مؤمن آل فرعون

منذ 2016-12-25

في هذه اللحظات التي كاد فرعون أن يمرر قرار قتل موسى كان الرجل هنالك... يسمع ويرى ما يحدث، وفي صدره تتلاطم أمواج بحر لجى من المشاعر المتصارعة هل حانت اللحظة؟

لم يعد ثمة حل مع موسى إلا القتل 
هكذا فكر فرعون وقدر
وهكذا قرر

ذروني أقتله
دعوني أتخلص منه 

اتركوني أخلص البلاد والعباد من شر هذا الذى سيغير عقائدكم، ويضيع دينكم ودين آبائكم، ويظهر في أرضكم الفساد

نعم الرأي هو رأيك سيادة الفرعون
وهل بعد قولك من قول؟!
ما أعظم توجيهات فخامتك أيها المفدى بالأرواح 

لعل هذه الصيحات المؤيدة، والتهليلات الداعمة للقرار، الذي ألمح صاحبهم أنه يريده، وتلميحات سيادته أوامر بلا شك، بل أحلام فخامته لا مفر من تحقيقها بكل السبل  كانت هي ما سمعه فرعون عندما قال كلمته: ذروني أقتل موسى.

ولعل ابتسامة رضا وحبور كانت قد ارتسمت على وجه الطاغية، وقد بدا في الأفق نفاذ مخططه، وبات قاب قوسين أو أدنى من التنفيذ، ودون أن يغير عادته التشاورية، التي يحب أن تصبغ بها قرارته الرشيدة 
لكن الأمر لم يكن عامًا 
ثمة استثناء
هناك رجل لم يقبل هذا الذي يقال 
رجل واحد 
رجل واحد صنع فارقًا..

في هذه اللحظات التي كاد فرعون أن يمرر قرار قتل موسى كان الرجل هنالك... يسمع ويرى ما يحدث، وفي صدره تتلاطم أمواج بحر لجى من المشاعر المتصارعة 
هل حانت اللحظة؟
ليس يمكنه أن يكتم ما يجيش في صدره أكثر من ذلك 
إن صدره لم يعد يحتمل،
المشاعر تتلاطم، والأفكار تصطرع، والنزاع بينه وبين نفسه يحتدم،
هل له أن يقوم لله قومة،
هل له أن يصدع بما فى صدره من إيمان ويجهر بما يخفيه من معتقد كان قد كتمه طويلاً؟!

بلى  قد آن... 

ورغم أن كلماته غالبًا لن تحدث فارقًا مع أمثال فرعون
ورغم أنه سيواجه جبارًا طاغيًا، ربما لم تعرف البشرية يوما مثله..
ورغم غلبة الظن أنه لو تكلم سيصيبه ما سيصيب موسى من مصير..
فما أغناه اليوم عن هذا، وهو على ما هو عليه من الجاه والسلطان..
إنه رجل من الأسرة الحاكمة، وكفى بها مكانة..
هل سيضيع كل ذلك بكلمة؟!
لكن من قال أنها مجرد كلمة؟
إنها كلمة حق وموقف صدق تعين الاحتياج إليه

إنه الحق وكفى به قيمة..
لسوف يصدع الرجل بكلمة الحق، وليكن بعدها ما يكون وليقضي الله أمرًا كان مفعولًا

{أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر:28]. 

كيف استطاع موسى أن يخترق بدعوته قصر فرعون لهذه الدرجة؟
كيف تسللت كلماته ورسالته إلى عقر دار الطاغية؟
كيف عبرت الأسوار، وكيف تجاوزت الأوتاد؟
كيف لم يوقفها الحراس، ولم يحجبها البصاصون، فوصلت إلى أقرب الناس إليه
بالأمس امرأته مرقت عن طوعه وكفرت بربوبيته وآمنت برب العالمين ومعها ماشطة ابنتها
ومن قبلها سحرته وسلاح تخويفه واسترهابه للناس
واليوم رحمه وقريبه..
رجل من آل بيته
من الأسرة الحاكمة
من ذوي الدماء الزرقاء كما يحلو للبعض أن يتعالى.

إن أقوامًا يحجرون الهداية على الخلق ويستسهلون الجزم بطردهم من رحاب الرحمات ويقطعون الأمل في بلغ الهدى إلى نفوسهم لن يفهموا ما حدث
لن يفهموا أن تلك الحركة الدعوية المستمرة لم تعرف حدودًا ولم تحجبها أستار ولا أسوار
ولقد وصلت
حتى داخل بيت فرعون = وصلت

وكذلك الهداية تصل لأي مكان إن أراد الله

وما علينا إلا البلاغ

والإيمان إن خالطت بشاشته القلب فإن آثاره لابد أن تنعكس على سلوك المرء وظاهر حاله
لذلك يرد لفظ الكتمان مع الإيمان عند الاضطرار
وكأنه شيء يريد أن يخرج بكل السبل لكن صاحب العذر يحاول جاهدا أن يكبح جماحه ويسيطر على ظهوره اللاإرادي
وبخلاف الإيمان البارد الذي هو مكتوم وحده ليس له أثر أو علامة = فإن الإيمان الحق  يتوقد في القلوب ويضيء الجوارح وينعكس على السلوك

ولقد كان الرجل المؤمن يكتم إيمانه مترخصًا
وكان له ذلك..
لكن لحظة فاصلة جعلته لا يستطيع الكتم أكثر من ذلك
تلك اللحظة التي قرر فيها فرعون قتل موسى عليه السلام
هنا قرر أن يقوم لله قومة
قرر أن يصدع بما في صدره وقد كتمه طويلًا..
آن أوان الجهر، فقد عظم الكيد، وبلغ الظلم مبلغه وصارت هلكة حبيبه ومعلمه وسبب هدايته وشيكة..
الرجل سيُقتل، والملأ يهللون لقرار الظالم الكفور..
وما طيب العيش بعد ذلك؟!

ولقد وجد دومًا بين الناس رجال من عمومهم صدعوا بالحق وشهدوا بالصدق ونصحوا للخلق
وجد هؤلاء في كل زمان ومكان
قوم ليسوا بأنبياء ولا مرسلين بل هم بشر عاديون غير معصومين، جمع بينهم قول الحق والصدع بالأمر وعدم كتمان الإيمان الذي خالطت بشاشته قلوبهم وامتزج ضياؤه بقناعة عقولهم، لم يشترطوا على ربهم أن تنجح دعوتهم، ولا أن تثمر مسيرتهم ولكنهم ما تلكأوا وما ضعفوا وما استكانوا حينما حانت اللحظة
ومنهم مؤمن آل فرعون
حين جاءت لحظته أيضًا لم يتأخر ولم يتلكأ أو يتعذر
تلك اللحظة التي برزت فيها قيمة الصدع والحرص على الأخذ بيد الخلق إلى الحق كانت قد آنت وحان موعدها ومن ثم تكلم الرجل
وفاض ما في قلبه إلى لسانه وجوارحه...

ولقد كان صدع الرجل المؤمن في البداية لإنقاذ موسى عليه السلام من القتل الذي قرره فرعون
وفيما يبدو قد تحقق له ذلك وتوقف فرعون عن مسعاه على الأقل مؤقتا
لكن الرجل المؤمن لم يتوقف
لم يعد الأمر قاصرًا على الدفاع عن موسى، أو الذب عنه، والتخذيل عن قتله وتلك مقاصد عظيمة..
لكن الأمر تطور إلى دعوة وموعظة وتذكرة عامة، تقصد القلوب وتغمر الأفهام والألباب..
وذلك بعد أن هان الطاغوت في نظره، وانتهى الأمر..
لم يعد غضب فرعون يخيفه، ولم يعد يخشى أوتاده ولا جنده العتيد..
لقد صدع وجهر، واختار العزيمة، ولسوف يستكمل الطريق، ويسلك السبيل، وليكن ما يكون..
لم يعد الأمر فارقًا، ولم يبق للخوف منه أثرا في قلبه 
ما تبقى من الخوف استحال إلي لون جديد..
إنه الآن فقط يخاف على قومه..

ظهر مدى خوفه عليهم ورغبته في هدايتهم  في نداءاته التي كان يتخللها خوفه عليهم ويتبدى من خلال حروفها حرصه على صلاحهم
{يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} [غافر:30].
{وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} [غافر:32].
{يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ[غافر:38].
{وَيَا قَوْمِ مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر:41]..
إنه خوف الحريص على أن يذوق كل الخلق ما ذاقه، وأن يغترفوا مما اغترف..
وخوف المشفق الذي يعلم ما ينتظر من لم يغترف..

وذلك أصل الدعوة بعد ابتغاء مرضاة الله

الحرص على الخلق والخوف عليهم من مصير مجانبة الحق

إنها دعوة الفطرة، والحق، والخيرالعظيم، والنصيحة، والحرص الأمين علي استنقاذ الخلق من العذاب المهين
دعوة نصوح نافعة بهيجة، يجللها الحرص على الإفادة وتفوح منها الرغبة في الخير للمدعو
ألاهكذا فلتكن الدعوة وعلى ذلك فليكن الداعية.
ويالها من قلوب قاسية تلك التي لا تستجيب لمثل هذا الحرص، ولا تتجاوب مع كل هذا اللين والحكمة والموعظة الحسنة.

ولقد كانت كلمات مؤمن آل فرعون بمثابة نصيحة نموذجية شاملة جامعة جمعت بين الترغيب والترهيب والتذكير وضرب الأمثال وتدرجت من المنطق العقلي لتمر بالمعالجة الإيمانية ثم تختم بإعلان واضح لتفويض الأمر كاملا لله بعد تمام بذل الوسع 
منهج دعوي متكامل لم يخل من البعد التاريخي، وزينه تواضع الداعية وأدبه واحترامه للمدعو
إنه كما قلت خطاب دعوي  متكامل يحتاج إلى إدراك تكامل أبعاده أولئك الذين تصدروا منابر الدعوة وتعليم الناس ونصحهم

وفيما يلي تفصيل ذلك:

يبدأ الرجل المؤمن بيانه لقومه ويصدر نصيحته بمخاطبة عقولهم بمنطق بسيط واضح

{أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ} [غافر:28].
هذه هي البداية
موسى لم يقل قوله دون بينات وحجج وأنتم قد رأيتم هذه البينات والحجج ولم تستطيعوا دحضها بل غُلبتم وانقلب سحرتكم صاغرين
فلماذا القتل
وهل تواجه البينات والحجج الداحضة بالسيوف؟!
ثم لنفكر بطريقة منطقية أخرى
هب أنه كاذب كما تزعمون فما الضير الذي سيصيبكم إن تركتموه يقول قولته
{وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} [غافر:28]
عليه وحده لن يضيركم شيئًا
لكن لو كان صادقا وآذيتموه أو صددتم عن سبيله فالويل كل الويل
وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُم

مرة أخرى اطمئنوا..
ْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ
لو أن موسى من هذا النوع -وحاشاه- فلن يهديه الله
فلماذا التآمر عليه وما الداعي لقتله؟!
هكذا أقام الرجل المؤمن حجته العقلية ببساطة ويسر وليظهر المعلم الأول من خطابه الدعوي
مخاطبة العقل واستعمال المنطق الحاسم

ثم التواضع والأدب الجم..
ملمحان من الملامح الواضحة في شخصية مؤمن آل فرعون والتي تظهر جلية على كلماته التي وجهها لقومه أثناء دعوته لهم ليؤمنوا
ظهر ذلك التواضع عدة مرات في نداءاته المتكررة التي لم يستنكف أن يظهر فيها خوفه والتي سبق وأشرنا إليها
يصعب جدًا على المتكبر أن يعترف أنه يخاف 
لكن مؤمن آل فرعون أعلن خوفه على قومه والهم الذي يجيش به صدره خشية العذاب الذي سينالهم
وخوفه كان ممزوجًا بالمودة والدماثة
لقد نجح في أن يظهر في طيات خوفه تلك المودة والرحمة بأهله ليفهم الجميع أن خوفه نابع عن حب
وتجلى ذلك بأوضح صوره حين نسب إليهم وحدهم الملك ولم ينسبه لنفسه معهم رغم أنه منهم
{يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ} [غافر:29].

لكن لما جاء دور المصير وحان وقت التخويف من بأس الله = شمل نفسه معهم 
{فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29].
هاهنا ضمير المتكلم الذي يتعلم منه كل داعٍ إلى الله درسًا غاية في الأهمية
لا تدعو الخلق من برجك العاجي
لا تشعرهم أنك أفضل منهم أو تستعلي عليهم بدعوتك
كن جزءًا من واقعهم يشملك ما يشملهم
لكن إن جاء دور المغنم وذكر المُلك والجاه فإن استطعت أن تنأى بنفسك عن ذلك فافعل
فلير الجميع أنك زاهد فيما بأيديهم وأنك لا تسعى لنيل متاع دنياهم لكنك مع ذلك واحد منهم 
وقد يصيبك ما يصيبهم  {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29].

و يظهر بوضوح على خطاب مؤمن آل فرعون ذلك التوازن بين الترغيب والترهيب..

إنه كما سبق وأوضحت أحد نماذج الخطاب الدعوي المتكامل الذي احتوى بين حروفه جميع أركان الدعوة التي تطرق على أبواب الأنفس المتباينة  لعل أحد تلك الأبواب الموصدة يُفتح ليتسرب من خلاله نور الحق
ومثل هذا الخطاب الشامل لا يخلو من ترغيب وترهيب وصلة بالمآل والمصير سواءً كان دنيوياً أو أخروياً
لذا ستجد في خطاب المؤمن الإشارة إلى القرار الأخروي وتصحيح النظرة للدنيا التي هي مجرد متاع فانٍ بالنسبة للآخرة الباقية
{يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر:39]

لكن هذا المتاع أيضًا قد يزول بل قد ينقلب إلى عذاب إن لم يرع الإنسان حق النعم التي يحويها 
من هنا ستجد الترهيب من العقوبة الدنيوية وضرب نماذج لأقوام لاقوا تلك العقوبة
{وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} [غافر:32].
{مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ} [غافر:31]

ثم يعاود الكرة ليُذكِّر بالآخرة والترهيب من العقوبات التي تكون في تلك الدار
{وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ . يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر:32-33].

{لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:43].

ثم يأتي التصريح بذكر الجنة وما فيها من رزق منهمر بغير حساب
{وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر:40].
وهكذا ينتقل المؤمن في دعوته بين الترغيب والترهيب وينتقي من بساتين الوعظ قطوفًا دنيوية وأخروية يحاول بها استمالة تلك القلوب القاسية.

هذا الخطاب المتوازن الذي يحمل جميع عناصر الترغيب والترهيب  الدنيوي والأخروي يعده بعض متنطعي اليوم = نقصًا وسطحية في الطرح ويظنون أن شقشقاتهم وفلسفاتهم المتكلفة هي أغنى وأعظم ثمرة وأشد تأثيرًا وقدرة على التغيير من ذلك الطرح القرآني الذي ضرب له مثلاً بشخصية هذا الرجل المؤمن الذي لم يستنكف أن يستعمل هذا الأسلوب الذي يتعالون عليه
أسلوب الترغيب والترهيب..

ولم تخل دعوة مؤمن آل فرعون من العمق التاريخي ولم تغب عن خطابه الجوانب الثقافية والمعرفية
لم يكن داعية ذا فقر معرفي أو كان خطابه الدعوي مفتقدًا لعناصر الجذب القصصي ولكن على العكس كان نموذجاً للداعية القادر على استحضار تاريخ أمته واستدعاء شيء من الأحداث التي مرت بها وأثرت في مسارها ووضع ذلك في الإطار المناسب لاستعماله في دعوته 

ظهر ذلك في استدعاء الرجل لسيرة نبي الله يوسف عليه السلام واستخلاص العبر والعظات منها
{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ} [غافر:34].
كأن الرجل ينبه قومه إلى تجذر تلك الآفة فيهم وفي أسلافهم
إن لهم سوابق شك وتكذيب بالحق لما جاءهم 
لقد فعلوها من قبل مع يوسف رغم ما له من منة على أهل مصر إذ رسم لهم خطة النجاة من المجاعة 
رغم ذلك الشك في دعوته طريقا إلى قلوبهم

{حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ} [غافر:34].

كأنكم قد ارتحتم بهلاك رسول وظننتم أن تتركوا دون نذير وأن يذركم الله لتفلتكم وإسرافكم على أنفسكم

لكن هيهات
ها قد جاءكم موسى
وها قد نبهكم من آمن به

ولعل من أهم وأرقى الخصائص التي اتصف بها مؤمن آل فرعون وظهرت على خطابه بشكل واضح كما ظهرت على سائر الخطابات الدعوية في القرآن وعلى كافة حاملي الرسالة = التركيز على الهدف وعدم الانصراف للمعارك الجانبية التي يحاول المبطلون إشغال الداعي بها

وفرعون من محترفي تلك الطريقة بامتياز
لقد فعلها مع موسى من قبل أكثر من مرة

بمجرد أن أتاه موسى برسالته وطالبه بإرسال بني إسرائيل معه حاول فرعون صرفه إلى معارك جانبية {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ . وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء:18-19]

كان من الممكن لنبي الله موسى عليه السلام أن يرد بردود كثيرة وأن يبرر مقتل الرجل المصري

كان من الممكن أن يبين أنه قتل خطأ وأنه لم يكن يقصد قتله
كان من الممكن أن يوضح أن الرجل كان معتديًا صائلاً وأنه كان يدفعه
كان من الممكن أن يربط الأمر بجرائم فرعون الكثيرة في حق قوم موسى من تذبيح أبنائهم واستحياء نسائهم
كان من الممكن أن يقول الكثير والكثير..

لكنه لم يفعل

لم يستدرج إلى مراء التبرير ولم يضيع الوقت في متاهات الجدال
إنه صاحب رسالة جاء لمهمة ولديه هدف عليه أن يحققه

لقد تجاوز تشغيب فرعون باعتراف مباشر بسيط قائلا: {فعلتها إذا وأنا من الضالين} [الشعراء:20]

نعم قد فعلت ولن أقف طويلاً مع هذا الأمر أو أدفع عن نفسي شيئًا قد حدث وقد نُفيت بسببه سنين عددًا بعد أن تآمرتم لقتلي دون تحقيق أو تبين
فعلها وتاب عنها واستغفر في حينها ودفع الثمن من سنين غربته وإبعاده
فعلها إذن ولم يبررها أو يزينها
ثم عبر إلى الأهم
إلى دعوته ورسالته
لم يضيع الوقت في غيابات التبريرات ليذهب مباشرة إلى هدفه الذي يعلو على الاشخاص والأحداث ويسمو على التفاصيل والزلات
دعوته إلى ربه
قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ 
استمر فرعون في تشغيبه وتشويشه بالمعارك الجانبية
{قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء:25] 
لم يلتفت موسى وأكمل: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء:26]
فما كان من فرعون العاجز عن رد الحجة بمثلها إلا أن استمر في تفاهاته وحماقاته {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُون} [الشعراء:27].

تشغيب بالسباب والإهانة والانتقاص والتشكيك في شخص الداعي
فهل التفت موسى أو رد هذه التهم السفيهة عن نفسه؟!
أبدًا
بل استمر في مهمته السامية
{قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:28] 

هنا أفلتت أعصاب الطاغية وظهر تمام عجزه في إكراهه وإجباره وقمعه
{قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَٰهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِين} [الشعراء:29].
ومع كل هذا استمر موسى ولم يلتفت

ويبدو أن الرجل المؤمن قد تعلم الدرس من نبيه الذي آمن برسالته
لقد حاول فرعون اتباع نفس أسلوب التشويش المتهافت مع الرجل الذي قيل أنه ابن عمه فقابل دعوته بكلمته الفاضحة لحقيقته
وبعد أن كانت البداية {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ} [غافر:26]​ يدعي بها أنه حريص على الشورى واعتبار رأي من حوله إذا به يظهر حقيقة طغيانه  {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29].

فهل التفت الرجل المؤمن أو انشغل بتشغيبه 
الجواب: لا
{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} [غافر:30]
استمر في دعوته غير آبه بترهات فرعون التي وصلت إلى مستوى من السماجة والضحالة لم يسبق له مثيل

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ . أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ} [غافر:36-37]​

إنها نبرة مألوفة من نبرات سخرية وربما حماقة الفراعين..
هل تمزح يا فرعون؟
أى صرح من الطين ذلك الذي سيبلغ أسباب السماء؟!
أوبعد كل تلك الحجج والبينات التي أتاك بها موسى، ورددها مؤمن آل فرعون على
مسامعك لازلت تكابر، وتتحدى، وتمارى؟!

ما أثقل ظل الفراعين وما أشد سماجة الطاغين

الحقيقة أنها ليست شبهة أصلًا فقد ختمها بقوله: {وَإِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر:37]
إنه كالعادة التشغيب والسخرية والتسفيه وتزيين سوء العمل والصد عن السبيل
{وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ} [غافر:37]

ومثل هذا لا يلتفت إليه

لذا لم يلتفت إليه الرجل المؤمن من آله وأكمل دعوته الهادئة الوضيئة واستمر في أشرف وأحسن قول يمكن أن يوفق إنسان لقوله..

البلاغ عن الله..
الدعوة إلى الله..
أكمل موعظته دون التفات لسماجة أو سخرية وتشغيب عساها أن تجد قلبًا ينشرح لها، بدلًا من قلب هذا الطاغية القاسي المظلم العتيد..
أكمل كأن لم يسمع تلك الشبهة التافهة
أكمل لأنه يعرف هدفه ولا ينشغل إلا به
وكذلك حامل الرسالة 
ليس لديه ترف تضييع الوقت في معارك جانبية فلا ينشغل إلا بهدفه ولا ينفق وقته أو يضيع حياته القصيرة إلا ابتغاء تحقيقه والعمل لأجل الوصول إليه


ثم يختم الرجل المؤمن بلاغه، ويتم دعوته، ويكلل جهده بتسليم مطلق وتفويض تام لملك الأنام

{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّـهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]

لم يشترط حدوث الاستجابة ولم يربط دعوته بامتثال أو قبول من مدعويه كما يفعل البعض

بل فوض أمره إلى من إليه يرجع الأمر كله

قد كفى ووفى وأدى ما عليه وجاء دور التوكل 

{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].

إذن فليفعل فرعون ما يشاء 
فليرغ ويزبد، وليستشط غضبًا، وليملأ قصره بصدى غيظه = فلا ضير 
فليكد له كما يريد، وليمكر به كما يحب فلن يصل إليه!
لقد فوض الرجل إلى قدير، وقد صدر الأمر الإلهى، واشتملته دروع الوقاية، وترست دونه متاريس الحفظ 
لن يصلوا إليه، فقد وقاه الله سيئات ما يمكرون

أما فرعون ومن حوله من المهللين  فقد قضى في أمرهم وحاق بهم سوء العذاب ولعذاب الآخرة أشق، ولكن أكثر الناس لا يعلمون 

{فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ . النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:45-46].

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام