الحرمين والتدويل: بين التهوين والتهويل

منذ 2016-12-10

لا تفتأ إيران تدعو إلى تقسيم المملكة العربية السعودية وتدويل الحرمين الشريفين منذ أن قام الخميني بثورته الطائفية في إيران قبل 38 سنة، تخفض نبرتها تارة وترفعها تارات، وهي هذه المرة لا تمارس أسلوباً جديداً من حيث ظاهر موقفها من السعودية وباطنه، غير أن العدسة التي يتعين النظر من خلالها هذه المرة لابد أن تكون مختلفة.

لا تفتأ إيران تدعو إلى تقسيم المملكة العربية السعودية وتدويل الحرمين الشريفين منذ أن قام الخميني بثورته الطائفية في إيران قبل 38 سنة، تخفض نبرتها تارة وترفعها تارات، وهي هذه المرة لا تمارس أسلوباً جديداً من حيث ظاهر موقفها من السعودية وباطنه، غير أن العدسة التي يتعين النظر من خلالها هذه المرة لابد أن تكون مختلفة.

مرت بالعلاقات السعودية الإيرانية منعطفات كثيرة، وبلغت حدة عالية غير مرة، ولدى الطرفين تاريخ من الصراع ممتد عبر عشرات السنين، له جذور ممتدة بين منطقة نجد والشيعة في الشمال العراقي والشرق الفارسي، ولذا؛ فإن دعوة زعيم إيران علي خامنئي لتدويل الحرمين الشريفين الآن ليست منبتة على الماضيين المتوسط والقريب، بل ليست غريبة عن بعيده أيضاً، حيث كانت الأيديولوجية التي تحكم ملالي طهران هي هي التي حرضت أجدادهم على المضي قدماً في العمل على إضعاف أي دولة سنية في المنطقة، وعلى إهانة الخلفاء العباسيين الضعفاء وكسر هيبتهم وسلطانهم متى استطاع الأجداد إلى ذلك سبيلاً.

غير مستغرب هذه المرة أن تطالب جهات سياسية ورموز طائفية إيرانية بتدويل الحرمين وتدويل الإشراف على المشاعر، والبوح بما وراء هذا من تقسيم السعودية وفصل الحجاز عنها، لكن جديد ما تتعين مناقشته الآن هو المناخ الذي تتصاعد فيه الدعوات هذه المرة، وما التوصيف الذي يمكن إدراك هذه الدعوات تحته:
- الابتزاز؟
أم
- المشروع السياسي؟


للأول وجاهته لأسباب وشواهد عديدة:

فإيران استخدمت هذه المطالبات من قبل بغرض زيادة أعداد حملة حجاجها من قبل بما يميزها عن سائر الدول الإسلامية، وإعطاء بعثتها وضعاً مميزاً في الحج، تحت ذريعة: التدويل كبديل عن التضييق!، وهي استخدمتها في محطات سياسية معينة لها ارتباط بالحرب العراقية الإيرانية التي كانت دول الخليج تدعم فيها العراق، وتنفق فيها السعودية بسخاء على المجهود الحربي العراقي لدفع عدوان إيران، وكذا بغرض كسر وحدة الشعوب الخليجية وتقويض عمل قوات درع الخليج التي تساهم فيها السعودية بنصيب الأسد.. الخ، وهي ماضية بهذه السياسة بأي حال للضغط على السعودية في ملفات اليمن وسوريا والعراق والبحرين، ولديها طموحها في قيادة العالم الإسلامي بإضعاف السعودية، والأهم من هذا كله لدى إيران تحفظ بالغ على جهود علماء ودعاة السعودية في التحذير من النهج الطائفي لها، والديانة التي تتبناها، وفي مسعاهم لتنبيه الأمة حول العالم من ضلال العقيدة التي يتبعها الملالي في إيران ويسعون لنشرها في آسيا وإفريقيا.

لكن أيضاً..

للثاني وجاهته لأسباب وشواهد مختلفة:

لكن أهم ملحظ فيها، هو مدى التوافق التام بين مخططات الصهيونية والصفوية في التداعي على قصعة المسلمين في العالم، هذا التوافق الذي ينم بجلاء عن تطابقين في صعيدي العقيدة والسياسة، سالت في الأول أحبار كثيرة من علماء محققين منذ مئات السنين، عن الجذور اليهودية للتشيع الإثني العشري، ولفتوا فيه إلى أمور منها عقيدة هؤلاء في ضرورة تدمير الكعبة المشرفة كسبب لظهور المهدي (وهو الذي تتشابه صفاته في كتب الشيعة مع صفات المسيح الدجال)، وفي كراهية العرب، وما إلى ذلك. وأما الثاني؛ فاللافت أن الخطط الصهيوأمريكية التي توالت منذ منتصف القرن الماضي، وتسارعت مؤخراً، لتقسيم دول المنطقة، تكاد لا تخلو من خريطة تجزئ السعودية إلى ثلاث دول أو أكثر، وهي بالمناسبة المهمة تتطابق أو تتشابه مع المشروع الصفوي (الإيراني) للسعودية..

وهنا يمكننا أن نقلق:
1. لأن رفع الصوت الإيراني مطالباً بالتدويل مواطئاً لصوت يهودي آخر يعلو يتحدث عن اهتمام "إسرائيل" بمطالبة دول عربية بأملاك اليهود فيها، وتحديداً السعودية ومصر.


2. لأن ما تقوله دوائر السياسة في إيران تقوله مراكز مراكز بحثية صهيونية بارزة، كشلواح وديان وجافي، في إحياء قضية أراضي اليهود بالمدينة المنورة، إذ أعدت بدورها خرائط لبساتين اليهود في خيبر بالسعودية، وتركز على القبائل اليهودية التي جاءت إلى المدينة وإلى مناطق أخرى بالجزيرة العربية هرباً من ظلم الامبراطور أدريان قبل البعثة النبوية بقرون، وتعلموا العربية. حيث لم يكونوا من أهلها.

3. لأن قاله بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي في السبعينات في كتابه "بين جيلين"، من أنه "سوف يكون هناك شرق أوسط مكون من جماعات عرقية ودينية مختلفة على أساس مبدأ الدولة أو الأمة، فتتحول إلى كانتونات طائفية وعرقية يجمعها إطار إقليمي كونفيدرالي، وهذا سيسمح للكانتون الإسرائيلي أن يعيش في المنطقة بعد أن تصفى فكرة القومية"، هو عين ما يفعله قاسم سليماني في المنطقة، بسوريا والعراق ولبنان واليمن، ويسعى هو فيلق القدس الإرهابي الذي يرأسه إلى تنفيذه في السعودية لاحقاً، حيث الخرائط الموضوعة سلفاً متطابقة.

4. لأن ما بدأت قنوات تليفزيونية عربية قريبة من جهاز الاستخبارات الأمريكية تبثه من أفلام وثائقية عما دعته بـ"أملاك اليهود في السعودية" (الحجاز تحديداً) هو مقارب تماماً لما تبثه القنوات الإيرانية من تخرصات عن "حقوق شيعية" في الحجاز ذاته.

5. لأن خريطة "إسرائيل الكبرى" لا تبتعد كثيراً في حدودها لاسيما لجهة السعودية مع الأطماع الإيرانية، والتي تستقطع جزءاً واضحاً من الحجاز.


6. لأنه عند معالجة الحاضر بالتاريخ نكتشف أن ما صدر عن مجلس النواب الصهيوني الأمريكي من قرار عام 2008 باعتبار اليهود الذين تركوا بلادهم العربية إلى "إسرائيل" لاجئين لابد من إدراجهم في أية تسوية خاصة بالشرق الأوسط، والسعي نحو "استرداد" خيبر وفدك بالقرب من المدينة، هو ما يواطئ ما يردده الإرهابي الشيعي ياسر الحبيب الذي تحتضنه بريطانيا للمطالبة بمنطقة فدك التي أطلق اسمها على قناته، والتي يعظمها الشيعة لاعتبارها أرضاً لآل البيت "اغتصبت منهم" على حد زعمهم، ويتطلعون لإعادتها لـ"آل البيت" المدعين، وفدك التي يتطلع الملالي للسيطرة عليها تجاور تماماً خيبر التي قال عنها موشي ديان وزير الحرب الصهيوني عند احتلال قواته للقدس في نكسة 1967 " لقد انتقمنا ليهود خيبر ونحن في الطريق إليها". والمشروعان صنوان.

7. لأن مخططات يينون وحدود الدم وأتلانتيك وخرائط برنارد لويس قد شرع واضعوها بالفعل في تنفيذها، ومحاولات تفكيك سوريا والعراق، ومحاولات ميليشيات الحوثي باليمن اتخاذ أولى خطوات تحريك الحدود باتجاه السعودية عبر جعل المناطق الحدودية غير آمنة، آخذة في التنفيذ، والسعي بالتوازي نحو تقسيم اليمن لشمال وجنوب مرة أخرى.

8. لأن لدى الولايات المتحدة، الراعية للمشروعين الصهيوني والصفوي، سوابق في عمليات التفكيك في الماضي القريب، وقد نفذت بالفعل، في "الاتحاد السوفياتي"، وفي إندونيسيا بفصل تيمور الشرقية عنها، والسودان بفصل جنوبه عنه، ويوغسلافيا، وتشيكوسلوفاكيا، وأما ما لم يكتمل تماماً بفصل كردستان عن العراق، ودعم الحركات الكردية الانفصالية في شمال سوريا، وجنوب تركيا، وبلوش باكستان (دون إيران).

9. لأن ثمة شواهد واضحة للتربص بالسعودية، ليس بحكومتها فحسب، بل بها كبلد شاسع متماسك يضم الحرمين الشريفين، يتجلى ذلك في سماح الكونغرس الأمريكي لأهالي ضحايا 11 سبتمبر بمقاضاة السعودية، والتحريض ضد السعودية بسبب مزاعم عن تسبب قواتها الجوية بقصف مدنيين في اليمن، وبسبب مشاريع اجتماعية يتم الضغط على السعودية من أجل تنفيذها تتعلق بحرمانها من تأثيرها الروحي على العالم الإسلامي بتحجيم دعاتها، والسعي نحو إفقادها العمود الفقري الذي قامت عليه دولتها، وهو العناية بالعلم والعلماء وإيلائهم مكانة رفيعة في المجتمع، وإحلال رابطة "حداثية" هشة بدلاً من ذلك لا تفي للسعودية بوحدتها ولا تحول دون تفككها. والسعي نحو زرع الشقاق القبلي والمناطقي فيها والتحريش بين مكوناتها، والعمل على إفقارها وفق مخطط تتحرك دوائر غربية ومتغربة للضغط من أجل تنفيذه.

يقود هذا وذاك إلى أن لكل تفسيراً وجيهاً لرفع سقف المطالبة الإيرانية بتدويل منطقة الحرمين الشريفين، إما ضغطاً وابتزازاً لحل ملفات خارجية فقط لا علاقة لها بالتقسيم، وإما سعياً حقيقياً نحو الانفصال بعد التدويل، هذا التدويل الذي لا يمكن للكيان الصهيوني أن يطالب به صراحة لحساسية مكة والمدينة، ويمكن للإيرانيين أن يطالبوا به - مؤقتاً - بدلاً منه.

ما الراجح بينهما؟ لا راجح ولا مرجوح؛ فالسياسة الحكيمة لا تبنى إلا على احترام كافة الآراء المعقولة، والعمل بافتراض وقوع أي من السيناريوهات، وفي القضايا المصيرية لا يصلح إسقاط أي احتمال من الحسابات.. لذا، لابد أن يكون الجميع على حذر.