مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ

منذ 2016-12-01

إننا حين نتكلم عن تعدد الزوجات كقضية شرعية كثر اللغط فيها فإن علينا أن نجيب عن سؤالين: الأول: ما حكم تعدد الزوجات في الشرع؟ الثاني: هل هذا الحكم ظلم المرأة فعلا كما هو مزعوم؟

الحمدلله الرحيم الرحمن، الذي خلق الإنسان ولم يتركه هملا بل علّمه البيان، وسنّ في جنسه سُنّة التدافع وأرشده إلى الإيمان..

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهُ العالمين، أعلى الحق وهدى به قلوب من تبعوه فكانوا من الفائزين، وأزهق الباطل ونكت به في قلوب المتكبرين، فما عادوا ينتفعون بالنور وقد كانوا من قبل مستبصرين، فلله العزة ولرسوله وللمؤمنين..

وأشهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أرسله كافة للناس تفضلا وتكرما، فأزال به الغشاوة و محا عن القلوب العمى، و جعل اتباعه شرفا ومغنما، وتكذيبه إثما ومغرما، فاللهم صلّ عليه وعلى آله وأتباعه ما طار طير في السما..

ثمّ أما بعد:

فإننا نعيش أياما كثرت فيها الجدالات حول الأحكام الشرعية في كل ناد، وقد فتحت وسائل الإعلام في عصرنا الباب على مصراعيه أمام كل متكلم، فلم يعد لدى الناس وقت يفكرون فيه فيما يسمعون ولا فيما يتكلمون، مما أدى إلى انتشار أفكار خاطئة معرفيا وسلوكيات غير لائقة أخلاقيا بشكل كبير.

وأعظم ما ابتلينا به أن تطرق الأمر إلى الأحكام الشرعية، فنرى الناس يغدون ويروحون خائضين فيها بالتظلّم حينا وبالتخطئة حينا، وتالله إن من عصمه الله من مثل هذا لمعصوم..

وقد تزامن هذا مع واقع معوجّ تعيشه المرأة عالميا، وتعيشه المرأة المسلمة بصورة عالية التركيز، ولهذا الإعوجاج أسباب مهمة لعلنا نفرد لطرف منها الحديث قريبا، لكن ما نحن بصدده الآن هو إلقاء الضوء على مسألة تخص المرأة المسلمة، قد طال جدل النساء - بل والرجال - فيها وكثر الاشتباه حولها، وتطرّفت ردود الأفعال بشأنها بين إفراط و تفريط، والحق بينهما أبلج.

إننا حين نتكلم عن تعدد الزوجات كقضية شرعية كثر اللغط فيها فإن علينا أن نجيب عن سؤالين:
الأول: ما حكم تعدد الزوجات في الشرع؟
الثاني: هل هذا الحكم ظلم المرأة فعلا كما هو مزعوم؟

ومحاولة للجواب على هذين السؤالين أقول:

إن مسألة تعدد الزوجات مباحة الأصل في الإسلام، قال الله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3]؛ ولكنها لا تقتصر في كل الأحوال على هذا الحكم، بل تجري عليها الأحكام التكليفية الخمس (الوجوب، الاستحباب، الإباحة، الكراهة، الحُرمة)، وذلك يكون بحسب الأحوال والظروف المعيّنة، ككثير من الأمور المباحة الأصل، فالنوم مثلا مباح في أصله؛ لكنه يحرم إذا كان عن فريضة وقد توعّد النبي صلى الله عليه وسلم فاعله بوعيد شديد فأخبر أن رأسه تُثلغ بحجر (1) إذ ينام عن الصلاة المكتوبة، وقد يكون مستحبا إن نوى فاعله التقوّي على عبادة الله عز وجل، كما كان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول: "إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي" (2). والسفر مثلا، مباح الأصل لكنه يحرم إذا كان لمعصية، وكرهه بعض الفقهاء صبيحة يوم الجمعة بلا حاجة (3) مع أنه مباح الأصل.. وغير ذلك من الأمثلة كثير، يضيق المقام عن التفصيل فيها.

ومسألة التعدد من المسائل التي تختلف بحسب الأحوال، ولهذا لا يصح تعميم الحكم فيها -كما انتشر- بأنه مستحبّ على الإطلاق!، بل إن بعض الفقهاء استحبّوا الاقتصار على واحدة إن حصلت بها العفة، وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة (*)؛ كما أنّ الله تعالى لمّا شرع التعدد لم يُبِحه مطلقا، بل شرط له، قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3].

فإذا غلب على ظنّ الرجل أنه لن يستطيع العدل بين نسائه لا يجوز له أن يتزوج ثانية، وإن فعل فإنه يأثم بذلك ويكون مخالفا لشرع الله سبحانه وتعالى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل» (رواه أبو داود والترمذي).

ولننظر كيف أن الله سبحانه حمّل الرجل مشقة تقييم حاله، وأوكله في ذلك إلى تقواه و ورعه: هل يقدر على أمر عظيم كهذا ويضطلع بالقيام على أسرة مسلمة جديدة؟ أم أنه لا يقوى فيقتصر على قدر طاقته؟

نعم، جاء التعبير القرآني الأبلغ {فَإِنْ خِفْتُمْ}، ولم يقُل ظننتم مثلا، ليُشعره أن الأمر أعظم من مجرّد الاستمتاع بامرأة "طابت" له فأرادها في حلال، لأن هذا الاستمتاع وإن كان مشروعا بالدلائل المستفيضة، وإن كان تحصل به العفّة وتُشبع به الفطرة السليمة ليصل المسلم إلى حالة من الاتزان يستطيع معها أن يؤدي ما أمره الله به في دينه ودنياه، إلا أنه -أعني الاستمتاع- يبقى عاملا واحدا من عوامل قيام الأسرة المسلمة، فلا يجوز لنا أن نتخطى باقي العوامل والمسؤوليات التي لم يغفلها الشرع الأغرّ -في ظروف أصعب من ظروف من يريد الزواج الثاني- من أجل عامل واحد؛ ولنتأمل حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» (رواه البخاري ومسلم).

ولم يقُل -بأبي هو- (ومن لم يستطع فليتزوج وهو لا يستطيع الباءة!)؛ بل أرشد هذا الشاب الذي فارت شهوته وأراد أن يُعفّ نفسه لكنه لا يجد!، أرشده صلى الله عليه وسلم إلى الصوم كي تهدأ نفسه شيئا فيُعصم عن الحرام، ولم يُسقط عنه مسؤولية الإنفاق مع قوة داعية إلى الزواج، و قد قال الله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33]، ولم يرشدهم للزواج وهم لا يقدرون على نفقته.

فكيف بمن له زوجة يبتغي بها العفاف؟ أيُسقط الشرع عنه المسئولية إن هو أراد زواجا ثانيا؟
كلا! بل أقام عليه مسؤولية أعظم وأشمل من النفقة، وهي مسؤولية العَدل، العدل بين امرأتين بل بين سائر حاجات بيتين تسري فيهما الحياة.. عدل في المطعم والملبس والمضجع وحُسن المعشر.. ما أعظمها من مهمّة!

ويحسن بنا أن نشير إلى أن العدل المقصود لا يعني المساواة مطلقا في كل صغيرة وكبيرة، فإن المساواة بين المختلفات هي عين الظلم إلا ما كان من باب الفضل والإحسان، وإنما العدل المقصود هو إعطاء كل واحدة ما يكفيها وتصلح به حياتها، وقد يكفي واحدةً ما لا يكفي الأخرى، وعلى هذا الزوج أن يوازن بين الحاجات ويقسم بينهما فيها "عدلا" لا اشتهاء، وهو في تلك القسمة والعطاء موكول إلى خشية الله سبحانه، الذي سيحاسب في حقوق العباد بالذرة وبمثقال الذرة وسيسأل كل راع عن رعيته.

ولعل القارئـ/ة يسأل: فإذا تزوج الرجل مرة أخرى فظلم، أين تذهب المرأة ولمن تشكو؟ هو سيأثم وسيحاسب في الآخرة لكن ماذا عن الدنيا؟ هل تبقى ترسف في أغلال الإذلال؟

فالجواب: أن الزواج في الشرع ليس سجنا لأحد الطرفين، لا المرأة ولا الرجل، بل هي صُحبة شريفة قوامها المعروف في الإمساك، فمتى اختل شرط المعروف حُقّ لهما أن ينفصلا، وليس الطلاق عيبا، بل هو حلّ مشروع في تلك الحالة، فلتطلب الزوجة الطلاق لتنجو من الظلم أو من وقوع الضرر عليها ماديا أو معنويا، كما صحّح بعض الفقهاء للمرأة أن تشترط أن لا يتزوج زوجها عليها وأوجبوا على الزوج الوفاء بهذا الشرط، فإن خالفه فلها طلب الفسخ.

قال ابن قدامة -رحمه الله-: "وجملة ذلك أن الشروط في النكاح تنقسم أقسامًا ثلاثة: أحدها: ما يلزم الوفاء به، وهو ما يعود إليها نفعه وفائدته، مثل أن يشترط لها أن لا يخرجها من دارها، أو بلدها، أو لا يسافر بها، أو لا يتزوج عليها، ولا يتسرى عليها، فهذا يلزمه الوفاء لها به، فإن لم يفعل، فلها فسخ النكاح." (4)

فأي ظلم لها في هذا؟!
فإن قيل: لماذا لا يؤمر الزوج لزوما بالاقتصار على واحدة كما تؤمر المرأة بالاقتصار على زوج؟
قلنا: لأن طبائع الرجال والنساء تختلف، وكذا الحاجات النفسية والبدنية لكل منهما فضلا عن ما يتعلق  بالتناسل ونسبة الأولاد وما إلى ذلك؛ فقياس الرجل على المرأة هنا قياس فاسد، والمساواة بينهما في هذا مخالفة للحكمة.

فأي ظلم ظلمه الإسلام لهذه المرأة حينما خيّرها بين البقاء مع زوجها أو طلب التطليق إن ظلمها أو تضررت بزواجه الثاني؟ .. أي صورة للعدل تُرتسم في أذهان من يدّعي هذا الادّعاء؟

أهي صورة الرجل القادر العادل الذي لا ينظر إلا لامرأة واحدة؟

إن هذه الصورة ليست صورة العدل الوحيدة، بل صورة الذي نهواه جميعا، ولا ننكر أننا نهواه، بل ننكر حصر العدل في معناه اختزالا لهذا المفهوم الجليل وفق رغبات شخصية، ووصما لكل ما سواه بالظلم زورا وبهتانا..

وهذه الانتقائية لصور المفاهيم إن دلّت على شيء فإنما تدل على  ضيق أفق  المتلبسين بها وعلى التعلق العاطفي للمعترضين على مشروعية التعدد بأمور أخرى غير حفظ حقوق النساء، وما هو إلا اتباع للأهواء..

ومما يؤكّد ذلك، حصر معنى "المرأة" في صورة (الزوجة الأولى)!.. والزوجة الثانية أو الثالثة أو الرابعة؟ أليست امرأة تستحق أن نبحث في حقوقها؟

لماذا توصم الزوجة الثانية كثيرا برقّة الديانة وتخريب البيوت وخطف الرجال؟ أليس لها الحق في أن تُعفّ نفسها وتتقي الفتن وتعيش حياة آمنة طيّبة مع زوج عادل قادر؟ .. ستقول الأولى: نعم لها حق في ذلك، لكن ليس على حساب حقوقي.

والحقّ أن أداء حقوق الزوجة الأولى ليست مسؤولية الزوجة الثانية، بل مسؤولية الزوج، فهو الذي أتى الثانية طالبا أن يضمها للأولى، وهي قد رضيت منه بما يطالب هو الأولى أن ترضى به من القسمة، فإن أبَت الأولى فليس للثانية ذنب، لا سيما إذا كان الرجل قادرا عادلا حَسَن المعشر.

وكأني ببعض النساء لا يُردن الطلاق، ولا يُردن البقاء مع جارة تشاركهن في الزوج، ألا فليعلمن جميعا تلك الحقيقة الجليّة.. إنه لا توجد امرأة فطرها الله على طبائع النساء تحب أن يشاركها امرأة في زوجها! بل كلهنّ يكرهن ذلك وإن اخترن البقاء مع أزواجهن فإنهن يتكلّفن الصبر لأسباب قد تتفق أو تختلف في مضامينها، ويبقى الاشتراك في الصبر على خلاف المراد تحقيقا لمصالح أخرى أعظم.

وقد كانت أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن يغَرن، وهنّ أطهر النساء قلوبا، فلم يُنكر الشرع عليهن تلك الفطرة إلا إذا قادت صاحبتها إلى نوع من الظلم، فيأمر بردّ المظالم ولا يأمر بقلب الطبائع، فعن أنس رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم عندَ بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصَحْفةٍ فيها طعامٌ، فضربت التي النبيُّ صلى الله عليه وسلم في بيتها يدَ الخادم، فسقطت الصَّحْفةُ، فانفَلَقَتْ، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فِلَقَ الصَّحْفَةِ، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: «غارت أمُّكم»، ثم حبس الخادمَ حتى أُتِي بصَحْفَةٍ من عند التي هو في بيتها، فدفع الصَّحْفَةَ الصحيحة إلى التي كُسرت صَحْفَتُها، وأمسَكَ المكسورة في بيت التي كسَرَتْ" (رواه البخاري). فردّ المظلمة لصاحبتها وترفّق بها ولم يكّلمها في أصل غيرتها.

فليس حديثنا هذا داعيا إلى قلب الطبائع ولا هو حثّ النساء على حبّ الضرائر، فضلا عن أنه ليس في الشرع ما يأمر امرأة بتزويج زوجها؛ ولقد ذاع خبَر داعيات إلى ذلك باسم الدين في خطاب مُحدَث، لم يقُل به النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا التابعون لهم بإحسان ولا حول ولا قوة إلا بالله..

ولكن ما ندعوا إليه بالتحديد هو أن تعرف المرأة المسلمة حقوقها وأن تتيقّن أن الله تعالى لا يظلم مثقال ذرة، فترضى بتشريعه الذي راعى فطرتها ولم يجبرها على نقيضها بما لا يتعارض مع حقوق الآخرين.

===============

(1)رواه البخاري.

(2)رواه البخاري.

(3) قال الشيخ منصور البهوتي في عمدة الطالب: "ويحرم سفر من لزمته قبل الزوال، وبعده يُكره إن لم يأتِ بها في طريقه"

(*) قال الإمام الحجّاوي في الزاد: "ويُسنّ نكاح واحدة" وقال ابن بلبان في أخصر المختصرات "ويسنّ الاقتصار على واحدة"

(4) المغني 15/6