فرعون..5

منذ 2017-03-26

لابد من وجود ساحر إلى جوار الطاغية ولقد كان لفرعون سحرته الذين طالما جمعهم ليسحروا أعين الناس ويسترهبوهم ولطالما فعلوا وجاءوا بسحر عظيم

ولابد لفرعون من سحرة! 

سحرة يزينون باطله ويحسنون فساده وإفساده، ويجملون بغيه ويشرعنون بطشه، ويسوّقون باطله، ويرهبون معارضه، ويخوفون رافضه
والعلاقة بين السحرة وفرعون لم يبتدعها هذا الأخير
إنها دوما علاقة تكافلية موجودة بين الطغاة وبين السحرة
وهذا النوع من البشر - المستبدون - لهم أسلوب متشابه وطرق مشتركة ولهم طبيعة واحدة ورثها فرعون عن النمرود، وشاركهما فيها ملك الأخدود وأصحاب الرس وثمود، وطواغيت عاد قوم هود
 توارثوها بغير نسب ولا عصب، وورَّثوها لكل مستبد جاء بعدهم، كأنما تواصوا بها؛ بل هم قوم طاغون.

ومن هذه الطرق المتكررة والطبائع المشتركة , وجود السحرة إلى جوارهم

لقد كان لصاحب الأخدود ساحره، الذي طالما خدع الناس بألاعيبه وحيله ليعبدهم لمليكه وقد حاول هذا الساحر تعليم الغلام تلك الحيل والألاعيب وهذا لمعرفته بتلك الطبيعة 

لابد من وجود ساحر إلى جوار الطاغية 
ولقد كان لفرعون سحرته الذين طالما جمعهم ليسحروا أعين الناس ويسترهبوهم ولطالما فعلوا وجاءوا بسحر عظيم
لكن السحر يتنوع حسب الزمان والمكان؛ فليس كل السحر , حبالًا وعصيًّا أو تعاويذ وأعمال كما في صورته النمطية القديمة بل: "إن من البيان لسحرًا". كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولتعرفن أهل ذلك السحر في لحن قولهم وتزيين أكاذيبهم.

وإن الساحر قد يتقنع بشتى أنواع الأقنعة، ويتدثر بمختلف الهيئات والأغلفة، التي تخفي زيفه وتستر حقيقته؛ فما بين قناع مثقف، وعباءة نخبوي، وأصباغ غانية، وطلاقة لسان، وعمامة شيخ سلطان وإمام ضلالة وبهتان , يتخفى السحرة

لكن مهما تنوعت أستارهم واختلف دثارهم وزُيِّف سمتهم فإن هذا لن يغير الحقيقة
حقيقة أنهم يشغلون منصب سحرة الطاغية وسدنة المستبد، وأنهم مهما تقنعوا أو تنخبوا أو تثقفوا أو حتى تعمموا وتسننوا ظاهرًا فإن قولهم وفعلهم ومآل صنعهم يثبت لك دائما أنهم مجرد سحرة.

سحرة قد تكون جريمتهم أحيانًا أشد وطأة من جريمة فرعون نفسه
ذلك بأن فرعون قد يُطاع خوفًا من سيفه ورهبة من سوطه وانبطاحًا أمام جبروته؛ لكن ذلك كله قد يزول لحظة انهيار حاجز الخوف وتمكن الإيمان من القلوب حتى تعلم أنه لن يصيب أصحابها إلا ما كتب الله لهم

لكن الساحر حين يزين البغي ويشرعن العدوان ويجمل الفساد ويسحر أعين الناس ويسترهبهم فإنه بذلك يصنع حالة من اللامبالاة والتنطع والاستسلام الطوعي؛ بل والاقتناع والسعادة وربما الانبهار بصنيع فرعون حتى يستمريء الناس من حوله الذل ويتلذذوا بالهوان، أو يرسخ الساحر تعظيمًا لفرعون ورهبة منه في تتشربها نفوس الناس فتجعلهم يفكرون ألف مرة قبل أن يغادروا حالة الاستخفاف التي أرادها لهم فرعون

باختصار الساحر يصنع جيلًا ممسوخًا من المقتنعين بقمع النار والحديد، بل وربما من المطالبين بالمزيد والمزيد والفرحين بأنهم للفرعون عبيد.

لأجل هذا الارتباط الوثيق بالسحرة , فإن السحر كان  أول ما تبادر إلى ذهن فرعون  حين برز له موسى بما يخالفه أو يسوؤه
{قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُون} [ الشعراء]

{قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَىٰ * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} [ طه]

{وَفِي مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّىٰ بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [ الذاريات]

هكذا كرر فرعون.. 
وليس فرعون وحسب 
بل كذلك فعل الملأ من حوله تلك التهمة الجاهزة التي يعرفونها جيدا
{قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ ۖ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف ]

{فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَٰذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ * قَالَ مُوسَىٰ أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ ۖ أَسِحْرٌ هَٰذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} [ يونس]

{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [ النمل ]

إنهم يظنون أن كل الخلق مثلهم يحتاجون للسحر وحيله للتلاعب بعقول الناس
نفس التهمة قيلت مرارا عن نبينا صلى الله عليه وسلم
{إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ}   [المدثر]
{وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [ القمر]
{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأنعام]
{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ۖ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ ص ]

وليس نبينا وحسب بل هي تهمة جاهزة ترفع في وجه كل مصلح بصيغ مختلفة

قيلت للمسيح عليه السلام
{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [ الصف ]

بل قيلت لسائر النبيين والمرسلين 

{كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [ الذاريات ]

هذا ما يعرفه المجرمون وذاك ما يتصورونه 

ولذلك كانت نصيحة الملأ لفرعون {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ

ولقد استجاب فرعون 
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ

 ظنا منه أنه سيفل الحديد بمثله فقد قرر فرعون أن يستعين بأهم أعوانه 

السحرة..

ولأن فرعون قاريء جيد لأطماع الناس وبما أنه ذو خبرة ممتازة في استغلال شهوات أتباعه وتحريكها لتخدم مصالحه فقد قرأ فرعون الطمع في سؤال السحرة عن الأجر حين استدعاهم لمواجهة عدوه موسى

{أَئِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ}
 كان هذا قبل السجود

قبل أن تخالط قلوبهم بشاشة الإيمان بالرب المعبود

في هذا المقام كانت الدنيا وثوابها هي كل ما يشغل السحرة ويحركهم
وفرعون خبير بمثل هذه المطالب
اطمئنوا إذن
الإجابة: نعم
نعم لكم الأجر الدنيوي والمثوبة الزائلة العاجلة
ليس هذا فحسب 
بل زاد فرعون  في إجابته على مطلبهم بأن طمأنهم على موقعهم منه فقال: {وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}
ستكونون قريبين من السلطان
ستكون لكم حظوة لديه وزلفى عنده
سيكون لكم ((ظهرًا)) فلن يجرؤ أحد بعد اليوم على ضرب بطونكم

يالسعادتهم وحماستهم بعد هذا الوعد من الطاغية ذي الأوتاد
فليتفانوا إذن وليبذلوا قصارى جهدهم ولينفخوا وينفثوا في عقدهم فقد صدر الوعد الفرعوني واطمأنوا على عاجل مستقبلهم

{فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُون }

هكذا أعلنوها قميئة سخيفة سمجة
بعزة فرعون
لابد من الشعار
العنوان
لابد ألا ينسى السحرة في كل مكان وزمان وظيفتهم
إنهم مجرد ملمع لنعل فرعون وكل إمكاناتهم مسخرة لهذا الهدف 
تزيين فرعون وشرعنة وجوده وترسيخ الهتاف باسمه والتشنج لأجل عزته
ما علاقة عزة فرعون بحرفتهم وما دخله بمهنتهم وفنهم؟!

إنهم يعتمدون في الأصل على نفخهم ونفثهم وعقدهم وغالبا لا يعبدونه كما يفعل العامة فللسحرة عقائد وعهود أخرى
لماذا إذن فرعون وعزته في هذا السياق؟
إنها الغاية من الإتيان بهم كما أسلفت
هذه وظيفتهم
وتلك دوما مهمتهم

لكن هذا كان في أول الأمر كما أشرنا
حين كانوا مجرد سحرة مخادعين
لكن عند لحظة الشهود للآية والمعجزة والعلامة = اختلف الأمر تماما وتغير القول بالكلية 
آمنا برب العالمين
رب موسى وهارون
وقبل القول كان الفعل
كان السجود... بل الإلقاء ساجدين
وهذا ما لا يفهمه فرعون
والأهم والأخطر أنه لم ولن يقبله
وكيف يقبله و هو فقط من يحق له أن يرى، وهو فقط من يسمح لك أن تتبع وأن ترى فقط ما يرى
 وهو يحتقر ويزدري ويسخر ويستهزئ بمخالفيه

هو فقط عند نفسه الأعلى والجميع دونه، وهو فقط الأعز والجميع أذلاء إليه، وهو وحده الحر والجميع عبيد له، وهو وحده الرشيد والجميع همج رعاع لا يرقون لفكره ولا يقتربون من عبقريته فكيف يجرؤون على مخالفته
هل نسوا أنفسهم؟ 
هل غابت عن أذهانهم حقيقتهم؟ 
هل ظنوا أنه حقا لم يعد يعرفهم؟ 

إن فرعون يرى نفسه حالة فريدة ليس لها شبيه، ودور الآخرين في الحياة أن يركعوا له فقط ويثنوا على أفعاله وحسب وينفذوا أوامره لا غير، والويل كل الويل لمن ناقش أو اعترض أو فكر
فما بالك لو قرر؟! 
حتى لو كان ذلك القرار : سجدة

لكن كما أن فرعون كان يعرف سحرته ويدرك في البداية أطماعهم ويجيد مخاطبةما في نفوسهم = فإن السحرة أيضا كانوا يعرفونه جيدا

يعرفون خصاله ويستوعبون خصائصه التي تنتج عنها تصرفاته وتتفرع منها قراراته

{وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا }

هذه هي حقيقتك يا فرعون
تنقم منا الإيمان!
تنتقم لقبولنا الآيات البينات!!

هذا ما فهمه السحرة من سؤال فرعون الاستنكاري الذي ظهرت فيه بحماقته المعهودة حقيقة نواياه

{آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؟ }

هذا السؤال يعد جزءا مهما من الخطاب الفرعوني المتجبر الذي له خصائص ومحاور تظهر أهمها في خطاب فرعون في سورة طه

{آمنتم له قبل أن آذن لكم}  

{إنه لكبيركم الذي علمكم السحر

{فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل

{ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى

هذا الخطاب يمثل أربعة محاور مفصلية تتجلى من خلالها نفسية فرعون

أولا: السلطان على الفكرة.
ثانيا: التخوين والمؤامرة.
ثالثا: القمع والبطش.
رابعا: ترسيخ ثقافة الخوف وصناعة العبرة.

أما السلطان على الأفكار فيظهر جليا في قول فرعون: قبل أن آذن

هذه هي العلة الذي ثارت لأجلها ثائرته وجن جنونه
لقد كان انزعاج فرعون بسبب التفلت من سلطانه على الأفكار وسيطرته المحكمة على إرادة شعبه، وليست فقط طبيعة هذا الإيمان وفحوى تلك العقيدة التي اعتنقوها أو الأفكار التي تشربوها.

لم تكن المشكلة فقط في نوعية الإيمان وتفاصيله
 المهم أن يكون إيمانًا تحت السيطرة
 إيمانًا مدجنًا منزوع الإرادة
 إيمانًا يتحرك بالأمر، وعقيدة بلا عقيدة.