استعجال الثمر في المحاضن التربوية
إن هذه الصدارة المبكرة تمثل وبالا على هذا المتصدر الصغير
بقلم عبد الرحمن ضاحي
النفس البشرية مفطورة على العجلة ومجبولة على انعدام الصبر، وهذا ما أكده الله سبحانه في أكثر من موضع، فهو القائل: {وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا } [الإسراء 11] ، وهو القائل أيضا: {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء 37] ، ومن حكمته سبحانه أن خلق الأناة والعقل في الإنسان ليعادل تلك العجلة ويتوازن الإنسان بين العجلة والأناة.
ومن الأمور المهمة في فقه الدعوة عامة أن لا يستعجل الداعية قطف ثمرة دعوته، وأن يتحلى بالصبر، ويلجم غريزة العجلة داخله، ويتمتع بالصبر والإناة ولا يكن كسيدنا يونس الذي خرج مغاضبا ودعا على قومه وهو مكظوم، إنها دعوة يربي الله بها نبيه ومن بعده من المؤمنين، دعوة يقول فيها: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [سورة ن] ، يقول قتادة في تفسير هذه الآية: أي لا تكن كصاحب الحوت في العجلة والغضب، فالله سبحانه يربي أنبياءه على الأناة والصبر وعدم التسرع في جني الثمر.
إن العملية التربوية طويلة الأجل، لا يصح فيها الاستعجال بأي حال من الأحوال، فهي تشبه تسوية الطعام، فإذا كانت تسويته بنار هادئة وتأن فإن الطعام يخرج لذيذا طيبا، وإذا كان بنار مستعرة وبصورة مستعجلة خرج طيبا من الخارج نيئا من الداخل.
التصدر قبل التأهل:
ومن صور استعجال الثمر تصدير المتربي في ميادين العمل الدعوي الجماهيري كالخطابة أو الإمامة والتحفيظ دون أن يكون ملما بالجوانب التكميلية لتلك المسؤوليات الصعبة من علوم أخرى تدعم تلك المسؤولية الكبيرة التي تولاها.
إن هذه الصدارة المبكرة تمثل وبالا على هذا المتصدر الصغير الذي يساهم بعد ذلك في انتكاسه وتركه للطريق كاملا، وقد عدد الشيخ الشيخ بكر أبو زيد في كتابه (حلية طالب العلم) مخاطر التصدر قبل التأهل فذكر: إعجاب المتصدر بنفسه، فتصدره يجعله يرى في نفسه أنه عَلَم الأعلام، والأمر الثاني : أن ذلك يدل على عدم فقهه ومعرفته للأمور؛ لأنه إذا تصدر، ربما يقع في أمر لا يستطيع الخلاص منه، فالناس إذا رأوه متصدراً أو ردوا عليه من المسائل ما يبين عواره، الأمر الثالث: أنه إذا تصدر قبل أن يتأهل لزمه أن يقول على الله ما لا يعلم؛ لأن الغالب أن من كان هذا قصده، أنه لا يبالي ويجيب على كل ما سٌئِلَ ويخاطر بدينه وبقوله على الله – عز وجل – بلا علم، الأمر الرابع: أن الإنسان إذا تصدر فإنه في الغالب لا يقبل الحق، لأنه يظن بسفهه أنه إذا خضع لغيره ولو كان معه الحق كان هذا دليلاً على أنه ليس بعالم.
ويفسد هذا الأمر شخص المتربي كلما قلت الفئة العمرية له، فيجب قبل تصدير المتربي في الميدان الدعوي الجماهيري عدم التعجل عليه، وأن يُبنى جيدا إيمانيا وعلميا، وأما إذا كان من الصغار وآتاه الله موهبة في الإلقاء أو الترتيل فلا يصدر باستمرار ويكون تصديره بقدر بسيط، فالأولى هو بناء الشخص وسلامة صدره ونفسه قبل تصديره.
سائق لا يعرف القيادة!
من الصور الكارثية لاستعجال الثمر تصدير بعض المتربين في الميدان التربوي دون اكتمال نضجهم ودون إدراك لحجم المسؤولية، وتلك الحالة هي أخطر من التي ذكرناها قبل؛ لأنك تصدر شخصا غير مؤهل لمهمة بناء ضمير الأفراد
ومعتقداتهم. وللأسف أن تجد أصحاب الأعمال الدنيوية من أصحاب المصانع والشركات يهتمون بكفاءة موظفينهم وعمالهم؛ كي يضمنوا جودة المنتج الذي يستطيعون معالجته، بينما نتساهل نحن في تصدير المتربين في ميدان تصعب معالجة أخطائه، فالخطأ الطبي يعالج، والخطأ الهندسي يعالج، أما الخطأ التربوي فعلاجه صعب جدا.
إن على الكيانات الدعوية ألا تفرح بكثرة المتصدرين، أو تصدير بعض الأشخاص لسد عجز في مرحلة عمرية معينة، فمربٍ واحد له كفاءة خير من مئة لم تنضج ثمرتهم. وسبيل ذلك النأي عن العشوائية والفوضوية في الأداء ووضع معايير في اختيار المربين وتصديرهم للعمل لاسيما، وأن الميدان التربوي يمر منه جميع المخرجات البشرية للعمل الإسلامي من جيمع التخصصات.
الثمرة المتوهمة!
من صور استعجال الثمر ربط الثمرة بالمظهر الخارجي للمتربي، أي يجعل السمت الظاهر للمتربي هي المظاهر الحاكمة بأنها الثمرة! ، وهذه من أسذج الصور التي رأيتها، فالسمت الظاهر أمر مهم بلا شك وهو دليل على صلاح الباطن، لكن أن يجعل منه المرء معيار نجاح المربي مع المتربي، فهذا عين الخطأ، وعلى المربي هنا إدراك ان السمت ظاهر هو جزء من الثمرة وليس كل الثمرة، فواجب عليه ألا يعطل نضوج الكل من أجل جزء صغير، فالعاقل لا يرمي وعاء العسل من أجل ذبابة وقعت به، بل يستبعدها ويستفيد من عسل الوعاء.
الإنجاز السلبي:
من الصور الخاطئة أيضا أن يتعجل المربي في إنجاز الخطة المرسومة للمتربي سواء من العلوم الشرعية أو الأوراد التعبدية، ظنا منه أن ذلك يرتقي به بصورة سريعة، والأمر عكس ذلك، فالخطة المرسومة للمتربي يفترض أنها وضعت حسب إمكانات المتربي والضغط عليه بإعطائه جرعات زائدة من الخطة المرسومة من الممكن أن يكون له أثر سلبي عليه من عدم هضم لما أخذه من علوم أو تكاسله عن بعض الطاعات التي ليست في مستواه، فيظن أنه قد أصابه الفتور أو الانتكاس، ولكي نتفادى ذلك كله علينا أن نمشي حسب الخطط الموضوعة للمتربي، تلك الخطط التي يراعى فيها إمكانات المتربي وميوله ووقته، واذا جد في وقت أو إمكانات المتربي جديد نزيد له من الجرعات ما يتناسب مع ما استجد، ويتجسد هذا المثال في قول الله تعالى لنبيه {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة] ، فنهى الله تعالى الرسول- صلى الله عليه وسلم عن العجلة في حفظ القرآن والالتزام بالمنهج الرباني حتى يجمع في قلبه.
وأخيرا ..
الناظر في حال أعداء الإسلام والعاملين في التبشير يعجب أشد العجب من تمهلهم وعدم استعجالهم لرؤية ثمرتهم، بينما نحن نريد أن نرى الثمرة من وقت بدأ العمل!، فحملاتهم تنزل البلدان الفقيرة تقدم الخدمات الصحية والمادية والتعليمية لمدة عشرات السنين، ثم بعد ذلك يبدءون في الدعوة لعقيدتهم وفكرتهم الباطلة. فنحن المسلمين أولى منهم بالتؤدة والأناة في دعوة الناس وتعبيدهم لله ، وفي هذا الأمر جاء حديث النبي صلى الله عليه وسلم نبراسا يهدينا لصفتين يحبهما الله فقد قال صلى الله عليه وسلم للأشج بن عبد القيس «إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ، وَالأَنَاةُ» ، فحري بالعاملين في حقل الدعوة التحلي بالحلم والأناة وعدم استعجال قطف الثمار قبل نضوجها. والله المستعان وعليه التكلان.
عبد الرحمن ضاحي
كاتب إسلامي مصري
- التصنيف: