الموقف الخبّابي
إنه التفاؤل يا أحبّة في شدة اليأس، وصعوبة الأحوال المحيطة بالإنسان، إنها كلمات تقول لكل محزون وبائس: الدين دينُ الله، والله حافظُه، بل ومتكفلٌ بنشره؛ فابحث لك عن موطئ قدَمٍ في نصرته
في يوم من أيام مكة الشهيرة بحرارة شمسها، والملتهبة بسياطها التي أدمت ظهور المؤمنين المستضعفين، في أيام مشحونة بالأذى المتتابع على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، جاء خباب بن الأرتّ رضي الله عنه -وهو من قدماء الصحابة إسلامًا، ومن أشدّهم تعرّضًا للأذى- إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة، وهو في ظل الكعبة، وقد لقي من المشركين شدّة، فقال: يا رسول الله، ألا تدعو الله؟ فقعد وهو محمرّ وجهه، فقال: « » (صحيح البخاري؛ برقم: [3852]).
هذا الموقف (الخبّابي)، وهذه النفس المشحونةُ بأنواعٍ من الألم النفسي بل والجسدي، تتكرر صورتها في واقعنا وبألوانٍ مختلفة، ومشاهد متنوعة، تلتقي عند همٍّ رساليِّ، ومقصدٍ إيماني شريف، وحدَبٍ على هذا الدين، والضيقِ ذرعًا باشتداد الغربة، واستحكامها في بعض الأزمنة والأماكن.. فيأتي الجوابُ النبوي المليءُ بالسكينة واليقين، والمحشون بتفاؤل يبدّد غيومَ اليأس التي علت قامةَ خباب الكبيرة، لا ليخبره بأن أمَدَ هذا الأذى سيتوقف، بل ليُقسم له -وهو الصادق البارُّ صلى الله عليه وسلم- بأن هذا الدين الذي يحاصَر في شعاب مكّة، ويتسلط صناديدُ الكفر على ضَعَفة أهله؛ سينتشر انتشارًا يبلغ من أثره أن يسير الراكبُ من صنعاء إلى حضرموت -وهي مناطق يتيه فيها الذكي، ويخاف فيها القوي-، لا يخشى شيئًا سوى الله الذي اختار هذا الدين الخاتم، والذئبَ على غنمه!
إنه التفاؤل يا أحبّة في شدة اليأس، وصعوبة الأحوال المحيطة بالإنسان، إنها كلمات تقول لكل محزون وبائس: الدين دينُ الله، والله حافظُه، بل ومتكفلٌ بنشره؛ فابحث لك عن موطئ قدَمٍ في نصرته: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام من الآية:89].
إن هذا الموقف النبوي، ليؤكد حاجةَ الأمة إلى ذلك العالم الذي لا تهزّه رياحُ الأحداث، ولا تفُتّ في عضده المتغيرات التي ظاهرها الشر، بل لا يزداد بها إلا بصيرةً ويقينًا بصدق موعود الله، كما قال سلف هذه الأمة، في غزوةٍ من أصعب الغزوات النبوية: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22].
ما أحوج الأمّة إلى أولئك العلماء الربانيين، الذين إذا جاءَهم الناسُ وجدوا فيهم من اليقين والثقة ما يبدّد قلقَهم، وأذكر ههنا شاهدَين من شواهد التاريخ، أحدهما كنتُ شاهدا عليه:
الأول: ما ذكره ابنُ القيّم عن شيخه ابن تيمية فقال: "وعَلِمَ الله، ما رأيتُ أحدًا أطيب عيشًا منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرّهم نفسًا، تلوح نضرةُ النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوفُ وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض؛ أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامَه فيذهب ذلك كلُّه، وينقلب انشراحًا وقوةً ويقينًا وطمأنينة" (الوابل الصيب، ص: [48]). انتهى كلامه.
ومن قرأ ما سطّره ابنُ تيمية في حديثه عن غزو التتار، وما نقله تلميذُه ابن كثير؛ أدرك شيئًا من عظمة هذه النفس في زمن الشدائد، وما كانت عليه من التفاؤل واليقين بنصر الله، في لحظات عصيبة، تُشبه ما مرّ بالمسلمين يوم الأحزاب.
الثاني: ما كان عليه سماحة شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله ، فأشهد بالله أنه كان من أعظم الناس صبرًا، وأكثرهم فألًا ويقينًا، وكان كالبحر الخضم، لا تكدّره الخطوب، ولا تُثني عزمَه الحوادثُ على شدتها، ولا يزداد بذلك إلا بصيرة، وكان دائمَ الحث على العمل لهذا الدين، والدعوة إلى بذل كل جهد ممكن في نصرته، يترجم ذلك قولًا وعملًا.
إن نبرة اليأس إذا كانت غير مستغربة من عامة المسلمين؛ فلا يصحّ أبدًا أن يسري هذا الداء إلى أهل العلم على اختلاف مستوياتهم، مهما كانت الظروف، تأمل قوله تعالى في وصبة يعقوب لبنيه: {وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف من الآية:87]، "فالمؤمنون ما داموا مؤمنين لا ييأسون من روح الله" كما قال ابن تيمية رحمه الله.
ويضيف معلقًا على سورة يوسف: "وهذه السورة تضمنت ذكر المستيئسين، وأن الفرح جاءهم بعد ذلك؛ لئلا ييأس المؤمن؛ ولهذا فيها: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف من الآية:111]...، ومن المعلوم أن الله إذا وعد الرسلَ والمؤمنين بنصرٍ مطلق -كما هو غالب إخباراته- لم يقيِّد زمانَه ولا مكانَه ولا سنتَه ولا صفتَه" (مجموع الفتاوى: [15/184]) انتهى.
والخوف والله هو من تقصيرنا في نصر دينه، وإلا فالأمر كما قال ابن القيم:
والحق منصورٌ وممتحن فلا *** تعجب فهذي سنة الرحمن
وبذاك يظهر حزبُه من حرْبِه *** ولأجل ذاك الناسُ طائفتان
اللهم املأ قلوبنا ثقة بك، وتوكلًا عليك، واجعلنا من أنصار دينك، ومن حملة شريعتك.
عمر بن عبد الله المقبل
الأستاذ المشارك في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة القصيم.
- التصنيف:
- المصدر: