من صور الجَفَاء

منذ 2018-09-25

وقد يكون سببه التَّنافس المذموم، الذي قد يصل بهم إلى درجة التَّقاطع والتَّهاجر، والحديث في بعضهم البعض، وقد يكون سببه حسد بعضهم لبعض


1- جفاء الإنسان ربَّه: وهو مولاه والمطَّلع عليه، ويحدِّثنا ابن القيِّم عن هذا النَّوع مِن أنواع الجَفاء، فيقول: أمَّا قوله: (والصَّبر عن الله جَفَاء) فلا جَفَاء أعظم ممَّن صبر عن معبوده وإلهه ومولاه، الذي لا مولى له سواه، ولا حياة له ولا صلاح ولا نعيم إلَّا بمحبَّته والقرب منه، وإيثار مرضاته على كلِّ شيء، فأيُّ جفاء أعظم مِن الصَّبر عنه)   . 
وقال بعض الحكماء: لا تجف ربَّك... أما الجَفَاء بربِّك: فأن تشتغل بخدمة غيره مِن المخلوقين   .
2- جفاء النبي صلى الله عليه وسلم، ومِن ذلك: أنَّه لا يصلِّي عليه إذا ذُكِر عنده، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( «رَغِم أَنْف رَجُل ذُكِرْت عنده فلَمْ يُصَلِّ عليَّ» )   .
3- جفاء الوالدين، بالتَّأفُّف وغِلَظ القول لهما، أو قطعهما ونحوه: وهذا مِن أعظم الجَفَاء وأشدِّه، بل هو العقوق بعينه، إذ كيف يجفو المرء مَن كانا سببًا في وجوده، ومَن تعبا على تربيته، وبَذَلا جهدهما مِن أجل راحته. 
بل عدَّ السَّلف مناداة الرَّجل لوالده باسمه مجردًا مِن الجَفَاء، قال طاوس: (مِن الجَفَاء أن يدعو الرَّجل والده باسمه)    فكيف بمن يعاملهما بما هو أشدُّ مِن ذلك سوءًا. 
4- ومِن صور الجَفَاء المتفشِّية في المجتمع: جفاء الرَّجل زوجته وأبنائه، وذلك مِن أعظم أسباب الفراق وتفكُّك الأُسر، فتجده إذا دخل بيته تغيَّرت صورته، وعلا صوته، فنهر هذا، وضرب ذاك، وربَّما يكون ذلك بدون سبب أو مبرِّر، فيتحوَّل البيت مِن سكن إلى حجيم، ومِن طمأنينة إلى قلق وإزعاج، وكلُّ ذلك بسبب جفاء الرَّجل وقسوة طبعة. يقول ابن سعدي: (وكذلك رحمة الأطفال الصِّغار، والرِّقَّة عليهم، وإدخال السُّرور عليهم مِن الرَّحمة، وأمَّا عدم المبالاة بهم، وعدم الرِّقَّة عليهم، فمِن الجَفَاء والغِلْظَة والقسوة، كما قال بعض جُفاة الأعراب حين رأى النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقبِّلون أولادهم الصِّغار، فقال ذلك الأعرابي: إنَّ لي عشرة مِن الولد ما قبَّلت واحدًا منهم، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((أَوَ أَمْلِك لك شيئًا أن نزع الله مِن قلبك الرَّحمة؟))   .)   .
وقال ابن عثيمين: (أمَّا ما يفعله بعض النَّاس مِن الجَفَاء والغِلْظَة بالنِّسبة للصِّبيان، فتجده لا يمكِّن صبيَّه مِن أن يحضر على مجلسه، ولا أن يمكِّن صبيَّه مِن أن يطلب منه شيئًا، وإذا رآه عند الرِّجال انتهره، فهذا خلاف السُّنَّة، وخلاف الرَّحمة)   . 
5- ومِن الصُّور كذلك: جفاء الصَّديق لأي سببٍ كائن مِن الأسباب، فربَّما يجفو صديقه كِبْرًا وتيهًا، وربَّما يجفوه لمشكلة لا تحتمل الجَفاء، وربَّما لوِشَايَة سمعها عنه، أو خبر نَمَى إليه أو غير ذلك.
6- ومِن الجَفاء كذلك: الجَفاء الشَّديد مع النَّاس في معاملتهم والحديث معهم. فمِن النَّاس مَن يظنُّ أنَّه لا يُفْهِم حتى يعلي صوته، ويقطِّب جبينه فتراه غليظًا وقحًا فظًّا فجًّا، يخشاه النَّاس، ويتجنَّبونه مخافة لسانه السَّليط، وطبعه القاسي.
والأدهى مِن ذلك والأَمَرُّ: جفوة المنتسبين إلى الدِّين عمومًا، والدُّعاة إلى الله خصوصًا، فإنَّ بعضهم يظنُّ أنَّ هذه الجفوة مِن الدِّين، وأنَّها تكسو الدَّاعية وقارًا، وتعطيه هيبة، وقد أخطأ، بل إنَّ لها أثرًا سيئًا وتأتي بخلاف المقصود، فهي تنفِّر النَّاس عن دين الله، وتصدُّهم عن معرفته، وتباعدهم عن سبيله، ويكون هو ذاته سببًا في ذلك، لذا امتنَّ الله على رسوله صلى الله عليه وسلم أن جعله رقيق الطَّبع، طيِّب القلب، ولم يجعله فظًّا ولا غليظًا، قال تعالى:  {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}  [آل عمران: 159].
7 - ومِن صور الجَفاء: جفاء طلَّاب العلم، سواء كان الجفاء بين طلبة العلم أو جفاء المعلم أو الشيخ لهم، وهذا على خلاف الأخلاق المطلوبة مِن الشَّيخ والمعلِّم، والتي حكاها الآجريُّ بقوله: (فأمَّا أخلاقه مع مجالسيه: فصبورٌ على مَن كان ذهنه بطيئًا عن الفهم حتى يَفْهَم عنه، صبورٌ على جفاء مَن جهل عليه حتى يردَّه بحلمٍ، يؤدِّب جلساءه بأحسن ما يكون مِن الأدب، لا يدعهم يخوضون فيما لا يعنيهم، ويأمرهم بالإنصات مع الاستماع إلى ما ينطق به مِن العِلْم. فإن تخطَّى أحدهم إلى خُلقٍ لا يحسن بأهل العلم، لم يَجْبَهْهُ   في وجهه على جِهة التَّبكيت له. ولكن يقول: لا يَحْسُن بأهل العلم والأدب كذا وكذا، وينبغي لأهل العلم أن يتجافوا عن كذا وكذا. فيكون الفاعل لخُلُقٍ لا يحسن، قد عَلِمَ أنَّه المراد بهذا، فيبادر برفقه به، إن سأله منهم سائلٌ عمَّا لا يعنيه ردَّه عنه، وأمره أن يسأل عمَّا يعنيه، فإذا علم أنَّهم فقراء إلى علمٍ قد غفلوا عنه أبداه إليهم، وأعلمهم شدَّة فقرهم إليه، لا يعنِّف السائل بالتَّوبيخ القبيح فيخجله، ولا يزجره فيضع مِن قدره، ولكن يبسطه في المسألة ليجبره فيها، قد علم بغيته عمَّا يعنيه، ويحثُّه على طلب علم الواجبات: مِن علم أداء فرائضه واجتناب محارمه. يقبل على مَن يَعْلَم أنَّه محتاجٌ إلى علم ما يسأل عنه، ويترك مَن يعلم أنه يريد الجدل والمراء، يقرِّب عليهم ما يخافون بُعْدَه بالحكمة والموعظة الحسنة. يسكت عن الجاهل حِلمًا، وينشر الحكمة نُصحًا، فهذه أخلاقه لأهل مجلسه وما شاكل هذه الأخلاق)   .
أمَّا الجفاء بينهم فقد يحصل بين طلَّاب العلم مِن الجفوة ما يصل إلى حدٍّ لا يُحْمَد، وقد يكون سببه التَّنافس المذموم، الذي قد يصل بهم إلى درجة التَّقاطع والتَّهاجر، والحديث في بعضهم البعض، وقد يكون سببه حسد بعضهم لبعض، والله المستعان.
8 - جفاء مَن أحسنوا إليك، وأعانوك عند حاجتك.