الدعوة - فوضى النخب الإسلامية وإشكاليات طلب العلم

منذ 2017-05-18

وليس المقصود هنا فهم ما تقرأه على النحو الذى قصده مؤلف الكتاب فقط ولكن المقصود هو التفكر والتأمل (بعدما تكون قد قرأت وفهمت) فيما قرأته واستخراج الدروس والعبر منه، ثم ترتقى بعدها لدرجة أعلى علميا بأن تستخدم هذا العلم -الذى درسته وتفكرت فيه وتأملته مليا- فى حل مشكلات الواقع العملى

فوضى النخب الإسلامية وإشكاليات طلب العلم وأثرها على العمل الحركى الإسلامى :



هناك شاب مشهور ويهتم عشرات الآلاف بما يكتبه على الفيس بوك قرأت له ذات مرة وهو يوصى الشباب بالعلم فيقول ما معناه "لا يمكن أن تصير لديك ثقافة بالتاريخ إلا بعد ان تتم قراءة كتاب قصة الحضارة وكتاب كذا وكذا .. الخ" وذكر عدة كتب لا تقل عن ستة او سبعة على ما أذكر، واللغم هنا هو أن قصة الحضارة هو 42 جزءا (فى نسخته العربية) كما ان الكتب الأخرى التى ذكرها (ولا أذكر أسماءها الآن) هى من هذا القبيل فكل منها مكون من نحو عشرة مجلدات، فحسب توجيه هذا الأخ لايمكنك أن تكون مثقفا تاريخيا إلا بعد ان تقرأ نحو مائة مجلد، ومن هذا القبيل ما قرأته لشخصية مشابهة ولكن فى مجال العلوم الشرعية حيث قال (على الفيس بوك أيضا) ما معناه "لا يبلغ المرء أن يكون طالبا للعلم إلا أن يقرأ فى اليوم 500 صفحة بشكل مستمر"، وهذا ذكرنى بكيف ظللنا نحضر نحن وآلاف الشباب والكهول لنحو السنتين (1980-1981) محاضرات شيخ شهير لنستمع لمئات الأدلة وأقوال العلماء لترجيح أن نقاب المرأة فريضة وليس مندوبا، ثم بعدما نرتقى فى طلب العلم (بعدها بسنوات) نعلم أن فرضية النقاب ليس مختلف عليها فقط بل إن مذهب أغلب علماء السلف الصالح يرى أنه مندوب وليس فرضا، ثم نأتى اليوم حين تحين لحظة الحقيقة فنبحث عن المراجع المعاصرة فى الاقتصاد الكلى والتنمية الاقتصادية.. الخ فلا نجد مراجع إسلامية ذات بال، ونفس الشىء بشأن الأمور السياسية المهمة فلا تجد بحوثا أصلية عميقة فى السياسة الشرعية المعاصرة إلا القليل الذى لا يسد الحاجة.

وهذه القصص التى قدمنا بها مقالنا تعكس حقائق عدة حول أزمتنا فى مجالات طلب العلم والبحث العلمى والارتقاء بالعمل الحركى الاسلامى، ويمكن المرور على أبرزها فى نقاط محددة كالتالى:

إشكالية النخب التى توجه الشباب: لاسيما وأن صناعة رموز موجهة للشباب الآن صارت أسهل عبر التسويق بالويب ومواقع السوشيل ميديا، وقد اختلف المحللون ذوى الاعتبار فى توصيف هذه النخب فالبعض يرى أنها نخب تصنعها أجهزة أمنية دولية وإقليمية لإغراق المسلمين فى قضايا لا قيمة لها كى تمنع من تحقيق نهضة الأمة الإسلامية، والبعض يخالف هذا الرأى ويرى أن مايعترى هذه النخب من آفات هو إفراز طبيعى لحالة التخلف العلمى التى نعيشها فتوجيههم الخاطئ للشباب فى طرق ومناهج طلب العلم وقضايا البحث العلمى هو بسبب تكوينهم العلمى الخاطئ أو الناقص، بينما قد يرى آخرون أن طلب هؤلاء من الشباب قراءة مئات المجلدات بشكل عام أوقراءة مئات الصفحات فى اليوم بشكل منتظم ونحو هذا إنما يعكس نوع من استعراض العضلات العلمية أمام الشباب لأن من يقل هذا معناه انه فعل هذا فعلا مع نفسه فهو من قبيل مدح نفسه ليجمع حوله الشباب أكثر وأكثر، وعلى كل حال وأيا كانت النوايا والدوافع والمحركات لهذه الظاهرة فالمحصلة من وجهة نظرى أن الشباب يظل غارقا فى مرحلة التيه الفكرى والعلمى بسبب هذه النصائح الخاطئة وبسبب استنفاذ طاقتهم فى مجالات علمية خاطئة، والنقاط التالية ستوضح وجهة النظر التى نطرحها.
فى البداية لابد أن نؤكد أن العبرة فى العلم هى بالفهم والوعى بالحقائق العلمية وليس بحفظها أو تكرارها أوكثرة الاطلاع عليها (بعكس الذى يقول يتحتم تقرأ كل يوم 500 صفحة)، نعم نحتاج لحفظ بعض المعلومات وتكرار الاطلاع على غيرها وكثرة الاطلاع بالنسبة لأخرى ولكن هذه كلها أدوات وليست غايات فهى أدوات لتحقيق الوعى والفهم بهذه الحقائق، فما قيمة أن أقرأ 500 صفحة ولا أفهمهم إلا بنسبة ضئيلة؟؟
فالعبرة بالفهم، نعم هناك من يقرأ هذا العدد من الصفحات بيوم واحد ويفهمها ولكن أشك أن الداعى لهذا يعى ما قرأ (لو كان قرأ) إذ لو وعى لما أطلق هذه الدعاوى على العموم هكذا.

وليس المقصود هنا فهم ما تقرأه على النحو الذى قصده مؤلف الكتاب فقط ولكن المقصود هو التفكر والتأمل (بعدما تكون قد قرأت وفهمت) فيما قرأته واستخراج الدروس والعبر منه، ثم ترتقى بعدها لدرجة أعلى علميا بأن تستخدم هذا العلم -الذى درسته وتفكرت فيه وتأملته مليا- فى حل مشكلات الواقع العملى واستشراف ملامح المستقبل وكيفية التعامل مع مشكلاته.

ثم ناتى للضوابط التى تحكم طلب العلم بعصرنا هذا من وجهة نظرى وهى تقتضى أن نفرق بين أنواع الأشخاص الذين يدرسون وما الهدف من دراسة كل منهم وهنا نجد أننا أمام عدة أنواع من الناس:
الأول- المسلم العادى ذو الوعى والثقافة العامة.

الثانى- طالب العلم.

الثالث- الباحث المتخصص بعلم ما.

الرابع- العالم المتخصص بعلم ما.

حيث لكل من هؤلاء منهجه الخاص وأدواته المناسبة لحاله وهدفه.

فما يحتاجه المسلم العادى ذو الوعى والثقافة العامة من الدراسة محدود بكتب محدودة فيلزمه كتاب واحد مكون من مجلد واحد بالفقه كله (لو درس كل أبواب الفقه) لن تزيد صفحاته عن 400 صفحة غالبا بل ربما أقل.

ومثله فى عقيدة أهل السنة.

وكتاب أقل منه قليلا فى أصول الفقه.

ومثله فى علوم الحديث.

ومثله فى علوم القرآن.

وكتاب حديث كشرح الخمسين الرجبية ثم رياض الصالحين وربما بعدهما اللؤلؤ والمرجان.

وكتاب رقائق كموعظة المؤمنين للقاسمى وربما بعده تهذيب مدارج السالكين.

وكتاب أذكار كتحفة الذاكرين للشوكانى والوابل الصيب أو صحيح الكلم الطيب.

وتفسير مختصر ومبسط للقرآن.

وكتاب فى السيرة النبوية.

وكتاب واحد نحو 400 صفحة يجمع التاريخ الاسلامى كله.

ومثله عن التاريخ الحديث.

ومثله عن تفسير أو فلسفة التاريخ إسلاميا.

وبمثل حجمه كتاب أو اثنان حول الوعى السياسي العام والمذاهب الفكرية المعاصرة والرد عليها.

فهذه كلها لن تبلغ 20 كتابا لو أتمها الشخص (بحسب ظروف وقته وحياته)  فى سنة أو اثنتين أو ثلاثة فهو خير وسيصير ذا وعى راقى وبصيرة ثاقبة كمسلم عادى غير عالم ولا متخصص.

ولو تلقاها على يد متخصص كل فى مجاله لعظمت استفادته، ولاشك أنه قد يسبق دراسته لما ذكرناه دراسة بعض الكتيبات والأبحاث القصيرة والمقالات بكل مجال منها كتمهيد وتهيئة لعقله لدراسة كتب كاملة بها قدر من التفصيل.

وبذا يتحول هذا المسلم لشخصية متكاملة علميا وواعية فكريا ويصير مؤثرا ونافعا فى محيطه وجاهزا لأن يقوم بالعديد من الأدوار الحركية اللازمة للدعوة الإسلامية والعمل الإسلامى الواعى المثمر، وهكذا يتحقق هذا فى مدى منظور ومحدد لن يقل عن سنة كاملة ولا ينبغى أن يزيد عن ثلاث.

أما ما يحتاجه طالب العلم الشرعى أو الاجتماعى والانسانى أو الطبيعى فهو أن ينهى دراسة ما ذكرناه آنفا بشأن المسلم العادى ثم يتخصص بعدها فى علم ما بحسب مناهج دراسة كل علم من العلوم والأسهل هو دراسة كل علم على علمائه ومتخصصيه فهم سيوفرون له الجهد والوقت وسيكتسب منهم ملكة العلم إذ ما يكتسبه من ملكة علم ما بدراسته منفردا بقراءة الكتب فى عام كامل قد يكتسب ملكة خيرا منها وأكثر منها بالاستماع للعالم المتخصص أو النقاش معه بساعات قليلة لكن بشرط أن يكون عالما أوباحثا حقيقيا متخصصا بقدر جيد فى هذا العلم أو ذاك، والحصول على هؤلاء فى بعض المجالات صار من غير اليسير بسبب ما أشرنا إليه فى بداية هذا المقال من وجود نخب من الأدعياء أكثر منهم أهل علم أو فهم ووعى.

ولو كان الطالب يسعى للتخصص فى العلم الشرعى فينبغى البدء بحفظ القرآن وفقا لأحكام التلاوة والاشتغال بدارسة علومه وتفسيره أولا بشكل عام ثم بعد هذا يحدد بأى فرع من العلوم الشرعية سيتخصص، ولكل فرع مناهجه التى يعرفها علماؤه المتخصصون فيه الذين سيتلقى عليهم.

وبشكل عام فإن ما قاله ابن خلدون بشأن طريقة التعلم هو مفيد للغاية وصادق، حيث قرر أن العلم يدرس بثلاث مراحل متدرجة، فليراجعها من شاء فى مقدمة ابن خلدون لئلا نطيل هنا.

أما التخصص وصولا لـ"العالِمية" فى العلوم الاجتماعية والإنسانية والطبيعية فلا سبيل للتميز فيها بغير العبور عبر الكليات المتخصصة في كل منها بالجامعات العربية أو الأجنبية الكبرى والمتميزة ويندر أن يتعلم أحد أى من هذه العلوم تعلما يعتد به بالقراءة الذاتية دون تلقى ومذاكرة ونقاش مع أرباب هذا التخصص أو ذاك المشهود لهم بـ"العالِمية"  فى أروقة هذه الجامعات، وماسوى هذا فهو مجرد أوهام إلا ماندر والنادر ليس له حكم.

أما أولويات التخصص فى أى من العلوم الشرعية أو الاجتماعية والإنسانية أو الطبيعية فقد سبق ان فصلنا رأينا بشأنه فليراجعه من شاء هنا.

وبهذه المفاهيم المحددة نصل إلى فهم كيف أن إشكاليات طلب العلم بين الشباب اليوم تؤثر سلبا على الواقع الحركى الاسلامى وذلك من جوانب عدة:
الأول- جانب أن تدهور الحالة العلمية بيننا قلل من رشادة القرار والسلوك الحركى للحركيين الاسلاميين فى عالم اليوم.

الثانى- أن الاعتماد على الإرشادات التى توجه الشباب لدراسات مطولة ومجلدات كثيرة جمد قدراتهم الحركية واستنفذ ما تبقى منها فى القراءة فقط.

الثالث- هناك من حاول تجاوز عقبة الجانب الثانى هذه فاعتمد مناهج علمية بسيطة أو سطحية أو أقل مما يجب كى يسرع فى تفريغ الشباب للعمل الحركى وهو أمر انعكس بالسوء على هذا العمل الحركى إذ أدى لنفس النتيجة المذكورة فى الجانب الأول وهى تقليل رشادة القرار والسلوك الحركى.

ومن هنا فنحن محتاجون للتوسط فى الموازنة بين العلم والحركة، مع تقديم العلم (بشروطه وضوابطه التى ذكرناها هنا) على الحركة، لأن هذا واجب شرعى حيث لابد من العلم قبل العمل كى يكون العمل منضبطا شرعيا وواقعيا وفق الأسس العلمية والموضوعية. 

عبد المنعم منيب

صحفي و كاتب إسلامي مصري