مريم

منذ 2017-03-15

وكذلك ينبغي أن يكون المؤمن حال خوفه وعند فزعه.. يلجأ أولًا.. يستعيذ ابتداءً.. يتحصن ويأوى للركن الشديد.. تلك هي حقيقة الاستعاذة وجوهر الاعتماد والتوكل.. بعد ذلك تأتي الأسباب وتبرز الأقوال والأفعال

{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران من الآية: 42].

كان هذا قول الملائكة تكريمًا لتلك الصديقة

تكريمًا لمريم
اصطفاء من الله
تطهير
تفضيل

لكن هذا الإكرام والتفضيل والتطهير لم يكن بداية الأمر ولا مفتتح القصة.

البداية كانت مناجاة!

كانت نذرًا نذرته امرأة صالحة تقية خفية..
امرأة على وشك الوضع تناجي ربها وتكلمه وتدعوه وتنذر ما في بطنها قربى له.

{رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران من الآية:35].

لكن هذا النذر لم يكن مطلقًا كما يبدو لأول وهلة..

لقد كانت لهذا النذر صفة أو إن شئت فقل: أمنية.

إنها الحرية

هذا المولود المنذور سيكون مُحَرَّرًا..
محررًا من كل شواغل الدنيا وعوائقها وعلائقها..
محررًا من كل آصارها وأغلال شهواتها وقيود أهوائها..
محررًا من الأحقاد الأرضية والآثام الدنيوية..

هذا المولود سيكون خالصًا له وحده..

هكذا أرادت المرأة الصالحة.
حرية خالصة لن تتحقق إلا بكمال العبودية..
وإن هذا لن يكون إلا بإذنه ولن يحدث إلا إذا تقبل.

{فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران من الآية:35].

لكنها جاءت أنثى!
وما البأس؟!
فليكن...
العبرة ليست أبدًا في نوع الشخص أو لونه أو شكله، العبرة في القبول وفي التحرر المنشود.

{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران من الآية:36].

هذا أصل واضح لا يماري فيه عاقل.

الله يعلم
وهي تعلم أنه يعلم
فلماذا قالتها إذًا؟!
لماذا قالت: {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ}؟ [آل عمران من الآية:36].

إجابة ذلك السؤال لن يستشعرها إلا قلب محب.. قلب تذوق لذة المناجاة وتشرب متعة الكلام معه مع حبيبه ومولاه..

إن من ذاق هذه اللذة سيفهم جيدًا لماذا قالت أم مريم تلك العبارة التي لم تضف معلومة، ولم تحتوِ على مطلب
سيفهم أيضًا لماذا فصل نبي الله موسى واستفاض في الإجابة حين سئل عما في يمينه فقال: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ} [طه من الآية:18].

كان من الممكن أن يكتفي بأول كلمتين في الإجابة: هي عصاي.

لكنها المناجاة!

وكذلك المحبين.. يودون ألَّا تنتهي مناجاتهم مع حبيبهم، ولا تنقضي تلك اللحظات التي يصلون ما بينهم وبينه.


{وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ} [آل عمران من الآية:36].

تقرر أم مريم تلك الحقيقة الواضحة التي لا ينكرها عاقل.. هناك اختلاف..
وإن وجود الاختلاف والإقرار بأنه كائن لا محالة لا يعني ازدراء أحد المختلفين إلا في عقل يستحق هو هذا الازدراء.
عدم التماثل بين الذكر والأنثى حقيقة واقعة لا تعني بحال أن الأنثى أقل أو أن قيمتها أدنى..

الجميل أن الإقرار بتلك الحقيقة أتى في سياق الحديث عن امرأة كاملة بشهادة خير البشر.. امرأة قال عنها الله أنها آية وأنها مصطفاة وأنها مطهرة.. بل لما أراد الله أن يضرب مثلًا للذين آمنوا اختار هذه التي ليست كالذكر
اختار مريم... واختار معها آسية امرأة فرعون... امرأتان جعلهما الله مثالًا للمؤمنين جميعًا وليس للمؤمنات وحسب..

الأمر إذًا ليس فيه أي انتقاص ولكنها الحقيقة التي ينبغي تقريرها... وقد فعلت أم مريم.

لكن يبدو أن المرأة الصالحة كانت تميل لأن يكون المولود ذكرًا لعله يكون أقدر على القيام بمهمات النذر الذي نذرته لله، والذي قد تصعب بعض التزاماته على الأنثى.. أو هكذا ظنت.

فكأن عبارتها {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ} كانت تحمل نوعًا من التساؤل عن مصير ذلك النذر الذي كانت رغبتها فيه صادقة مخلصة.. ولقد استجاب الله لها.. وتقبلها.. وهذا هو المهم.. القبول وحسن الإنبات..

{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} [آل عمران من الآية:37].

وعلى هذا ينبغي أن يدور دعاء الوالدين لمولودهما.. القبول وحسن الإنبات، ذكرًا كان أو أنثى، المهم أن يتقبله الله ويحسن نباته.

لكن للأسف جرت العادة أن الآباء والأمهات في نظرتهم لأبنائهم يشغلهم أمران أساسيان تتفاوت نسبة كل منهما بدرجات مختلفة، ويظهر بوضوح في دعائهم لهؤلاء الأبناء والأمنيات التي تراود مخيلاتهم عنهم..

الرجاء.. والخوف

أما الرجاء فيدور غالبًا حول المال والمنصب والمكانة وتأمين المستقبل الدنيوي، وأما المخاوف فتتركز على المرهوبات العاجلة كالفقر والمرض والضياع وما إلى ذلك. ولا بأس أن يدعو المرء بتمام الأولى ويتعوذ من الثانية، لكن أهل الدين يعتنون في المقام الأول بأمور أخرى..

وهذا ما قدمته أم مريم وضربت مثالًا واضحًا له.
المرجوات والأمنيات كانت عندها تدور حول خدمة الدين والقبول والاستعمال فيما يرضي المولى تبارك وتعالى، والمخاوف كانت تتركز على الشيطان وطريقه وشراكه..

لقد كان نذرها المحرر ودعاؤها بقبول مولودتها جنبًا إلى جنب مع أمر آخر لم تغفل عنه... الاستعاذة!

{وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}  [آل عمران من الآية:36].

لقد أقلقها أمر الشيطان وتسلطه على صغيرتها لذا تعوذت ولجأت واحتمت.. ولقد استجيب لها، فأعيذت ابنتها وابن ابنتها وكان الشيطان أبعد ما يكون عنهما.

هذا هو ما يشغل الصالحين ابتداء حين يفكرون في أبنائهم، بعد ذلك يأتي ما هو أدنى، لكن الدين يأتي أولًا وقبل كل شيء..

حين يصدق المرء وتخلص تلك النية وتقدم هذه الرغبك والأمنية فالظن بالله أن يستجيب كما استجاب لأم مريم وتقبل نذرها.. بل جعل ابنتها آية..

نعم... لقد كانت مريم آية...

هكذا تكررت هذه الحقيقة في كتاب الله حتى تقررت:

{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} [اﻷنبياء:91].

{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون:50].

هذه الآية لم تكن قاصرة على معجزة خلق وإيجاد المسيح عليه السلام في رحمها بغير أب وحسب.. ولم تكن أيضًا فيما تلى ذلك الإيجاد من آيات ومعجزات وكرامات أثناء ولادته وبعدها حين تكلم في مهده مبرئا إياها ومبينًا حقيقة عبوديته منذ اللحظات الأولى لوجوده..

الأمر كان يسبق ذلك بكثير.. منذ صباها كانت مريم آية وكانت حياتها حاشدة بالكرامات، وكانت هذه الكرامات تبدأ من هنالك... من محل وجودها ومأوى عبوديتها... من المحراب..

{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا} [آل عمران من الآية:37].

قيل أنه كان يجد لديها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، وقيل كان يجد لديها الرزق بغير سبب معلوم ولا يعرف طريقة وصوله إليها، لذا كان يسألها: {يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا} [آل عمران من الآية:37].

فترد بيقين: {هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}  [آل عمران من الآية:37].

وإن شدة يقينها ورسوخ حسن ظنها بربها جعلا الأمل يتعاظم في صدر الشيخ الهرم واهن العظم، الذي اشتعل رأسه شيبًا فينادي هنالك في نفس المكان الذي آوت إليه مريم واستقرت في ظلاله.. في المحراب.

من هناك يطلق زكريا عليه السلام نداءه الخفي: { رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران من الآية:38].

إنها لحياة مقترنة بالآيات مكتظة بالكرامات، لكن صاحبة تلك الكرامات لم تشغل نفسها بذلك أو تغتر به أو تظن أن المقام الذي بلغته والاصطفاء الذي نالته مبرر للتكاسل أو علة لترك العمل ومغادرة المحراب، فلقد نالت الدرجة وحصلت على المنزلة...

فلتغادر المحراب إذن ولتلتفت إلى حياتها!

لا!

ليست هي من يفعل ذلك... حاشاها أن تفعل..

إن كل تلك الآيات والكرامات والاصطفاءات والتفضيلات لم تكن إلا داعية للمزيد.. المزيد من العمل، لذلك استجابت مريم للأمر المترتب على الاصطفاء

{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ . يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}  [آل عمران:42-43].

ولقد فعلت..

{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم:12].

كانت من القانتين.. وظلت كذلك..
ولتضرب مثالًا ساطعًا آخر يرسخ لحقيقة كون المكانة مرتبطة بالمكان وأن مقام المرء عند الله يعرف بما أقامه فيه الله.. ولقد أقامها الله في محراب عبادته.. وفيه كان الابتلاء الأخطر والاختبار الأعظم في حياتها..

{إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا} [مريم من الآية:18].

بهذه الكلمات صاحت بينما تنزوي بعيدًا، متسترة بعفافها متسربلة بحيائها، صاحت بها وهي التي كانت قد اعتزلت المخلوقين، وانتبذت حتى من أهلها مكانًا شرقيًا، محتجبة منعزلة، تخلو فيه بربها، وتأنس عنده بمليكها، فإذا بها تفاجأ بهذا الغريب يدخل عليها!
من أين جاء؟
وكيف وصل إليها؟
ماذا يفعل هاهنا؟
وماذا يريد منها؟
وهل يُطمع في مثلها؟!!
وهل يظن مخلوق أنها يمكن أن تُمس؛ وهى البتول الحصان الرزان التي لا تنفذ إليها ريبة..

إنها الكاملة المصونة، نذر أمها الصالحة المتقبل بقبول حسن، إنها العذراء العفيفة، ما دنا منها إنسان وما مسها بشر، العابدة الزاهدة الراكعة الساجدة القانتة، التي كملت من بين النساء، كريمة النسب، سليلة الأنبياء عليهم السلام، المنسوبة لهارون تيمنا بعبادته وتنسكه، هي تلك الناسكة التي أجرى الله لها ما أسلفنا ذكره من الكرامات والخوارق منذ نعومة أظفارها، مريم البتول...

تلك الطاهرة المطهرة الطهور..

وكيف تحتمل مثلها وجود مخلوق لا تعرفه معها في مكان واحد وهي على ما نعرفه من العفة والحياء؟!
كيف تحتمل العفيفة خلوة مباغتة مع هذا الشخص الغريب؟!

من هنا كانت الصيحة الفطرية غير المتكلفة التي انطلقت من فمها مذكرة إياه مخاطبة فيه مروءته: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا}..

لعله بهذه الكلمة -التقوى- إن كان يريد شرًا أن يقصر كما فعل صاحب الصخرة فقام عن المرأة التى راودها وهي أحب ما تكون إليه وذلك حين خاطبت تقوي نفسه بقولها: اتق الله..

لكنها قبل أن تخاطب مروءته وتستنفر تقواه مراقبته خاطبت مولاها... ناجت مليكها... عاذت بربها كما فعلت منذ سنين أمها... لجأت للرحمن وتحصنت بحماه... إني أعوذ بالرحمن..

وكذلك ينبغي أن يكون المؤمن حال خوفه وعند فزعه.. يلجأ أولًا.. يستعيذ ابتداءً.. يتحصن ويأوى للركن الشديد.. تلك هي حقيقة الاستعاذة وجوهر الاعتماد والتوكل.. بعد ذلك تأتي الأسباب وتبرز الأقوال والأفعال

{إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} [مريم من الآية:19].
رسول ربها؟
غلامًا زكيًا؟
ماذا يقول؟
عن أي غلام يتحدث؟!

يذكر مولودًا لها وهى العذراء الشريفة الحيية، التي لم يمسها بشر قط!

لزوال الدنيا أهون من تصور بعض ما يقول... الأمر صار يفوق الاحتمال..

{أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم من الآية:20].

هكذا صاحت مستنكرة...

هي لم تك يومًا على ريبة، لم تنطق حرف النون فى كلمة "أكن" للدلالة على الامتناع التام، والبعد الخالص، عن مطلق فعل البغايا، وما أكثرهن في بنى إسرائيل..

أما هي وأمها التي نذرتها لله وأهلها وأجدادها فما أبعدهم عن السوء..

فعن أي غلام يتحدث الناموس؟!

وبأي عرف في الكون أو قانون أو مثل هذا يمكن أن يكون؟!

{كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا} [مريم من الآية:21].

الموضوع منتهٍ إذن... الأمر مقضى، والمعجزة تامة والله حكم وأمر، وهو الذي يقول للشيء كن فيكون..

قد نفخت روح الغلام فيك يا مريم، وانتهى الأمر، وقضى الملك الحق أن تكوني من يحمل آيته ومعجزته.. سيولد ولدك بغير أب، ومثله عند الله كمثل آدم ولد بغير أب ولا أم؛ خلقه من تراب ثم قال له كن فكان..

حقا إنه ابتلاء وأي ابتلاء، وحقا إنها محنة وأية محنة.. لكنك أهل لها يا مريم..

ومن يكون أهلًا لمثل تلك المحنة إن لم تكن مريم؟!
من يتحمل إن لم تتحمل هي ومن يصبر إن لم تصبر؟

إن نموذج السيدة مريم من النماذج التي تجعل كل عنصري مغرض يدعي أن شقائق الرجال لا قيمة لهن ولا مقام.. يبتلع لسانه وينزوي ببهتانه..

إنها من القلائل اللائي أثبتن أن المرأة إذا صلحت وصدقت فإنها قد تعلو على آلاف الرجال..

هي من اللائي أكدن معنى أن الله يتقبل أمته كما يتقبل عبده..

ألم يصطفيها الله؟!
ألم يطهرها ويفضلها على نساء العالمين؟!
بلى قد كان، وقد فعل الرازق الحكيم الكريم المنان.

الآن حان الوقت لتتعبد بالصبر، كما تعبدت في محرابها من قبل بالقنوت والسجود والذكر والشكر...

ستمر الأيام بسرعة، وستأتي اللحظات الحاسمة التي يظهر فيها معدنها النفيس..

ها هو المخاض قد ألجأها إلى جذع النخلة... وها قد اقتربت اللحظة الحاسمة..

وحدها في ظلها... لا رفيق ولا عضد، ولا أم تسعى، ولا قابلة تعين على آلام المخاض.. لم يكن لدعوة أحد من سبيل!

وكيف كانت ستخبرهم؟
إن الأمر معقد، وإن القوم بسطاء؛ لن يفهموا الآية، وحولهم من رعاع بنى إسرائيل من سيظل مجترئًا على القدح في عرضها، رغم ما جاءهم من الحق وعرفوه، لقد كانت مضطرة إلى هذا المكان القصيّ، فلا أحد يدرك حقيقة حالها إلا هو... إلا ربها

هو حسبها وكافيها ووليها ومولاها... نعم الحسيب والوكيل ونعم المولى ونعم النصير.

{يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا} [مريم من الآية:23].

ياله من حزن ذلك الذي يقطر من حروفها... هم وغم لا تقدره إلا العفيفات..

حزن وكرب لا تعرفه البغايا، ومن هانت عليهن أنفسهن، حتى رضين أن يكن سلعًا تباع وتشترى، وتُلتَهمها الأعين الجائعة وتتشممها الأنوف الشهوانية الماجنة..

أما العفيفة الحيية؛ فالموت والنسيان أحب إليها من أن يصمها بريبة عربيد أو لا يقدرها قدرها فاسق مريض

{أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم من الآية:24].

ما هذا الصوت؟!
واقع هو أم خيال؟
كيف، وقد انتبذت من أهلها مكانًا قصيًّا!
لا يوجد مخلوق في هذه المكان البعيد،

إنها المعجزة، وإنها الآية
إنه الغلام الذي لم يكد يخرج بعد..
يتكلم!
سبحان الفاطر الخالق القادر الحكيم!
ها هو النبع يتفجر من أجلها، لتجد الماء الذي ترطب به حر الألم، وشدة الجهد الذي ألم بها

{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا . فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا} [مريم من الآيتين:25-26].

وهل مجرد هزة واهنة بيد نفساء ضعيفة، لجذع نخلة راسخة؛ تسقط ثمارًا يصعد الرجال الأشداء ليأتوا بها؟!
نعم، وما ذلك علي الله بعزيز، ولله في طلاقة قدرته آيات

إنها لعطية

وإنها لهبة من عند من يقول للشيء كن فيكون

وإنها لرحمة

رحمة تحف بمريم في خضم شدتها والبأساء التي ألمت بها فتسري عنها وتواسيها. وتتسرب إلى قعر بيت فرعون لتقر عين أم موسى ولا تحزن على بلائها
وتنفذ إلى إبراهيم بين ألسنة لهب مشتعل ليكون بردًا وسلامًا عليه

إنها الرحمة وإنه الرحيم جل وعلا


{فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا} [مريم من الآية:26].

أن يوجه الودود نواميسه ويحرك مخلوقاته ويسبغ جميل فضله ليقر عين عبده أو أمته

أن يعيد رضيعًا إلى حضن أم مكلومة

{فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} [طه من الآية:40].

أن ينطق وليدًا ويفجر عينًا ويقرب رزقًا لكي يسعد ويقر عين من يحبهم ويحبونه

تتأمل ذلك فلا تملك حينئذ إلا أن تذوب شوقًا لمثل هذا المقام الكريم والمكانة الجليلة

مقام أن يحبك الودود ويعلو مقامك عنده حتى يصير إقرار عينك وإسعاد نفسك وتفريج همك سببًا لبعض أفعاله جل في علاه...

{فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم من الآية:26].

لم يعد إلا الصمت ملاذا
وماذا تملك أن تقول؟
وهل سيصدقونها مهما كان ما تقول؟

ليس أفضل من الصمت الآن والصيام عن الكلام، ولتدع المعجزة المتكاملة، والآية الباهرة التي تراها أمام ناظريها تفصح عن ذاتها بنفسها وبعين إبهارها، وببليغ حديثها عن بديع صنع ربها.. فأتت به قومها تحمله..

كما هو متوقع بدأ الصراخ من أسرة مكلومة، تخشى الفضيحة، وتدرك فداحة ما ترى
أنت يا مريم؟؟!
أنت تفعلين هذا؟؟!

بدأت الاتهامات اللاذعة تنهمر على مسامعها
وبدأت النظرات القاصفة تخترق كيانها..

{يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم من الآية:27].
{يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم من الآية:28].
نادوها مذكرين إياها بهارون
أنت يا من كنت تشبهين هارون في عبادته وزهده
أنت يا من كنت آخر من نتوقع أن يصدر هذا منها

{مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم من الآية:28].

غريب شأنهم!

أصدروا عليها حكمهم
وأبرموا فيها أمر قرارهم، رغم ما يعلمونه من عفتها!
عموما لن ترد هي عليهم
لسوف تشير
فقط ستشير إليه، تاركة معجزتها تنجلي، مطفئة نار شكهم، مجهزة على شرر اتهامهم

{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم من الآية:29].
إلى وليدها
إلى المسيح عليه السلام

{إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم من الآية:30].

من؟؟
ماذا يحدث؟؟
أهو من يتكلم؟!
أرضيع يتحدث!!!
إن هذا لشيء عجاب!

إنه يخطب فيهم خطبة ما أفصحها وما أجمعها ؛ فأول تصديرها تقرير العبودية لله.. إني عبد الله..
ما هو إلا عبد أنعم الله عليه،

إنه يستفتح حياته بإقامة الحجة، على كل من سيزعم ألوهيته، أو يدعي بنوته لله، أو يفتري فرية امتزاج لاهوته بناسوته، سبحان الله، جل في علاه... ما هو إلا عبد

بهذا بدأ كلامه في الناس... وهكذا استفتح حجته، وبرأ أمه الطاهرة النقية..

{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا . وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا . وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا . وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:30-33].

ذلك ببساطة هو عيسى بن مريم
فلم الجدال وعلى ماذا يدور المراء؟
هو عبد عابد نبي، مبارك حيثما حل، مأمور بصلاة وزكاة كسائر العباد

بشر يولد ويموت، وابن بار، وحامل رسالة ومبلغ كتاب... هذا هو المسيح ببساطة ووضوح..

ليس إلهًا، ولا ابنا لله، وما قال للناس يوما: اتخذوني وأمي إلهين..
ظهر الحق للناس..
وظهرت براءة مريم، وأنجاها الله بهذه المعجزة، ووهبها أعظم الهبة، وأكرمها بولد بار
وبرسول نبي
بعبد لله

وما أشرفه من مقام
ذلك المقام الذي توارثوه وكان دوما سمة حياة مريم وأمها وولدها

مقام العبودية
أنعم به من مقام

المصدر: فريق عمل طريق الإسلام