العودة إلى التربية القرآنية.. التربية على الصعاب
هذا خطاب للبشرية كلها، ويمكن أن يكون تنبيهاً أيضاً للذين استجابوا لدعوة القرآن وذلك ليقطع عنهم الأطماع المادية من مال أو جاه وحتى تتطهر قلوبهم وتصفو نياتهم من كل شائبة، خاصة وهم في فترة الإعداد والتأسيس، فترة التربية على المهام الصعبة، لابد أن يكون العمل كله لله، وأمر الدنيا سهل وليس ببعيد، إنها التزكية المتواصلة التي يحتاجها الإنسان في كل مراحل حياته، وسنلاحظ في سورة الأنعام كيف تتابعت الآيات من مرحلة إلى أخرى لتصل إلى النتيجة المطلوبة من المؤمنين.
تتكرر الآيات التي توضح وتبين أن ما يطلبه الكفار من الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يدل على مستوى من التفكير يتسم بالسذاجة والعقلية المادية التي تطلب رؤية الأشياء المحسوسة، فهم يطلبون ما ينقصهم وما يتمنونه أن يكون في بلدتهم (مكة)؛ يريدون الماء والجنات من النخيل والأعناب، أويطلبون المعجزات المادية تعنتاً وإعراضاً، إنهم لا يريدون أن يستعملوا عقولهم ويرتقوا بتفكيرهم أن هذا الدين هو خير لهم في دنياهم وآخرتهم.
قال تعالى: {وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا . أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا . أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا . أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ۗ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا} [ الإسراء:90-93].
كان الجواب عن كل هذه الطلبات المتعنتة: هنا شيء أفضل لكم من كل ما طلبتموه ، إنها الرسالة، وفي سورة هود قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ ۚ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هود:15].
إنه منهج خاتمة الرسالات، يجب أن يرتقي الناس ويفكروا في آيات الله في الأنفس والآفاق، في هذا الفرقان والنور الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وما فيه من توحيد وتشريع ومنهج حياة للإنسان هو خير لهم في حياتهم الدنيا، والآخرة خير وأبقى.
هذا خطاب للبشرية كلها، ويمكن أن يكون تنبيهاً أيضاً للذين استجابوا لدعوة القرآن وذلك ليقطع عنهم الأطماع المادية من مال أو جاه وحتى تتطهر قلوبهم وتصفو نياتهم من كل شائبة، خاصة وهم في فترة الإعداد والتأسيس، فترة التربية على المهام الصعبة، لابد أن يكون العمل كله لله، وأمر الدنيا سهل وليس ببعيد، إنها التزكية المتواصلة التي يحتاجها الإنسان في كل مراحل حياته، وسنلاحظ في سورة الأنعام كيف تتابعت الآيات من مرحلة إلى أخرى لتصل إلى النتيجة المطلوبة من المؤمنين.
تبدأ الآيات بذكر طبيعة هذا الدين وأنه يطلب من البشر استخدام عقولهم والاستجابة لهذه الدعوة، وأن طلباتهم المادية تدل على ضعف تفكيرهم، قال تعالى: {قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام:50]، ثم جاءت الآية بعدها لتقول للرسول صلى الله عليه وسلم: يجب أن تهتم بهذا الصنف من البشر الذين عندهم القابلية للاهتداء والتجاوب مع نداء الوحي {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَىٰ رَبِّهِمْ ۙ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام:51]، ثم تلتها الآية التي تقول للرسول صلى الله عليه وسلم أن هناك أناساً مخلصين لله يستحقون التقدير وأن يقربوا ولا يبعدوا {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:52].
عندما يقرب الرسول صلى الله عليه وسلم هؤلاء الناس يتعجب المترفون من الملأ كيف يقرب هؤلاء الضعفاء الذين لا يملكون مالاً ولا جاهاً، هذا هو مقياس أهل الترف الدنيوي، ويرد القرآن عليهم {وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَٰؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا ۗ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53]، ثم جاءت النتيجة المطلوبة من هذا التمحيص وهذا الإعداد حيث يتربى جيل يحمل أعباء الرسالة، إنه جيل فريد {وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55].
يقول صاحب الظلال: "يؤمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقدمها (العقيدة) للناس هكذا، عاطلة من كل زخرف لأنها غنية عن كل زخرف، وليعرف من يفيئون إليها أنهم لا يفيئون إلى خزائن مال ولا إلى وجاهة دنيا، إنما إلى هداية الله، إن اتباع الوحي وحده هداية وبصر، والميزان الصحيح هو الدين والأخلاق والتقوى، لقد نفر المستكبرون يقولون: كيف يمكن أن يختص الله من بيننا بالخير هؤلاء الضعفاء الفقراء، لوكان ما جاء به محمد خيراً ما سبقونا إليه".
إن قوله تعالى {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} يوضح حاجة المسلمين في كل عصر لأن يزول عنهم الغبش، ويعرفون أعداءهم معرفة تفصيلية حتى لا يقعوا في فخ المؤامرات والدسائس مرات ومرات.
محمد العبدة
رئيس تحرير مجلة البيان الإسلامية سابقًا وله العديد من الدراسات الشرعية والتاريخية.
- التصنيف:
- المصدر: