الغُلُـوّ في حَـدّ الغُلُـوّ!
فزَّاعـة الغُلُـوّ؛ إنها إحدى الفزّاعات والشمّاعات واللافتات، التي يرفعها كلُّ خصمٍ أمام خصمه، ويُلوّح بها كلُّ حاكمٍ لرعيّته وشعبه، بل وكذلك يفعل؛ كلُّ حزبٍ وجماعة، بل وكلّ صاحب منبر وفكر وقلم، فسرعان ما إذا ظهر، مُخالف أو معارض أو ناصح أو محارب، يسبح ضدّ تيّار هؤلاء؛ إلا وانتفضوا غَضبَى مُتغطرسين مُتشدّقين: الغُلُـوَّ؛ الغُلُـوَّ!
فما أيسرها من فزَّاعةٍ وشمّاعة؛ يُعلّق عليها عَجزَه وبَغيَه وتفريطَه، ويستتر خلفها، مُواريًا سوءاتِه ونفاقَه وخِذلانَه؛ مُتذرِّعًا بحماية الدّين، وصيانة الشريعة، ومحارم المسلمين؛ من تطاول واعتداء الغُلاة الغاشمين.
ولا شكّ يعتري الصادقين، ولا ريب في قلوب المُخلصين؛ أن الغُلُوّ مَبغوضٌ أهلُه، ممقوتٌ كلُّه، على كلّ حالاته، وفي جميع صُوره وأشكاله وألوانه؛ سواء كان من أشخاص أو أحزاب أو جماعات، أو أفكار ومناهج، أو أقلام ومنابر، ولو لم يكن من ذَمٍّ للغُلوّ وأهله، وعاقبته وشؤمِه، إلا تحذيرَه عليه السلام: «
» (رواه النسائي).. لـكفَى!لكننا وللأسف الشديد، أصبحنا نُعاني من ظاهرةٍ هي أبشع وأشنع وأفظع؛ إنها ظاهرة؛ الغُلوّ في حدّ الغلوّ!
وصار الأمر كما أشرنا؛ فزاعةً وشمّاعة، يرمي بها من شاء ما شاء، ويغلو فيها كلُّ مُتربّصٍ ومُتحزّب ومغرور؛ ويُصوّرها في كلّ مشهدٍ لا يُعجبه، ويُلبّسها كل قولٍ يُخالفه، ويَسِم بها كلّ أحدٍ يُعارضه، ولم يَسلم من فزّاعته؛ إلا نفسه وحزبه وجماعته.
لهذا وغيره، تعيَّنَت هاهنا مسألة مُهمّة عظيمة؛ ألا وهي: معرفة ضابط الغلُوّ وحَدّه، ومعرفة المَرجع الذي نحتكم إليه؛ للفصل بين حدّ الغلوّ والإفراط، والتقصير والجفاء.
فجماع معنى الغلُوّ وحدّه؛ مجاوزة الحدّ الشّرعيّ بالزيادة في الدّين، والإفراط فيه، سواء كان في الاعتقادات أم الأعمال والعبادات، وعلى هذا؛ فهو نقيض التفريط والإرجاء، والذي جماع معناه: التساهل والتقصير والجفاء، في أمور الدّين؛ اعتقادًا وعملًا.
ولذا قال مخلد بن الحسين رحمه الله: "ما ندب الله العباد إلى شيء، إلا اعترض فيه إبليس بأمرين، بأيّهما ظفر؛ إما غلوّاً فيه، وإما تقصيراً عنه" حلية الأولياء.
ومثال الغلُوّ والإفراط؛ تأليه الرافضة لـ"عليّ " وجعْله خالقًا مُتصرّفًا، فهذا من الغلوّ؛ حيث تجاوزوا به حدّ المخلوق إلى الخالق.
ومثال التفريط والتقصير؛ تكفير الخوارج لـ" عليّ "، ففرّطوا في حقّه وتنقّصوه، حتى كفَّروه. فخرج الفريقان عن حدّ الاعتدال والحقّ.
وأما المرجع الذي يجب على المسلمين، أن يحتكموا إليه، للفصل بين حدّ الغلوّ والإفراط، والتقصير والإرجاء؛
هو القرآن والسُّنّة، والنّصّ والنّقل، والدّين والشرع، لأن الغلوّ كما أشرنا، مجاوزة الحدّ الشرعيّ، أي الذي حدّه الشرع، وجعل تجاوزه غلوًّا؛ فما جاوز الشرعَ والنصوص ودلالاتها؛ كان غلوًّا؛ قولًا كان أو اعتقادًا أو عملا،
ومالم يكن كذلك؛ فليس غلوًّا، وإن ادّعاه مَن ادّعاه، وسمّاه مَن سمَّاه، فإنه حينئذٍ دينٌ وتشريع، وليس من الغلوّ في شيء.
وعليه، فكلّ قائلٍ في دين الله قولا، وكلّ عاملٍ عملا، وكلّ حاكمٍ حُكمًا، وكلّ مُعتقِدٍ عقيدةً ومَسلكًا، وكان في ذلك؛ مُقتفيًا آيةً أو حديثًا أو أثرًا، وكان مثلُه من أهل النظر والاجتهاد، قاصدًا الحقَّ والهُدى، لا مُتحيِّزًا إلى فئةٍ أو هَوى، وله تأويلٌ سائغٌ في الشرع واللسان، لا يعود على الدّين بالبطلان، مُنتسبًا إلى السُّنّة وأهلها، مستقيمًا على أصولها وفروعها؛ فهذا وأمثالُه؛ دائمًا ما يدور حالُه؛ بين أجرٍ وأجرين، وحسنةٍ واثنتين، ولا يُعَدُّ بإطلاقٍ غاليًا، ولا مُرجئًا جافيًا، بل يُقيَّد الوصف بقوله إذا خالَف، ولا يخرج بحالٍ من أهل السُّنّة لاجتهاده، بل كسائرهم يكون، يُقبَل منه ويُرَدّ، ولا يُدَّعَى في مثله كمالٌ أو عصمة.
والخلاصــــة:
فمتَى انتسبَ الرجل إلى السُّنّة والدليل، وكان مُتحقِّقًا بالنسبة قولًا وعملًا واعتقادًا، في غالب شأنه وأمره:
فلا يكون مرجئًا بإطلاق، وإن داهَن حاكمًا بعيدًا عن أمر دينِه.
ولا يكون خارجيًّا أو مُبتدِعًا؛ إذا خرج على الجائر، ونقضَ حُكم الكافر.
ولا يكون غاليًا تكفيريًّا؛ متى كفَّر بدليله وحُجّته، نوعًا أو عينًا.
ولا يكون مُبتدعًا ضالًّا؛ متى خالف السُّنة أحيانًا لتأويلٍ أو حُجة.
ولا يكون مُنافقًا بإطلاق؛ إذا وقع في بعض شُعب النفاق وآياتِه.
وإلا كان ذلك كلّه من الغلوّ .. وإن تبرَّأ منه من تبرَّأ.
ألا فأنصفوا أيها الكرام من أنفسكم أولًا، ثم مُخالِفيكم، والْتمسوا الأعذار ما استطعتم، وكان الأمر مُحتملًا، ومتى تحقّقَت حُجّتكم، وظهرَت أدلّتُكم، ورأيتم الحقَّ جليًّا؛ فاجْهروا ولا تَهابُوا، وانطقوا ولا تكتموا، وأعلنوا ولا تُسرّوا، ولا تخافوا في الله لَومةَ لائم؛ فإما يَهدي الله بكم، أو تقوم حُجتُه بأمثالكم.
أبو فهر المسلم
باحث شرعي و أحد طلاب الشيخ سليمان العلوان حفظه الله
- التصنيف:
- المصدر: