قبورنا .. وقلوبنا
إن بأيدينا أن نستعد لإصلاح قبورنا وتنويرها، بإصلاح قلوبنا وتنويرها، وإنما ينير القلب تمام التوحيد، وكثرة الاستغفار والذكر، والسماحة والعفووالصفح والعمل الصالح الخفي.
قلب المرء عمود حياته الاساس، وعليه مدار سلوكياته وأفكاره، ونواياه، وخباياه، ومخبوء كل امرىء في قلبه هو حقيقة أمره، ووواقع سره، وصادق ذاته.
لذلك كان أصل الحساب على حقيقة القلب وما نتج منه من عمل، وليس على صورة الجوارح أو ظاهر الجسد، «إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم» (أخرجه مسلم) ، وفي رواية لمسلم «وأعمالكم» .
ولذلك أيضا فإن سبب النجاة يوم القيامة من الأهوال والعذاب والاستقرار في النعيم الخالد هو القلب السليم، قال سبحانه: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} وهو القلب الذي قد صار صالحا منيرا بنور التوحيد، خاليا من الشبهات والشهوات.
هذا القلب الصالح تمده مادة الإيمان، فلكأنه يتغذى عليها، فتنبت فيه النورانية شيئا فشيئا حتى يصير نورانيا، ويصير العبد عبدا ربانيا، فإن لم تمده مادة الإيمان مدته مادة الفسوق..
فقد روى مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: " القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهر؛ فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف فذلك قلب الكافر، وقلب منكوس فذلك قلب المنافق، عرف ثم أنكر، وأبصر ثم عمي، وقلب تمده مادتان: مادة إيمان ومادة نفاق فهو للغالب عليه منهما"
فقسم حذيفة رضي الله عنه القلوب إلى أربعة أقسام:
قال: قلب أجرد وهو قلب المؤمن، أي: متجرد مما سوى الله عز وجل، خالٍ مما سوى الله عز وجل، فيه سراج يزهر، يعني: مصباح يضيء، كما قال الله عز وجل: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}، فهو نور في قلب المؤمن يفرق به بين بين الهدى والضلال.
وقلب أغلف فذلك قلب الكافر: داخل في غلافه لا يخرج منه كفر ولا يدخله إيمان، كما قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}.
وقلب منكوس فذلك قلب المنافق، كما قال عز وجل: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا}، فقلب المنافق كالإناء المنكوس الذي لايستقر فيه شىء، فهو يعرف الحق ولكنه لا ينقاد له ولايرضى به ولايعمل به.
وقلب تمده مادتان: مادة إيمان ومادة نفاق، وهو للغالب عليه منهما، وهذا هو القلب المريض الذي هو قلب الكثيرين، ففيه ما يدعوه إلى الله عز وجل والدار الآخرة وثوابها، وفيه ما يدعوه إلى الدنيا وعاجلها وزخرفها ومعاصيها وآثامها.
ويقول سبحانه: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ}، فكان القلب المنيب الذي جاء به المؤمن طريقه لدخول هذه الجنة وهذا النعيم المقيم.
والقبر هو أول منازل الآخرة، فبعد الموت وانقطاع الحياة ينتقل الإنسان إلى الآخرة عبر هذا المسار -مسار القبر- ليبدأ الجزاء على الأعمال، فمن كان محسناً كافأه الله على إحسانه فكان قبره روضة من رياض الجنة، ومن كان مسيئاً عاقبه الله في قبره بتحويله إلى حفرة من حفر النار، ثم يستمر العذاب أو يستمر النعيم فترة البرزخ وهي فترة غيبية، لا يعرف الإنسان مدتها، إلى أن تقوم الساعة ويبعث الناس من قبورهم، ثم يفصل بينهم في أرض المحشر وينقسمون إلى فريقين: فريقٌ في الجنة وفريق في السعير.
يقول ابن القيم: " حَالُ الْعَبْدِ فِي الْقَبْرِ كَحَالِ الْقَلْبِ فِي الصَّدْرِ نَعِيمًا وَعَذَابًا، وَسِجْنًا وَانْطِلَاقًا"
إن هناك تشابها كبيرا بين حال قبورنا بعد موتنا وحال قلوبنا اثناء حياتنا، فالصالح الذي عاش بقلب نقي سمح لايحمل حقدا ولا غلا ولا بغضاء لأحد، قلب سليم عن الغي والضلال، سيصحبه ذلك القلب ولاشك في قبره، وسيكون حاله كحال ذلك القلب، الذي سينعم من نعم الله عليه، وسيكون قبره روضة من الجنان.
وصاحب القلب الحقود الحسود الباغض الماكرالأسود، الذي نافق في حياته، فلم يذق طعم الإيمان الحق، سيصحبه صاحبه في حفرته التي يأتيه منها من سموم النار ومن رائحتها.
إن بأيدينا أن نستعد لإصلاح قبورنا وتنويرها، بإصلاح قلوبنا وتنويرها، وإنما ينير القلب تمام التوحيد، وكثرة الاستغفار والذكر، والسماحة والعفووالصفح والعمل الصالح الخفي.
خالد روشة
داعية و دكتور في التربية
- التصنيف: