله سبحانه، وخلوه من إرادة العلو في الدنيا ولا الفرح بها، والاهتمام بالإنجاز في الدنيا لتعميرها بغية رفع شأن الأمة ونصرتها شىء، وأن يتلوث القلب بحبها مع تقصيره في حق ربه شىء آخر.

هناك تساؤل كثيرًا ما يطرح، حول اشتراط ترك الدنيا بالكلية للمؤمن الذي يريد السير في طريق العبودية، خصوصًا إذا كان الناصح له يشير إلى أن الاهتمام بشيء من الدنيا خطأ في السبيل، بل حتى الالتفات لها سلبية!

وبالتالي أصبح كل مؤمن بين فكرتين، إما أن يهتم بمصالحه وبنجاحاته المتعلقة بالدنيا فهو عندئذ مخالف للصواب، وإما أن يترك دنياه وما يتعلق بها من أعمال حتى يتفرغ للعبادة، وصار الشخص على حالين بين رؤية البعض أن الدنيا لابد منها ليتمكن من العيش الكريم السوي وتتمكن أمته من النهوض والتقدم والغلبة والتمكين وبين رؤية البعض الآخر أن الدنيا لاقيمة لها أبدًا بحال وأنها يجب أن تهجر هجرًا تامًا.

وأدت هذه التفرقة إلى عزلة بعض الناس وتنسكهم وتبتلهم بعيدًا عن مجتمعاتهم، وتكالب آخرين على الحياة وجعلوها همهم الأوحد ينتهبون ما فيها من متعة فتملكهم شهوتهم ولا يملكون نفسهم منها وتقتلهم في نهاية الأمر أو تشقيهم بالتعلق الدائم والعيش النكد!

والحق هو الموازنة بين المفهومين حتى يسيرا في طريق واحد هو طريق الآخرة. فالتربية على العبودية يلزمها بقدر كبير أن يتدرب القلب على الأنس بالله سبحانه، وخلوه من إرادة العلو في الدنيا ولا الفرح بها، والاهتمام بالإنجاز في الدنيا لتعميرها بغية رفع شأن الأمة ونصرتها شىء، وأن يتلوث القلب بحبها مع تقصيره في حق ربه شيء آخر.

والقلب الذي تعود كسر القيد عن رغبات النفس والهوى من الغنى لأجل المال والعلو لأجل الذكر وغيره، هو القلب الذي يسهل تربيته وتقويمه، أما القلوب التي قد ربيت على حب المتاع والشهوات فإنما هي قلوب مستعصية على التقويم.

إن المربين بحاجة أن يتقنوا فن التخلص من التعلق القلبي من الرغبات والهوى الشخصي والمصلحة الذاتية وهي أمر دفين في داخل النفس، من هنا صار تعليم الورع شىء مستحب لأولئك الذين قد يصيرون قادة وقدوات، فحيث علمناهم هنا معنى أن تظل نفوسهم عفيفة كريمة عن الزخارف والزينات؛ سيخرجون متعالين عن دنو المقامات ولن تأسرهم الأموال ولا المراكز والوظائف.

يقول الإمام ابن القيم: "قال لي يومًا شيخ الإسلام ابن تيمية في شيء من المباح: هذا ينافي المراتب العليا، وإن لم يكن تركه شرطًا في النجاة"، ثم يقول ابن القيم: "فالعارف يترك كثيرًا من المباح إبقاء على صيانته، ولا سيما إذا كان ذلك المباح برزخًا بين الحلال والحرام" (مدارك السالكين).

على جانب آخر فليس مراد التوجيهات الشرعية نحو ترك الدنيا هو إهمالها بالكلية واجتثاثها، بل تصريفها في أغراض الحق واستعمالها في نفع أمة الإسلام وقيم الإيمان ووراثتها لإقامة العدل والصلاح {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]

ومن هذا الفهم المغلوط لبعض التوجيهات، خرج من الفكر الصوفي الدعوة إلى ترك الدنيا بالكلية والقعود عن معالي الأمور، فقد قيل لبعض المتصوفة: كيف ترى الدنيا؟ قال: ما الدنيا؟ لا أعرف لها وجودًا، وسمع بعضهم من يقرأ قوله تعالى: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران:152]، فصاح: وأين من يريد الله؟! قال الشيخ رشيد رضا معلقًا على هذه المقولة: "وهو قول حسن في الظاهر قبيح في الباطن، فالآية خطاب لخيار الصحابة وإرادة الدنيا والآخرة بالحق هي إرادة لمرضاة الله"، فالفهم الصحيح لهذه الآيات أن نقول إن المراد هو استخدام الدنيا في طاعة الله عز وجل، وعدم إرادتها لمعصيته أو الغفلة عنه.

وإذا كانت هذه الدنيا هي وسيلة أو قنطرة إلى اليوم الآخر، أليس من الواجب إصلاح هذه القنطرة بالإيمان أيضًا لكي نتمكن من الوصول للغاية الكبرى وهي الفوز بالجنة والنجاة من النار؟!، بل ورد الأمر منه صلى الله عليه وسلم بالإصلاح وإن قامت الساعة: فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها» (صحيح الجامع [1424])، والفسيلة هي النخلة الصغيرة أو الودية. وأيضًا روى عن الحارث بن لقيط قال: "كان الرجل منا تنتج فرسه فينحرها فيقول أنا أعيش حتى أركب هذه؟ فجاءنا كتاب عمر: أن اصلحوا ما رزقكم الله فإن في الأمر تنفسًا". وأيضًا روى البخاري في الأدب المفرد عن عبد الله بن سلام قال "إن سمعت بالدجال قد خرج وأنت على ودية تغرسها فلا تعجل أن تصلحه فإن للناس بعد ذلك عيشًا".

لاشك أن للمؤمن حياة مع ربه سبحانه وخلوة في ليله، ومسارعة إلى البذل والعطاء، وتوق نفسه للآخرة، ورغبة في الجنة، وسكون ولذة مع ذكر الله سبحانه، ومبادرة إلى الخيرات، كل ذلك يجعله يطير بروحه إلى جنة ربه بينما هو يعيش بين الناس.

فأنا لا أقول أن هذين الخطين يتساويان في الاهتمام، كلا، بل هو يأخذ من دنياه لآخرته، ومن النعم التي أنعم الله بها عليه في دنياه لما يكتسبه من ثواب في الآخرة، وكذلك لنشر دينه وتبليغ دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم، فهو إذن سبيل واحد وخط واحد وحسبة واحدة. 

 

خالد رُوشه.