طبول الحرب على دين المصريين
لقد تسببت الحرب الرسمية على الدين في تفكيك التماسك الاجتماعي، وشيوع الانفلات الأخلاقي الذي أصبح ظاهرة مدمرة تهدد المجتمع المصري، فإنما الأمم الأخلاق ما بقيت.. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا، ونتائج التدمير الأخلاقي أخطر من الانهيار السياسي والاقتصادي
المفروض أن الدين فوق الخلاف السياسي؛ فالإسلام ليس دينا يخص حزب أو جماعة، وإنما عقيدة الأغلبية العظمى للشعب المصري، ولكن يبدو أن النظام السياسي الحالي استغل خلافه السياسي مع الإخوان المسلمين وحوّله إلى صراع مع الدين، وسخّر قوة الدولة في معركة مع العقيدة، وهذا سلوك حكومي غير مسبوق في تاريخ مصر منذ الفتح الإسلامي.
أي نظام سياسي عاقل يريد أن يستقر ويعيش فترة طويلة يحرص على عزل خصمه السياسي دون الدخول في مجابهة مع غالبية الشعب، وكان أمام الذين أطاحوا بالرئيس محمد مرسي في انقلاب 3 يوليو/تموز أن يكسبوا الشعب المصري بتبني مشروع يحقق طموحات المصريين ويظهر الاحترام لعقيدتهم لكن ما حدث هو العكس.
هذا الموقف المعادي للدين لا نجد له مبررا غير أن نزعة شاذة منفلتة تستعرض قوتها في معركة مصيرها الفشل لأنها ضد السياق العام ومضادة لحركة التاريخ؛ فكل القوى العالمية التي احتلت مصر وكانت تعتنق عقائد غير عقيدة المصريين لم تفكر في مصادمة الشعب المصري بالشكل الذي نراه هذه الأيام.
الإغريق وبعدهم الرومان الذين حكموا مصر مئات السنين اعتنقوا ديانة المصريين وعبدوا آلهتهم، وفي العصر الاستعماري تودد الاحتلال الفرنسي للمصريين بإعلان احترامهم للإسلام، بل زعم نابليون أنه جاء للدفاع عن عقيدة المسلمين، وحرص الإنجليز الذين احتلوا مصر لأكثر من 7 عقود على عدم الصدام مع الدين بشكل مباشر.
الذي يدعو للاستغراب والدهشة هو الإصرار على الصدام العلني مع الدين ومحاولة اختراع معركة مع الإسلام دون مراعاة لنتائج هذه المعركة حتى لو كانت في غير صالح الذين أشعلوا هذه النار؛ فالهجوم على الدين استعداء للجماهير ويفقد السلطة الشعبية، والسؤال المحير هو لماذا يخوضون هذه المعركة ضد دين الأغلبية؟
التوجه الرسمي ضد الثوابت:
لا نعلن سرا عندما نقول أن عبد الفتاح السيسي هو الذي يقود الهجوم على الثوابت وتبديل الدين بشعارات متنوعة مثل مكافحة الإرهاب والتطرف وتطوير الخطاب الديني، وفي كل الخطابات يتهم المسلمين بالإرهاب وينحاز للمسيحية واليهودية، ولا يخفي مشاعره في المناسبات المختلفة.
في اللقاءات مع علماء الأزهر يظهر على السيسي علامات الغضب والضيق، وتصدر منه الإدانات للمسلمين وما يعتنقونه من أفكار، وفي المقابل تبدو عليه علامات الفرح والسرور عندما يزور الكنيسة ويلتقي رجال الدين المسيحي!
منذ البداية يسعى السيسي للحصول على شرعية خارجية، ويتقرب من الإسرائيليين والغرب المسيحي، ويتودد إليهم بإظهار العداء للإسلاميين ويوسع الدائرة بأكثر مما يريد زعماء الغرب المسيحي، ويقدم نفسه على أنه المحارب المخلص الذي يمكن أن يقوم بما لا تستطيعه القوى الخارجية!
ولخدمة إستراتيجيات الخارج أعلن السيسي أنه سيقود حركة لإصلاح الإسلام من الداخل، وهلل الإعلام الغربي لهذا التوجه المفاجئ وأظهره كمصلح مثل مارتن لوثر الذي شق المسيحية وقام بحركته ضد الكاثوليكية، واحتفى الغربيون بالتصريحات مثل "تغيير الأفكار القديمة التي لها أكثر من ألف عام" و" تجديد الخطاب الديني".
لكن مع مرور الوقت تبين أنه لا توجد أفكار جديدة، ولا يوجد شيء يستحق الانتباه، وبالتالي تبخرت التوقعات بأننا أمام تجربة مشابهة لما فعله مارتن لوثر في المسيحية، الذي كان له آراء نقدية لممارسات البابوية وصلت إلى بيع صكوك الغفران.
ولتمرير التبديل المستهدف للدين تم التهويل والمبالغة في حجم الخطر الإرهابي وشيطنة التدين، لكن التطورات على الأرض لم تقدم المبررات المقنعة لهذا التقييم؛ فالإخوان وكل الحركات السياسية الرافضة للانقلاب رفضت العنف، ولم تحدث استجابة للاستفزازات المتعمدة.
لكن مع فوز دونالد ترمب برئاسة الولايات المتحدة وجدها السيسي فرصة للتوافق معه في الموقف من الإسلام لدرجة التطابق، فقرر القيام بضربته للتخلص من الأزهر الذي يمثل عقبة أمام التوجه الجديد.
الأزهر يقاوم في حدود الممكن :
المؤسسة الأزهرية رغم كل الانتقادات والملاحظات لم تستجب للتوجه الجديد وحاولت التصدي له في حدود ما تسمح به الصلاحيات والمساحات الممكنة، ويختلف الأزهر بعلمائه عن وزارة الأوقاف التي يسيطر عليها مجموعة من الموظفين المختارين بعناية.
القضية الأولى التي ظهرت فيها مقاومة الأزهر موضوع الخطبة المكتوبة لصلاة الجمعة، ونجح شيخ الأزهر في إلغاء قرار وزارة الأوقاف الذي كان سيحرم الإمام من حقه في إلقاء الخطبة والالتزام بالورقة التي تعدها جهات سلطوية وتعميمها على الخطباء عبر الإنترنت.
القضية الثانية التي اصطدم فيها الأزهر بشكل علني موضوع الطلاق الشفوي الذي قرر السيسي عدم الاعتراف به، حيث رفض الأزهر وأصدر بيانا مكتوبا ضد الفكرة المطروحة، فكان الرد بتصريحات علنية في بعض اللقاءات مع السيسي عبر فيها عن ضيقه بالدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر شخصيا.
الرفض الأزهري في القضيتين كشف أن محاولة تبديل الدين لن تمر بسهولة، وأن الأزهر عقبة في الطريق، ورغم التأييد من شيخ الأزهر للسيسي سياسيا فإنه يرفض أن يستجيب للتوجهات الجديدة التي تهدف إلى اللعب في ثوابت الدين، ولهذا جاءت فكرة تدمير الأزهر وإزالته من الطريق بالقانون الذي حمله أحد النواب للبرلمان.
ولتمرير القانون قاموا بحملة تهيئة للرأي العام فشنت الأذرع الإعلامية حملة ضارية ضد الأزهر والتي وصلت إلى اتهام الشيخ أحمد الطيب بالإرهاب، لكن والحمد لله انضمت للأزهر دوائر قلبت اتجاه الريح ومنعت تمرير القانون.
وزارة الأوقاف وتجفيف منابع الدين:
للهروب من الأزهر أو لتجاوزه يعتمد لوبي الحرب على الدين على وزارة الأوقاف، فهذه الوزارة المنوط بها خدمة الدين والدفاع عنه هي التي أسندوا إليها مهمة رفع لواء مواجهة الدين، ولا تقوم هذه الوزارة بالمهمة فقط في المساجد التي تخضع لإشرافها وإنما يظهر الوزير وموظفوه في كل مكان للدفاع عن التصور السياسي الجديد للدين.
رغم أن تدريس الدين في المراحل التعليمية من مهام وزارة التعليم فإن الذي أعلن إلغاء كتاب الدين في المدارس واستبداله بكتاب آخر عن الأخلاق، موضوع بالتشاور مع الكنيسة هو وزير الأوقاف وليس وزير التعليم، لكن يظل التضييق الذي تتعرض له المساجد منذ انقلاب 3 يوليو 2013 هو الأخطر بعد تجفيف منابع الدين في المجتمع.
آخر القرارات للتضييق على الصلاة إلغاء مكبرات الصوت في صلاة التراويح وهم يعلمون أن معظم المساجد لا تستوعب أعداد المصلين في شهر رمضان لصغر المساحات، وهذا القرار يأتي تتويجا لسلسلة طويلة من القرارات التي تجعل المساجد طاردة وليست جاذبة للمصلين.
لقد تسببت الحرب الرسمية على الدين في تفكيك التماسك الاجتماعي، وشيوع الانفلات الأخلاقي الذي أصبح ظاهرة مدمرة تهدد المجتمع المصري، فإنما الأمم الأخلاق ما بقيت.. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا، ونتائج التدمير الأخلاقي أخطر من الانهيار السياسي والاقتصادي، فالنظام السياسي الفاسد لا يستمر طويلا، ويمكن تغييره بنظام آخر، كما أن الانهيار الاقتصادي يمكن التعافي منه بإجراءات صحيحة وإدارة مخلصة، أما الانهيار الأخلاقي الذي يفسد أجيالا فيصعب التعافي منه بسهولة.
الإسلام هو الدين الخاتم، ليس لعبة لنزوات من يقتفون خطى أبي جهل ومسيلمة، فهذا الدين الكامل من كل نقص لا يتأثر بمثل هذه الخزعبلات، ولأنه محفوظ من رب العالمين فهو أكبر من أن يتأثر بحملات التشكيك والتطاول التي يقوم بها بعض الصغار.
في الحقيقة لا نجد مبررات لمثل هذا التوجه الرسمي الذي يفتعل معركة مع الدين، فهذا العداء لعقيدة المصريين لن يجلب الاستقرار، ومحاولة سلخ الشعب المصري عن دينه سيؤدي إلى وطن منهار، فأي مجتمع بلا دين كإنسان سلخوا منه اللحم والدم، غير قابل للحياة، فأين العقل مما يجري؟!
عامر عبد المنعم
كاتب صحفي
- التصنيف: