سقوط الأندلس دروس وعبر - (1) مقدمة

منذ 2016-03-05

إن السبب الكامن وراء هـزائمنا وتخلفنا وسقوطنا السياسي والحضاري وتخاذلنا الثقافي، يرتكز تاريخيًّا حلول نقطتين أساسيتين: أولاهما: الارتداد إلى روح التَّعرُب وسيطرة الروح العنصرية القبلية، الأمر الذي يفتت الأمة، ويبعثرها، ويمزق رقعة تفكيرها، ويذهب ريحها، حيث يمتد التمزق ويمتد، ولا يتوقف عند حدٍّ، حتى يصل إلى أفراد الأسرة الواحدة. وما أظن أن واقعنا اليوم يحتاج إلى شواهد وإسقاطات تاريخية.

الحمد لله الذي خاطب المؤمنين بقوله: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ . هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ . وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ . إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}  [آل عمران:137-140]. وجعل السير في الأرض، واستقراء تاريخ الأمم السابقة، والنظر في الكيفيات، والاهتداء إلى السنن والقوانين التي تحكم حركة المجتمعات وتحولاتها، والاتعاظ والاعتبار بها، تكليفًا شرعيًّا، يثمر الوقاية والمناعة الثقافية، كما جعل الاستعلاء بالإيمان حائلًا دون السقوط الحضاري، وشرطًا لمعاودة النهوض والتجاوز، وحسن التعامل مع سنة التداول الحضاري، للإقلاع من جديد.

والصلاة والسلام على الرسول القدوة، الذي حذرنا من الانتهاء إلى الحالة الغثائية، حالة الوهن والضياع التي تنتهي إليها الأمة، بسبب من التقليد الجماعي، والمحاكاة الحضارية، بقوله: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها» قالوا: "أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟" قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله المهابة من قلوب أعدائكم، وليقذفنَّ في قلوبكم الوهن. قيل: "وما الوهن يا رسول الله؟" قال: «حب الدنيا وكراهية الموت». وغثاء السيل يعني: افتقاد الأمة المسلمة القوة والإرادة، الذي يعني غلبة الأعداء، والسقوط الحضاري.. وبعد:

لقد كان المفروض أن يكون سقوط الأندلس بيانًا للناس، واهتداءً إلى أسباب السقوط، وعبرة للأمة المسلمة، حتى تتقي السقوط {هـَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:138]. 

بعد أن حقّت عليها سنة الله في الهلاك، والتداول الحضاري، ودالت دولة المسلمين وحضارتهم، حيث كانت الرفاهية والبطر والترف، طريق الفسوق الموصل إلى الدمار.. فقد كانت غرناطة حصن المسلمين الأخير الذي لم يسقط بسهولة، ولكن المقدمات كلها توحي بأنه كان لا بد من سقوطها في سلسلة السقوط للمدن والدويلات الأندلسية، التي أصبحت جسمًا ينخره الخلاف على السلطة، والغرق في الفساد، وتأكله العنصرية والإقليمية، والطمع في الحكم، إلى درجة أصبح فيها الابن ينازع أباه، والأخ يقاتل أخاه، حتى لقد أصبح في الأندلس أكثر من عشرين دولة تتنازع، ففي كل مدينة دولة، إضافة لاتساع الهوة الرهيبة بين الحكام وأهل الفكر والعلم، مما اضطر الكثير من العلماء والمفكرين والعباد إلى الهجرة إلى بلاد الشام وأفريقيا ، فأصبح الحكام يحكمون بلا عقل مفكر، ورأيٍ ناضج ناصح، وأصبح العلماء والمفكرون في خارج نطاق الواقع،والحس بهمومه، واستيعاب مشكلاته، ووضع الأوعية والحلول الفكرية والشرعية لمسيرة الأمة. فاختلفت معادلة الحكم والعلم على حد سواء، وحدث الشرخ الحضاري بانفصال السلطان عن القرآن، والسياسة عن الثقافة، والحكم عن العلم، فكان استدعاء الآخر، والاحتماء به، ثمرة طبيعية لهذا الواقع البئيس.

ونستطيع أن نقول: إن السبب الكامن وراء هـزائمنا وتخلفنا وسقوطنا السياسي والحضاري وتخاذلنا الثقافي، يرتكز تاريخيًّا حلول نقطتين أساسيتين: أولاهما: الارتداد إلى روح التَّعرُب وسيطرة الروح العنصرية القبلية، الأمر الذي يفتت الأمة، ويبعثرها، ويمزق رقعة تفكيرها، ويذهب ريحها، حيث يمتد التمزق ويمتد، ولا يتوقف عند حدٍّ، حتى يصل إلى أفراد الأسرة الواحدة. وما أظن أن واقعنا اليوم يحتاج إلى شواهد وإسقاطات تاريخية.

والنقطة الثانية التي كانت وراء تمزقنا وتآكلنا وسقوطنا الحضاري: قضية الغنيمة، وتغليب المصالح القريبة العاجلة والموهومة، على المبادئ والقيم الإسلامية التي هـي محض المصلحة.. ويمكن لنا أن نعيد قراءة إصاباتنا التاريخية والمعاصرة، ابتداء من غزوة بني المصطلق في عصر النبوة، والنداء الشاذ النتن، الذي كاد يثير الفتنة بين المهاجرين والأنصار، بسبب الأسبقية على الماء، ومعالجة الرسول صلى الله عليه وسلم لتلك الظاهرة الشاذة بقوله: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! دعوها فإنها منتنة»، لتبقى شاهد إدانة لكل العنصريين، والمتعصبين والمنحرفين على التاريخ الطويل، ومرورًا بالاختلاف على قسمة غنائم بدر، التي وصفها بعض الصحابة، بقوله: "اختلفنا حتى كادت تسوء أخلاقنا"، ومن ثم الدرس القاسي في هـزيمة أحد الذي بيَّن سببه الله تعالى بقوله: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران:152]، وبقي قرآنًا خالدًا يتلى على الزمن؛ ووصولًا إلى معركة بلاط الشهداء في الإطار الأندلسي، حيث كانت الغنيمة والحرص عليها، سببًا في هـزيمة المسلمين، وتوقف المد الإسلامي عند أسوار أوروبا.

ولا تزال الروح القبلية الجاهلية والحمية العنصرية، والإقليمية المغلقة، والتطلع والنزوع إلى الغنيمة، تسري في حياة المسلمين المعاصرة، وتشتد كلما تراجعت المعاني الإيمانية.. ولا تزال خيام القبائل منصوبة في نفوسنا، واقتتالها وغزوها واحتلالها لبعضها، هـو الشائع في عالمنا الإسلامي، على الرغم من الإعلانات والشعارات وأطر التحديث، واستبدال أسماء الدويلات بأسماء الإقليميات، التي باتت لا تخدع حتى أصحابها.. إنه مناخ النتانة السلوكية والفكرية والسياسية، الذي حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم في بدء بناء الدولة، وجعل التعرّب بعد الهجرة -وهو العودة إلى استبدال رابطة العنصرية ، والقبلية الجاهلية ، برابطة الرسالة الإسلامية- من الكبائر الموصلة إلى السقوط الحضاري في الدنيا، والسعير في الآخرة.

لذلك بإمكاننا القول، دون أية مجازفة أو تجاوز: إن قابليات السقوط الحضاري والسياسي ومقدماته التي عاشتها الأندلس ، ما تزال تحكم بعض العقليات العربية، على مستوى الفرد ومستوى المؤسسات، على حدٍ سواء، فتاريخ الأندلس في النفس المسلمة، سوف يبقى شاهد إدانة لا يغيب، وجرحًا غير قابل للنيسان بمرور الزمن؛ لأن حوادثه ومجرياته تجدد الذاكرة، وتعمق الآلام، على الرغم من المحاولات الكثيرة التي تصر على وضعه مع غيره في ساحات النسيان، أو على الأقل تحول دون مناقشة عبره، والإفادة منها لحاضر الأمة ومستقبلها، حتى ليكاد الإنسان يظن أن تغييب دراسة التاريخ الأندلسي، مقصود لحماية الحاضر العربي والواقع الإسلامي، الذي لا يخرج عن أن يكون أحد فصوله.. ذلك أن أية قراءة صحيحة للتاريخ الأندلسي سوف تمكن من قراءة الحاضر وإدانته، وتحقق الوعي الحضاري بمصائب الأمة وأزماتها ومشكلاتها، في محاولة لاستئناف دورها من جديد، الأمر المحظور سياسيًّا وحضاريًّا اليوم في ظل الهيمنة السياسية والتحكم الثقافي.. لذلك نجد أن دراسة التاريخ كما يجب أصبحت وكأنها من الأمور المحرمة على العقل المسلم اليوم تحت شتى الفلسفات.

المصدر: تقديم الأستاذ عمر عبيد حسنة لكتاب الأمة العدد 31 (الصحوة الإسلامية في الأندلس اليوم جذورها ومسارها) للدكتور على المنتصر الكتاني
 
المقال التالي
(2) ضرورة حماية تاريخنا