أوهام تعوق عن عمل الخير

منذ 2018-05-25

لا يوجد مسلم على وجه الأرض إلا وهو يحبُّ الخير ويتمنى فعله، ولكن من يبادرون في زماننا قلَّة قليلة من أفراد المجتمع المسلم.

ليس كتاب الإمام القرطبيِّ كتابَ تفسير للقرآن الكريم فقط؛ وإنما هو كتاب فقهٍ، وتاريخٍ، ولغةٍ، وفكرٍ واسعٍ عميقٍ، ومن مدرسة القرطبي ومن رياض علمه وفقهه، ومن عبير حكمته ورواياته نقتبس سطوراً فيها عبرة لكل معتبر.
فقد روى الإمام القرطبي في الجزء الأول من كتابه (الجامع لأحكام القرآن) فقال: "روى حجاج بن حجاج الأحول قال: سمعت قتادة يقول: يابن آدم! إن كنت لا تريد أن تأتي الخير إلا عن نشاط، فإن نفسك مائلةٌ إلى السَّآمة والفترة والمَلَّةِ؛ ولكن المؤمن هو المتحامل، والمؤمن هو المُتقوِّي، والمؤمن هو المتشدِّد، وإن المؤمنين هم العجّاجون إلى الله الليلَ والنهارَ".

لا يوجد مسلم على وجه الأرض إلا وهو يحبُّ الخير ويتمنى فعله، ولكن من يبادرون في زماننا قلَّة قليلة من أفراد المجتمع المسلم (رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً)؛ فما السبب إذن؟ قد يقول قائل: إنَّها الإمكانات والوسائل هي العائق! أقول: إنَّ الإنسان معذورٌ إذا فقد الوسيلة والقدرة، ولكنَّ المؤلمَ والمحزنَ حقاً هو أن عدداً كبيراً منَّا ما عاقهم سوى مرض واحد قديم جديد هو (التَّسويف):

يقول الأول: سأتصدق حينما يكون دخلي كثيرًا ومالي وافرًا.
ويقول الآخر: سآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر حينما أكبر وأحصل على مؤهِّل دراسي رفيع.
ويقول الثالث: سأبَرُّ بوالديَّ حينما يكبران وتشتد حاجتهما إليَّ.
ويقول الرابع: سأصوم النوافل حينما ينشط جسمي وتكبر سنِّي واتفرغ للعبادة.
ومثله الخامس: في صلاة النوافل.
أما السادس (المثقَّف) فيقول: سأقرأ حينما تَخِفُّ أشغالي، وتَقِلُّ أعمالي و (أتفرغ) للقراءة.

وسابعهم يقول: سأحج فريضتي حينما تتحسَّن الظروف - ولا نعلم ما الظروف؟ - ويقل عدد الحجاج ويقل (الخطر).

وهكذا تستمر حلقات التَّسويف، وكل أولئك (العاجزون) مُفَرِّطون في أوقاتهم وأعمارهم، متشبثون بأوهامٍ تستمر معهم؛ لأنَّهم لا يخرجون من همٍّ إلاَّ إلى هموم، ولا يرتاحون من شغل إلا إلى أشغال، ولا يزول عنهم تعبٌ إلا ويوصِلُهم إلى أتعاب؛ فالعمر يكبر والعيال يزيدون والأتعاب تزيد وتكثر... ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك» [1].

إنه من الممكن أن يتحقق لبعضنا أملُه مستقبلاً؛ فَيَفْرَغ من كثير من الأعمال، أو يُشفَى من مرض عضال، أو يفتح الله عليه فيغتني بعد فقر... إلى غير ذلك، ولكن وساوس الشيطان وحبائله تزيد وتتطوَّر.

وقد عرفنا من الواقع:

1 - أن عدداً كبيراً من غير الأغنياء ينفقون في سُبُل الخير أكثر من الأثرياء وأدوم؛ لأنَّ حب الدنيا يزيد وكذلك الإحساس بأن ما حصل عليه بعَرَق جبينه من الصعب التفريط فيه!
2 - أنَّ عدداً من الشباب أنشط من كثير من الكبار في صيام وصلاة النوافل.
3 - أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأسرة والمحيط الذي يعيش فيه كل فرد كان في الشباب أجود منه عند الكبار، وأن السن لا دخل له في أداء هذه الشعيرة.
ومن شبَّ على شيءٍ شاب عليه.
4 - برُّ الوالدين يبدأ مع الإنسان من صِغَرِه؛ وهو تدريب للمستقبل.
والقرب منهم يُعِين الأبناء والبنات على البر في المستقبل، وعكس ذلك صحيح؛ إذ كيف يَبَرُّ والديه من كان بعيداً عنهم في صغره وشبابه ونشاطه؟
5 - أن القراءة والتَزَوُّد من الثقافة يحتاجهما المرء كحاجته للماء والغذاء، ثم إنها قناعات تنمو مع الفرد وتستمر بناءً على الخبرة والإحساس بالأهمية والتَلَذُّذ بثمارها؛ ولن يقرأ رجل أو امرأة لم يشعرا بحاجتهما للقراءة ولم يتلذَّذا بثمارها في صغرهما؛ وحينما يحاول أحدهم أن يبدأ في الكِبَر فسيفشل في أول خطوة، وسيرمي أول كتاب يمسك به، ويغطيه الخمول والكسل الذين شبَّ عليهما.

ولذلك صدق قتادة حين قال: إن النفوس تميل إلى الفترة والملل والخمول والكسل... والمؤمن حقاً هو المُتقوِّي.

قال الله - تعالى -: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة من الآية:45]؛ فالصلاة عونٌ للمسلم في شؤونه كلِّها وعونٌ على بقية العبادات والقربات... والمؤمن هو المتشدِّد؛ والمقصود: المتشدِّد في المحافظة على أعمال الخير الملزِمُ لنفسه بالمواصلة فيها، وهي شدَّة محمودة لا تعني التضييق أو إيذاء النفس أو الآخرين.
وعكسها: الخمول والتساهل والاستجابة للوهم والشهوات الدينية؛ فهل نبادر للخيرات ونقتنع بأن خير البر عاجله.

 

(1) رواه الحاكم عن ابن عباس وصححه.

 

الكاتب: عبد العزيز بن صالح العسكر.