أين نضع خلافاتنا؟
إن الالتصاق بإخوانك والاستدفاء بأخوّتهم والبقاء قريبًا من أهل الطاعة تذكرهم ويذكرونك، تنصحهم وينصحونك، تتآلف قلوبكم وتتشابك أيديكم وتتعاون جوارحكم، تتقاسمون أعمال الخير وتقسّطون الدعوة إلى الله على قدر مواهبكم وقدراتكم .. سائرين إلى الله لا تفترون، هو الرجاء وهو الأمل .. هو المقصود والمعبود .. هو المستعان وعليه أحمالنا .. لا تخطئ فتفقد ما لم يكن في الحسبان.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد..
جعل الله تعالى المسلمين أمةً واحدة من دون الناس، وهكذا كتب رسول الله أول مقدمه المدينة المنورة فكتب بين المسلمين كتابًا وفيه هذا النص « وأن المسلمين أُمةٌ واحدةٌ من دون الناس» والتسمية باسمٍ معين مشتق من وصف، مؤذن بأن هذا الوصف علة لهذا الحكم، فالإسلام هو علة الالتقاء وقطب رحى لتجمع وهوية المسلمين.
وأخوّة الاسلام تضمن لأصحابها حياةً اجتماعيةً معينة لأنه يترتب عليها حقوق معينة، فلا يظلمه ولا يُسْلمه ولا يخذله ولا يخدعه ولا يغشه ولا يحسده ولا يضمر له ضغينة ولا حقدًا، ولا يبع على بيعه ولا يخطب على خطبته حتى ينكح أو يدَع، ولا يكره له الخير ..
يسلم عليه اذا لقيه، ويبش في وجهه، ويكرمه ويؤثره، ويصفه بأفضل الأوصاف، تحرم عليه غيبته، ويحرم أن يفسد بينه وبين أحد لا زوجه ولا أهله ولا إخوانه.
سليم الصدر لأخيه، يظن فيه الخير، ويتحدث عنه بأفضل ما يعرف، رباطه مع أخيه هو رباط السماء، والعلاقة معه تمر عبر السماء، يزداد حبه لأخيه بقدر طاعته وينقص بقدر المعصية ، يستره وينصحه ويحنو عليه خائفا عليه، مهتم بأخيه يشاركه جراحه ويزداد فرحه لفرح أخيه.
لا يحقر المسلم أخاه لقلة فهمٍ أو علمٍ أو مال، لا يستعلي عليه ولا ينفض يده من إخوانه، المسلم يألف ويؤلف، هاش باش، ودود وصول ... وهكذا حقوق كثيرة.
فإذا أضيف إليها رابطة الرحم والدم زادت الحقوق، فإذا كانت الجيرة فحقوق أخرى، فإذا كان في عمل إسلاميٍ واحد زاد حق أخيك وزاد واجبك، فإذا كان هذا العمل في ظرفٍ تاريخيٍ فاصل بين غياب الإسلام ورجوعه أو اندراسه وازدياد غربته، تضاعفت الحقوق وتسامت النفوس وطولب كل مسلمٍ بمعالي قد تصبح في درجة الواجب هي في ظرفٍ آخر من المستحبات.
ولكن المسلمين بشر يخطئ ويصيب، وللنفوس البشرية سماتٌ وأوصاف، وميولٌ ونوازع، وأشواقٌ وأشجان، وتطلّعٌ وتشوف، وخوفٌ ورهبة، وغيرةٌ وتنافس، وبحثٌ عن الحقوق كما الواجبات، وغبطةٌ وأثرة، ولها لحظات غفلةٍ ونزعةٍ انتقامية وأعراض تشفّي .. إنها النفوس.
لكننا أيضًا مسلمون، نحمل منهجًا ربانيًا، ولا بد لهذا المنهج من بصمةٍ، وملامح وسمات، وقسماتٍ خاصة في الشخصيات التي تخضع لتربيته.
ومن هنا نسأل .. أين نضع خلافاتنا؟
وهنا نقول إن أي خلاف بين المسلمين أفرادًا، أو بين فردٍ وأخيه، أو بين فردٍ وجماعته، أو بين جماعةٍ وأخرى، لا بد له من ضوابط، ويجب ألا نفقد هذه الضوابط لشدة موجدة على أخ، أو عظيم ألمٍ سببه لك، أو تضييع حق، أو اعتداء على حق ما من حقوقك.. ونرى أن من هذه الضوابط ما يلي:
أولًا: هناك دِين لا بد من حفظه، والكيان العام للمسلمين، أو الخاص بإطار عملٍ معين، منوطٍ به حفظ هذا الدين وحماية بيضته والذود عنه وإقامته، وتحقيق آمال المسلمين وحفظ أعراضهم وستر عوراتهم وتأمينها، وحفظ علومهم وميراث نبوتهم، وإيصال هذا الخير للعالم ممن نرجو لهم النجاة في الآخرة من عذاب الله تعالى.
فالحفاظ على هذا الكيان من أوجب الواجبات، ولا يسمح لنفسه مسلم مخلص أن يهدّ أي كيانٍ عام أو خاص بسبب مظلمة شخصية ، بل لا يسمح لنفسه أن يعطل عملًا، أو يخذّل الناس، أو يفرقهم، أو يشيع فيهم جوًا من الشحناء أو الكراهية أو التشكيك أو التخذيل أو تنفيض اليد منهم.
ثانيًا: هناك أخوّةٌ إسلامية جامعة، ورابطٌ يلف المسلمين ويحميهم، والحدث الفردي العرضي يجب أن يبقى عرضيًا وفرديًا وجزئيًا، كما يجب أن تبقى الأخوّة الإسلامية سليمةً دافئة، جامعةً قوية، ولو على حساب الصبر على أثرة ما، كما قال لبعض أصحابه: «ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» (البخاري:3581).
ثالثًا: ثمة حقوق لك، وثمة واجبات.. ابحث عما يجب عليك قبل أن تبحث عما هو لك، هكذا تكون الأمور، وإلا تنازع الخلق وأفسدوا بواقي الخير بينهم، وظهر منهم من الشر ما لم يكن في الحسبان وتناسوا من الأوامر الشرعية والحقوق ما يظهر لبسطاء المسلمين، فيكون الدعاة عبرة لا مثالا يُحتذى!
رابعًا: حقوق الأخوّة الإسلامية مبنية على الولاء لله ولرسوله وللمسلمين، وولاء الله تعالى هو الأصل فهو المحبوب قبل كل شيء وأعظم من كل شيء، ثم ولاء الرسول والمؤمنين تبع لولايته تعالى وفرع عليها.
وبالتالي فإذا حدث حادث ما فثمة جدرانٌ ضخمة وحواجز عقدية تحول بين المسلم وبين ولاء العدو سواء كان كافرًا أصليًا أو علمانيًا إباحيًا مرتدًا أو عميلاً أو خائنًا أو عدوًا للمشروع الإسلامي، مهما كان السبب.
خامسًا: ثمة فضائل بين المسلمين وأعمال خيرٍ ومشاعر نظيفة، فمن البر والوفاء .. ومن حسن العهد والإيمان .. ومن الأصالة وحسن الخلق .. ومن حفظ الجميل أن يحفظ المسلم سوابق الخير وعهد الصفاء.
ومن الخير والذكاء والفطنة أن يتحسس رجوع الخير وانقشاع حالة الخلاف فيُبقي لنفسه وجها لعودة الود وحال الصفاء ورجوع المياه إلى مجاريها..
ومن الحكمة والذكاء والفطنة أن يتحسب لعودة الوجوه تتقابل، وبالتالي فلا يفحش في الخصومة ولا يفجر في العداء ولا يتمادى في البعد أو العزلة ولا يقطع صلات ندية كان يحياها مع أشخاص أعزاء .«أبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يومًا ما» (حديث ضعيف).
ومن الخير كل الخير ألا يُظهر الاستغناء عن إخوانه فهذه آفةٌ وجريمة قد يعاقَب عليها من قِبل رب العالمين فيفقد ما لم يكن في الحسبان، فإن رفض أحدٌ نعمة المحبة والمهابة في قلوب إخوانه فما أدرانا أن تتغير القلوب فيُسقط الله تعالى المحبة أو الهيبة من القلوب، ويستبدل مكان الحرص من إخوانه عليه استغناء عنه، ومن البحث عنه الى اسقاطه من الحسابات.
إن الالتصاق بإخوانك والاستدفاء بأخوّتهم والبقاء قريبًا من أهل الطاعة تذكرهم ويذكرونك، تنصحهم وينصحونك، تتآلف قلوبكم وتتشابك أيديكم وتتعاون جوارحكم، تتقاسمون أعمال الخير وتقسّطون الدعوة إلى الله على قدر مواهبكم وقدراتكم .. سائرين إلى الله لا تفترون ، هو الرجاء وهو الأمل .. هو المقصود والمعبود .. هو المستعان وعليه أحمالنا .. لا تخطيء فتفقد ما لم يكن في الحسبان.
سادسًا: اختلف الحسن بن الحسن بن علي مع علي زين العابدين ابن الحسين، وهما ابنا عم، فسبّ الحسن عليًا زين العابدين وعابه عيبًا شديدًا أمام الناس، وعليٌّ ساكت لا يتكلم، وبعدما انتهي اليوم ذهب إليه ليلًا فطرق بابه فلما خرج قال له علي: يا حسن إن كنتُ كما تقول فغفر الله لي، وإن لم أكن كما تقول فغفر الله لك.
لم يكن رد أعظم من هذا.. فأدرك الحسن خطأه واعتذر بل وبكى حتى رحمه عليّ، رحم الله الجميع ورضي عنهم.
إن العفو عز، وإن الصفح علوّ درجة، وإن الستر لزين تستر به يوم القيامة، ومن يغفر للخلق يغفر الله له، ومن اتسع لإخوانه وسعته رحمة الله، ومن رأى قدرة الله عليه في ذنبه ومع هذا يحلم عليه، ثم رأى خطأ أخيه في حقه فأسقط هذا من أجل ذاك لعل الله يغفر؛ فما أدراك لعل في هذا نجاتك، وماذا عليك لو جعلت شعارك مثل هذا الرجل الذي كان يقول: «خذ ما يَسُر، واترك ما عَسُر، وتجاوز؛ لعل الله يتجاوز عنا» (النسائي: 4694) فتجاوز الله عنه.
سابعًا: بعدما تضع هذا أمامك، ضع خلافك مع أخيك في محله اللائق في ضوء هذه القواعد، ولا تفجع إخوانك بمصيبة، ولا تمزق تجمعًا غضبًا لنفسك، واحرص على هذا الكيان بل وكل كيانٍ إسلامي ، فالإسلام اليوم في حاجة إليه.
أخيرًا إن الاسلام غريبٌ طالت غربته، وغائبٌ طالت غيبته، أفلم يأن للغائب أن يعود وللغريب أن تنجلي عنه الغربة؟
وإذا كان الأمر لك فيه طرفٌ فلا يؤتَى هذا الدين ولا الكيانات التي تحمله من قِبلك .. واسمع إلى أخيك يقول:
أخي إني أريدك لا تدعْني *** وإن بي ضاق صـــدرُك من يسَعني؟!
أأبكي دون أن تبكي لحزني؟***وجفنك بارد لم يجر دمعه؟
* * *
فلا تسمع لتحريك الضغائن ***وأنصت لاستغاثات المآذن
فرايات الكفر قــــد نشبوا البراثن ***فدع داعي التفرق لا تطعه
* * *
وشد بعزمة في اللـــــه أزرى ***شريكي أنت في قهري ونصري
لِنحْرِك صوب الأعـــــدا ونحري*** فصُن صدري فأنت اليوم درعه
اللهم ألف بين المسلمين، وأصلح ذات بينهم، واهدهم سُبُل السلام، وأخرِجهم من الظلمات الى النور بإذنك، إنك تهدي من تشاء الى صراط مستقيم ..
وصلى الله وسلم وبارك على أكرم الخلق محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
مدحت القصراوي
كاتب إسلامي