للضبط و عدم الغلو في التكفير

منذ 2017-03-07

في حال وأزمنة الفتنة وعدم قدرة المسلمين على حسم الأمور فنتلطف مع الجميع بالبيان والدعوة والإرشاد والوعظ والتذكير، {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف جزء من الآية: 164] .. ولا نوغل في شأنهم وأحكامهم إيثارا للبيان ورغبة في عودتهم مع رفع الفتنة إن شاء الله؛ فنسأل الله تعالى رفع الفتنة عن الأمة وتوبة عباده اليه وعودة الشاردين وهداية الضالين وخزي أعدائه ونصر أوليائه تعالى.. والله تعالى أعلم وأحكم، وصلى الله على نبيه محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا إلى يوم القيامة.

بيان وتوضيح مهم لبيان قاعدة (من لم يكفر الكافر فهو كافر) للضبط وعدم الغلو:

ورد سؤال:

أريد توضيح (من لم يكفر الكافر فهو كافر).. تكلم عنها الشيخ عبد المجيد الشاذلي رحمه الله، وقال أنها غير صحيحه واستدل بقول الله تعالى فما لكم في المنافقين.. فجزء كفرهم وجزء توقف في تكفيرهم.

وهل ما ذكره الشيخ ابن عبد الوهاب في الناقض (من لم يكفر المشركين أو صحح مذهبهم كفر) هي وجه آخر للقاعده..؟

والجواب: أنه ليس تخطئةً للقاعدة، وليس وجهًا آخر لها بل توضيح لها وبيان مقصودها وقيودها؛ فما ذكره الشيخ رحمه الله ابتداء أن هذه القاعدة ليست آيةً محكمة ولا حديثًا؛ فهي ليست نصًا شرعيًا.

وقد اختلف الصحابة في كفر قوم نزل القرآن بفصل الأمر فيهم وبتكفيرهم وعاب على الصحابة الاختلاف في شأنهم، ولم يكفّر الصحابة رضوان الله علهم بهذا الاختلاف.

واختلف العلماء من بعدهم أيضا في كفر القدرية القائلين بنفي المشيئة وعموم خلق الله لأفعال العباد، وإن لم يختلفوا في كفر القدرية النافين للعلم.

واختلف العلماء في كفر الخوارج اختلافًا وصل الى حد المراء (ويتمارون في الفوق) عهني هل علَق بهم شيء من الدين أم لا؟

واختلف العلماء في كفر الفرق المختلفة من الجهمية والقدرية وغيرهم، فمن العلماء من كفر الداعية وفسق المقلد، وهو قول الأئمة الكبار كأحمد ومالك وأضرابهم من الكرام، واختلفوا في كفر الروافض السابّين للصحابة، هل يكفرون أم يفسقون؟

وأما المتأخرون بعدهم كشيخ الإسلام ابن تيمية فقد اتخذ قاعدةً أخرى بسبب شيوع هذه البدع ولعدم المساجلات بين الناس بالتكفير والتكفير المضاد، وللتلطف في شأن محاربة هذه البدع وبيان مضمونها المخالف للحق ومدى هذا الاختلاف.. فلهذه الأسباب التزم قاعدة أخرى، وهي القول بالتكفير باللوزم والمآل وأن الكفر في المآل ليس كفرا في الحال، وأن لازم المذهب ليس بمذهب حتى يلتزمه صاحبه فإن لم يلتزمه فلا يُلزم بموجبه من التكفير.. وعمَّم هذا في الدعاة والمقلدين، ولهذا يُنسب اليه قوله لبعضهم (لو قلت بقولك لكفرت) لوضوح اللوازم له دونهم..

وعلى هذا فقد حدث الاختلاف في شأن كفر أقوام منذ الصحابة الى التابعين الى الأئمة جيلاً بعد جيل..

وغالب هذا يرجع إلى عدم التحقق من وقوع مناط الكفر، وعدم التزام اللوازم المكفرة.. ولم يكْفر المختلفون بهذا ولم يكفّر بعضهم بعضًا.

فالقول بهذه القاعدة بإطلاق يعني تكفير خيرة من المسلمين منذ القرون الخيرة المفضلة إلى الأئمة الأفاضل.. وهو خطأ شديد يُخشى على صاحبه، وهذا يبين فُحش الإطلاق، فإن فحُش الإطلاق عُلم خطؤه، وعُلم وجوب التقييد للقاعدة، وأن قائلها ـ وهو شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وهو من أئمة الهدى والحق ـ قد قالها على وجه يتفق مع القواعد القطعية الشرعية.

وبيان ذلك أن الكفر راجع إلى أحد أمرين: (إما تكذيب الخبر أو رد الأمر)، وهذه القاعدة محكمة لا تتخلف.

ومن هنا فتكفير اليهود والصارى أمر قطعي جاءت به النصوص فالممتنع من تكفيرهم مع وضوح النصوص التي جاءت بتكفيرهم فهو إما مكذب لخبر الله أو راد له، فالكفر هنا راجع الى محل إجماع قطعي.

وكذلك من لم ير ما يفعله عُباد القبور شركا بل يرى الشرك في اعتقاد التأثير فقط (اعتقاد الخالقية والرازقية) دون التكفير بعبادة غير الله تعالى فيصححون أفعال المشركين؛ فهؤلاء أيضا تنطبق عليهم القاعدة.

أما من لم يتبين له المناط المكفر بسبب حال الفاعل كما اختلف الصحابة في شأن من تولوا الكافرين فقد وضح لبعض الصحابة مناط المظاهرة، ولم يتضح للآخر؛ حيث ظنوا أنهم فقط تركوا الهجرة ولم يتبين لهم توليهم للكافرين.. فهذا محل إعذار.

ومن تلبّس بعمل يشتبه بين كونه شركًا أصغر أو أكبر بحسب علمه بحال الفاعل أو عدم علمه ووضوح فعله له أو عدم وضوحه فوضح لشخص دون آخر، فهذا مناط إعذار، ومن لم يصحح أفعال المشركين ولا دافع عنهم ولا لم ير أفعالهم الشركية كفرا، ولكنه رأى إقامة الحجة أولا ظنا أن بلوغ الحجة لا يكفي بل لا بد من فهمها وإقامتها على الشخص والتأكد من ذلك لاشتباه بعض الأدلة عليهم وعدم تفريقهم بين بلوغ الحجة وفهمها، وعدم تفريقهم بين الشرك الصريح ومسائل الخلاف العقائدية بين الأمة، وعدم علمه بقاعدة أن (من بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة)، وعدم تفريقهم بين الاستتابة للكفر والاستتابة لإقامة الحد.. فهو وإن كان خطأ لكنه محل إعذار ونظر.. وإلا كفّر الناس علماء معاصرين، وكفّر الدعاة بعضهم بعضًا.

وعلى هذا فالكفر راجع إلى تكذيب الخبر أو رد الأمر.. أما اشتباه المناط أو الاشتباه في بعض الأدلة فيقول بإقامة الحجة بطريقة معينة لم يقل بها الأئمة في مثل هذه الأعمال الصريحة في الشرك الأعظم، ولم يفرق بين الفروع الشرعية والشرك الأعظم.. فهذا لا يكفر به فاعله.

لكن هنا أمر لا بد من بيانه وهو أنه لو أدى مثل هذا الى وقوع هؤلاء المبتدعين أو المخطئين في مناط أفحش وأوضح كأن يصححوا ما يفعل عباد القبور أو يوالونهم على المسلمين في حروب كما حدث زمن الحركة النجدية، أو وقعوا في تأييد مبدلي الشرائع والإباحيين وتصحيح موقفهم والدفاع عنهم وتأييدهم ومهاجمة المسلمين الداعين الى إقامة الشريعة والهوية الإسلامية، ووالوا الكنيسة والملاحدة والإباحيين والشيوعيين والمبدلين صراحا جهارا نهارا ووقفوا مع رايتهم يعضدونها؛ فعندئذ قد وقعوا هم في مناط مكفر وكشف الله تعالى عن نفاقهم..

فهذا شأنٌ آخر؛ حيث كلما زادوا علمًا كانت المناطات أوضح لهم فحق عليهم قوله تعالى: {اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} [البقرة جزء من الآية: 86]، وهؤلاء من قال الله تعالى فيهم: {فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّـهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة جزء من الآية: 85] طبعًا بشرط عدم التوبة.. ويتوب الله على من تاب..

وعمومًا في حال وأزمنة الفتنة وعدم قدرة المسلمين على حسم الأمور فنتلطف مع الجميع بالبيان والدعوة والإرشاد والوعاظ والتذكير، {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف جزء من الآية: 164] .. ولا نوغل في شأنهم وأحكامهم إيثارا للبيان ورغبة في عودتهم مع رفع الفتنة إن شاء الله؛ فنسأل الله تعالى رفع الفتنة عن الأمة وتوبة عباده اليه وعودة الشاردين وهداية الضالين وخزي أعدائه ونصر أوليائه تعالى.. والله تعالى أعلم وأحكم، وصلى الله على نبيه محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا إلى يوم القيامة.
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

مدحت القصراوي

كاتب إسلامي