خطب مختارة - [68] التواضع وذم الكبر

منذ 2016-03-03

إن كل ما يتمتع به العبد من منصب أو مال أو علم أو غير ذلك منح وعطايا من الله عز وجل. ومثلما أعطاها إياه فهو سبحانه قادر على أن يسلبها منه في طرفة عين. لذلك لا يستقيم أبدًا أن تكون هذه العطايا من الله طريقًا للكبر.

الخطبة الأولى:

أما بعد: أيها الناس: سنتحدث بإذن الله في هذه الخطبة عن أمر خطير، وله علاقة بالتوحيد وهذا الأمر مرتبط بالعلاقات الاجتماعية بيننا، موضوعنا عن التواضع وذم الكبر.

الكبرياء والعظمة لله وحده، ولا يجوز للعبد أن يتصف بهما أو بأحدهما، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: «الكبرياءُ ردائي والعظمةُ إزاري. فمن نازعني واحدًا منهما ألقيتُه في جهنم» [صحيح ابن ماجه: 3383]، ولذلك فليسَ بغريب أن نجد التواضع من سيماء الصالحين. ومن أخص خصال المؤمنين المتقين ومن كريم سجايا العاملين المخبتين.

قال الله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَـافِرِينَ} [المائدة:54]. وقال الله لنبيه والخطاب عام له ولأمته: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215]، وقال تعالى: {وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى الأرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18]. وقال جل وعلا: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُـلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه اللهُ» [صحيح مسلم: 2588]. الله أكبر: إن المتواضع يرفع الله سبحانه وتعالى منـزلته ومكانه وقدره فطوبى للمتواضعين.

إخواني يا من تحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا من تعتقدون أن لا سعادة ولا عزة ولا طريق إلى الجنة إلا باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم والتأسي به؛ قال الله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الاْخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].

إنه سيد ولد آدم. ليس فوقه أحد من البشر؛ إنه أحب الخلق إلى الله وأعظمهم جاهًا وقدرًا عند رب العالمين. إنه صاحب الوسيلة وهي أعلى درجة في الجنة، منزلةٌ واحدةٌ ليست إلا له صلى الله عليه وسلم. إن الأرض ما وطئ عليها ولن يطأ عليها إلى يوم القيامة أكرم ولا أجل ولا أرفع منه صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك تأمل أخي المؤمن إلى تواضعه العجيب صلى الله عليه وسلم.

عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى أغبر بطنه، ومن تواضعه صلى الله عليه وسلم رعيه الغنم وتحدثه بعد نبوته بذلك: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله نبينا إلا وقد رعى الغنم وأنا كنت أرعاها لأهل مكة بالقراريط» [صحيح الجامع: 5581]، قال أهل العلم: رعى الغنم عمل ارتضاه الله لأنبيائه.

ومن أسرار ذلك الرعي تربية النفوس على التواضع و الخضوع لله تعالى، ومن ذلك تواضعه صلى الله عليه وسلم مع الضعفاء والأرامل والمساكين والصبيان، فعن سهل بن حنيف رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم، يأتي ضعفاء المسلمين. فلم تشغله النبوة عن ذلك. ولم تمنعه مسؤوليتة تجاه أمته، ولا كثرة المهام التي يقوم بها من أن يجعل للضعفاء والمرضى نصيبًا من الزيارة والعيادة واللقاء.

أيها المسلمون: كان صلى الله عليه وسلم يمر بالصبيان فيسلم عليهم. وفي رواية: كان يزور الأنصار ويسلم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم. إنك ترى - في عصرنا هذا - من يترفع عن الرجال الكبار فكيف يكون شأنه مع الصبيان والصغار؟، إنك لتجد بعض ضعفاء الإيمان يأنف أن يسلم على من يرى أنه أقل منه درجة أو منصبًا، ولعل ما بينهما عند الله كما بين السماء والأرض!، ألا فليعلم أولئك أنهم على غير هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أخي المسلم تأمل يا رعاك الله في هذين الحديثين: عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: «سأل رجل عائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في بيته؟ قالت: نعم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصف نعله ويخيط ثوبه ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته» [صحيح ابن حبان: 6440]. «وعن عائشة رضي الله عنها وقد سئلت عما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في أهله؟ قالت: كان في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة» [صحيح البخاري: 6039]

نور جعله الله سبحانه وتعالى في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فبان في سلوكه وفعاله وتواضعه وخدمة أهله. وبه كانت تسمو نفسه صلى الله عليه وسلم وتعلو. ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل هذا من فراغ في وقته ولكنه كان يحقق العبودية لله سبحانه بجميع أنواعها وأشكالها وصورها فيتواضع ويعين ويعطف على القريب والبعيد.

عباد الله؛ قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» [صحيح مسلم: 91]، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة؟ قال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق وغمط الناس» [صحيح مسلم: 91]، وبطر الحق: دفعه ورده على قائله، غمط الناس: احتقارهم وازدراؤهم.

وعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد» [صحيح مسلم: 2865]، وقال عليه الصلاة والسلام: «ألا أخبركم بأهل النار، كل عتل جواظ مستكبر» [صحيح البخاري: 4918]، قال الحسن رحمه الله: "هل تدرون ما التواضع؟ التواضع: أن تخرج من منـزلك فلا تلقى مسلمًا إلا رأيت له عليك فضلًا".

إن كل ما يتمتع به العبد من منصب أو مال أو علم أو غير ذلك منح وعطايا من الله عز وجل. ومثلما أعطاها إياه فهو سبحانه قادر على أن يسلبها منه في طرفة عين. لذلك لا يستقيم أبدًا أن تكون هذه العطايا من الله طريقًا للكبر.

وقال أبو علي الجوزجاني: "النفس معجونة بالكبر والحرص على الحسد، فمن أراد الله هلاكه منع منه التواضع والنصيحة والقناعة، وإذا أراد الله تعالى به خيرًا لطف به في ذلك. فإذا هاجت في نفسه نار الكبر أدركها التواضع من نصرة الله تعالى"، قال سفيان بن عيينة: "من كانت معصيته في شهوة فارج له التوبة فإن آدم عليه السلام عصي مشتهيًا فاستغفر فغفر له، فإذا كانت معصيته من كبر فاخش عليه اللعنة. فإن إبليس عصى مستكبرًا فلعن".

أخي المسلم: من اتقى الله تعالى تواضع له فرفعه، والمتكبر وضيع وإن رأى نفسه مرتفعًا على الخلق.

تواضع تكن كالنجم لاح لناظر *** على صفحات الماء وهو رفيع

ولا تك كالدخان يعلو بنفسـه *** إلى طبقات الجو وهو وضيـع

قال الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ ُعلُوّاً فِى الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَـاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].

اللهم بارك لنا في القرآن والسنة، وانفعنا بما فيهما من الذكر والحكمة، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين .

الخطبة الثانية:

أخي المسلم: كل ما تراه من مباهج الدنيا وزينتها إنما هو ظل زائل وراكب مرتحل فلا تغتر بها.

أحلام ليل أو كظل زائل *** إن اللبيب بمثلها لا يخدع

قال عروة بن الزبير رضي الله عنهما: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء، فقلت: يا أمير المؤمنين، لا ينبغي لك هذا. فقال: "لما أتاني الوفود سامعين مطيعين - القبائل بأمرائها وعظمائها - دخلت نفسي نخوة ، فأردت أن أكسرها".

أيها الناس: اعلموا أن الزمان لا يثبت على حال كما قال عز وجل: {وَتِلْكَ الاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ لنَّاسِ} [آل عمران:139]. فتارة غنى، وتارة فقر ، وتارة عز، وتارة ذل، وتارة منصب، وتارة بلا منصب وهكذا. فالسعيد من لازم أصلًا واحدًا على كل حال. وهو تقوى الله عز وجل والتواضع على كل حال، وهذا الذي يزينه ويبقى معه، والله المستعان.

مر بعض المتكبرين على مالك بن دينار، وكان هذا المتكبر يتبختر في مشيته فقال له مالك: أما علمت أنها مشية يكرها الله إلا بين الصفين في الجهاد؟ فقال المتكبر: أما تعرفني؟ قال مالك: بلى، أوّلك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة، فانكسر وقال: الآن عرفتني حق المعرفة. ويزداد التأكيد على التواضع مع أهل الفضل عليك كالوالدين والمعلمين وغيرهم، لأنهم أولى الناس بخفض الجناح لما لهم من فضل ومعروف.

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، اللهم ارزقنا التواضع، وأعذنا من الكِبر.

                                       

المقال السابق
[67] التشبه بالكفار تبعية مذلة
المقال التالي
[69] التوبة