مع القرآن - يوسف يستكمل خطته

منذ 2017-02-06

أدخلهم يوسف في متاهة لا يدرون كيف الخروج منها

يوسف يستكمل خطته:
استحكمت الحلقة واكتملت دوائر خطة يوسف لتلقين الدرس الصعب لإخوته الحاسدين له ولأخيه من بعده.
أدخلهم يوسف في متاهة لا يدرون كيف الخروج منها وقد أصبحوا أمام أبيهم في دائرة أحد الاحتمالين: إما متآمرين وإما مفرطين مهملين وإن كان يعقوب عليه السلام قد صرح لهم بالاتهام بتسويل أنفسهم الأمارة بالسوء بعدما فقد ولده الثاني:
{فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف: 80 - 86].
قال السعدي في تفسيره : أي: فلما استيأس إخوة يوسف من يوسف أن يسمح لهم بأخيهم {خَلَصُوا نَجِيًّا} أي: اجتمعوا وحدهم، ليس معهم غيرهم، وجعلوا يتناجون فيما بينهم، فـ{قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} في حفظه، وأنكم تأتون به إلا أن يحاط بكم {وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ}، فاجتمع عليكم الأمران، تفريطكم في يوسف السابق، وعدم إتيانكم بأخيه باللاحق، فليس لي وجه أواجه به أبي.
 { فَلَنْ أَبْرَحَ الأرْضَ} أي: سأقيم في هذه الأرض ولا أزال بها {حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} أي: يقدر لي المجيء وحدي، أو مع أخي {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}.
ثم وصَّاهم بما يقولون لأبيهم، فقال: {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ} أي: وأخذ بسرقته، ولم يحصل لنا أن نأتيك به، مع ما بذلنا من الجهد في ذلك. والحال أنا ما شهدنا بشيء لم نعلمه، وإنما شهدنا بما علمنا، لأننا رأينا الصواع استخرج من رحله، {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} أي: لو كنا نعلم الغيب لما حرصنا وبذلنا المجهود في ذهابه معنا، ولما أعطيناك عهودنا ومواثيقنا، فلم نظن أن الأمر سيبلغ ما بلغ.
{ {وَاسْأَلِ} } إن شككت في قولنا {الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} فقد اطلعوا على ما أخبرناك به  {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} لم نكذب ولم نغير ولم نبدل، بل هذا الواقع.
فلما رجعوا إلى أبيهم وأخبروه بهذا الخبر، اشتد حزنه وتضاعف كمده، واتهمهم أيضا في هذه القضية، كما اتهمهم في الأولى، و{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أي: ألجأ في ذلك إلى الصبر الجميل، الذي لا يصحبه تسخط ولا جزع، ولا شكوى للخلق، ثم لجأ إلى حصول الفرج لما رأى أن الأمر اشتد، والكربة انتهت فقال: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} أي: يوسف و "بنيامين" وأخوهم الكبير الذي أقام في مصر.
{إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} الذي يعلم حالي، واحتياجي إلى تفريجه ومنَّته، واضطراري إلى إحسانه، {الْحَكِيمُ} الذي جعل لكل شيء قدرا، ولكل أمر منتهى، بحسب ما اقتضته حكمته الربانية.
أي: وتولى يعقوب عليه الصلاة والسلام عن أولاده بعد ما أخبروه هذا الخبر، واشتد به الأسف والأسى، وابيضت عيناه من الحزن الذي في قلبه، والكمد الذي أوجب له كثرة البكاء، حيث ابيضت عيناه من ذلك.
{فَهُوَ كَظِيمٌ} أي: ممتلئ القلب من الحزن الشديد، {وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} أي: ظهر منه ما كمن من الهم القديم والشوق المقيم، وذكرته هذه المصيبة الخفيفة بالنسبة للأولى، المصيبة الأولى.
فقال له أولاده متعجبين من حاله: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} أي: لا تزال تذكر يوسف في جميع أحوالك. {حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا} أي: فانيًا لا حراك فيك ولا قدرة على الكلام. {أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} أي: لا تترك ذكره مع قدرتك على ذكره أبدا.
{قَالَ} يعقوب {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي} أي: ما أبث من الكلام {وَحُزْنِي} الذي في قلبي {إِلَى اللَّهِ} وحده، لا إليكم ولا إلى غيركم من الخلق، فقولوا ما شئتم {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} من أنه سيردهم علي ويقر عيني بالاجتماع بهم.

#مع_القرآن

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

أبو الهيثم محمد درويش

دكتوراه المناهج وطرق التدريس في تخصص تكنولوجيا التعليم من كلية التربية بجامعة طنطا بمصر.

المقال السابق
يوسف يثأر لنفسه بكل حكمة
المقال التالي
نهاية الدرس و أخلاق الربانيين