سُداسِيةُ‭ ‬العِلم‭ ‬الشافعية‭...!‬

منذ 2019-01-25

أخي‭ ‬لن‭ ‬تنال‭ ‬العلم‭ ‬إلا‭ ‬بستةٍ‭ ... ‬ ‏‭ ‬سأنبيك‭ ‬عن‭ ‬تفصيلها‭ ‬ببيانِ‭...‬ ذكاءٌ‭ ‬وحرصٌ‭ ‬واجتهادٌ‭ ‬وبُلغةٌ‭... ‬وصحبةُ‭ ‬أستاذٍ‭ ‬وطولُ‭ ‬زمانِ‭..!‬

 

•‭ ‬لكل‭ ‬مُنجَز‭ ‬ومَنال‭ ‬مقدمات‭ ‬وعوامل‭ ‬تبلّغ‭ ‬إليه،‭ ‬فالعلم‭ ‬مثلا‭ ‬لا‭ ‬يحصل‭ ‬بالأماني‭ ‬ولا‭ ‬الخيالات‭ ‬أو‭ ‬الأحلام،‭ ‬وإنما‭ ‬بأمور‭ ‬إذا‭ ‬استجمعها‭ ‬الطالب‭ ‬بلغ‭ ‬مراده،‭ ‬وحقّق‭ ‬مقصوده‭...! ‬

 

•‭ ‬واشتهر‭ ‬بيتان‭ ‬للإمام‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬إدريس‭ ‬الشافعي‭(‬‮٢٠٤‬‭)‬هـ‭ ‬رحمه‭ ‬الله،‭ ‬ضمّنها‭ (‬سداسية‭ ‬تحصيل‭ ‬العلم‭)‬،‭ ‬يقول‭ ‬فيهما‭ : ‬‏

أخي‭ ‬لن‭ ‬تنال‭ ‬العلم‭ ‬إلا‭ ‬بستةٍ‭ ... ‬

‏‭ ‬سأنبيك‭ ‬عن‭ ‬تفصيلها‭ ‬ببيانِ‭...‬

ذكاءٌ‭ ‬وحرصٌ‭ ‬واجتهادٌ‭ ‬وبُلغةٌ‭... ‬وصحبةُ‭ ‬أستاذٍ‭ ‬وطولُ‭ ‬زمانِ‭..!‬

 

•‭ ‬والإمام‭ ‬هنا‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬يجعل‭ ‬قانونا‭ ‬سليما‭ ‬لبلوغ‭ ‬العلم،‭ ‬ومقدمات‭ ‬لابد‭ ‬منها،‭ ‬ومقومات‭ ‬يتعين‭ ‬ركوبها‭ ‬وامتطاؤها،‭ ‬وهي‭ ‬مما‭ ‬نص‭ ‬عليه‭ ‬حذاق‭ ‬العلماء،‭ ‬وربما‭ ‬يخالفه‭ ‬بعضهم‭ ‬في‭ ‬عدها‭ ‬أو‭ ‬أسمائها‭ ‬،‭ ‬ولكنها‭ ‬شبه‭ ‬متفق‭ ‬على‭ ‬أكثرها‭ . ‬

 

•‭ ‬وهما‭ ‬مع‭ ‬اشتهارهما‭ ‬،‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬الطلاب‭ ‬من‭ ‬يمتثل‭ ‬طريقها،‭ ‬أو‭ ‬يطبق‭ ‬قانونها،‭ ‬فيأخذها‭ ‬بمأخذ‭ ‬الجد،‭ ‬ويشحذ‭ ‬همته‭ ‬للعمل‭ ‬بموجبها،‭ ‬لأن‭ ‬العلم‭ ‬أعلا‭ ‬المراتب،‭ ‬وأنبل‭ ‬المقاصد،‭ ‬ولا‭ ‬يوصل‭ ‬إليه‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬جسر‭ ‬من‭ ‬التعب،‭ ‬ومطايا‭ ‬من‭ ‬النصب‭ ‬والتصبر،‭ ‬وفِي‭ ‬الحديث‭ ‬الصحيح‭  ‬ «ومن‭ ‬يتصبر‭ ‬يصبّره‭ ‬الله» ‭ . ‬وهذه‭ ‬العوامل‭ ‬السداسية‭ ‬أسس‭ ‬الفوز‭ ‬والبلوغ‭ ‬والتحصيل‭ ....! ‬قال‭ ‬أبو‭ ‬تمام‭ ‬الطائي‭ : ‬َ‭ ‬بصرتَ‭ ‬بالراحة‭ا ‬لكبرى‭ ‬فلم‭ ‬ترها‭...‬تُنال‭ ‬إلا‭ ‬جسر‭ ‬من‭ ‬التعبِ‭...! ‬

 

فأولاها‭ : ‬الذكاء‭ ‬المولّد‭ : ‬لليقظة‭ ‬وسرعة‭ ‬الفهم‭ ‬وبُعد‭ ‬البلادة،‭ ‬بحيث‭ ‬لا‭ ‬يشق‭ ‬المحفوظ،‭ ‬ولا‭ ‬يتعسر‭ ‬المفهوم،‭ ‬أو‭ ‬يستبطئ‭ ‬المدروس،‭ ‬فمن‭ ‬لم‭ ‬يتوفر‭ ‬له‭ ‬حد‭ ‬أدنى‭ ‬من‭ ‬الذكاء‭ ‬والوعي‭ ‬عز‭ ‬عليه‭ ‬العلم،‭ ‬وانكشف‭ ‬له‭ ‬الحال،‭ ‬بأن‭ ‬العلم‭ ‬ليس‭ ‬مجاله،‭ ‬ولا‭ ‬محل‭ ‬وجوده‭ ‬وراحته‭ ...! ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬الذكاء‭ ‬لا‭ ‬يجدي‭ ‬بلا‭ ‬زكاء‭ ‬وتقوى،‭ ‬لأنه‭ ‬قد‭ ‬يورث‭ ‬المهالك،‭ ‬إذ‭ ‬كم‭ ‬من‭ ‬ذكي‭ ‬عمي‭ ‬عن‭ ‬الحق،‭ ‬أو‭ ‬خالطه‭ ‬الهوى،‭ ‬أو‭ ‬كبّه‭ ‬ذكاؤه‭ ‬على‭ ‬وجهه‭ ‬في‭ ‬مهاوي‭ ‬الردى‭...‬‭! ‬وقد‭ ‬قال‭ ‬الأئمة‭ ‬في‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬المعري‭ ‬الشاعر‭ ‬المعروف‭ ‬ونظرائه‭ ‬كان‭ ‬ذكيا‭ ‬ولَم‭ ‬يكن‭ ‬زكيا‭...! ‬والناظم‭ ‬يستصحب‭ ‬في‭ ‬طالب‭ ‬العلم‭ ‬الشرعي‭ ‬حصول‭ ‬التقوى‭ ‬ابتداء،‭ ‬ثم‭ ‬يرشده‭ ‬إلى‭ ‬الأسس‭ ‬المادية،‭ ‬والتي‭ ‬لابد‭ ‬منها‭ .‬

 

ثانيها‭ : ‬حرص‭ ‬بليغ‭: ‬على‭ ‬جمع‭ ‬العلم،‭ ‬وحيازة‭ ‬الكتب،‭ ‬وصون‭ ‬الوقت،‭ ‬والتقاط‭ ‬الفرائد،‭ ‬ولمّ‭ ‬الدرر،‭ ‬اهتماما‭ ‬ورغبةً،‭ ‬بحيث‭ ‬يقال‭ ‬له‭ : ‬فلان‭ ‬حريص‭ ‬،‭ ‬وشخص‭ ‬جاد،‭ ‬وعنصر‭ ‬متوقد،‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬الحافظ‭ ‬ابن‭ ‬عقيل‭ ‬وحمه‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬كلمته‭ ‬المشهورة‭:( ‬إني‭ ‬لا‭ ‬يحل‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أضيع‭ ‬ساعة‭ ‬من‭ ‬عمري،‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬تعطّل‭ ‬لساني‭ ‬عن‭ ‬مذاكرة‭ ‬ومناظرة،‭ ‬وبصري‭ ‬عن‭ ‬مطالعة،‭ ‬أعملتُ‭ ‬فكري‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬راحتي‭ ‬وأنا‭ ‬منطرح،‭ ‬فلا‭ ‬أنهض‭ ‬إلا‭ ‬وقد‭ ‬خطَر‭ ‬لي‭ ‬ما‭ ‬أسطّره‭ )‬

وقال‭ ‬أيضا‭:  ‬أنا‭ ‬أقصّر‭ ‬بغاية‭ ‬جهدي‭ ‬أوقات‭ ‬أكلي،‭ ‬حتى‭ ‬أختار‭ ‬سف‭ ‬الكعك‭ ‬وتحسية‭ ‬بالماء‭ ‬على‭ ‬الخبز،‭ ‬لأجل‭ ‬مابينهما‭ ‬من‭ ‬تفاوت‭ ‬المضغ،‭ ‬توفرا‭ ‬على‭ ‬مطالعة،‭ ‬أو‭ ‬تسطير‭ ‬فائدة‭ ‬لم‭ ‬أدركها‭ ‬فيه‭.... ‬فهنا‭ ‬تلحظ‭ ‬اغتنام‭ ‬الأوقات،‭ ‬وتخفيف‭ ‬الأكل،‭ ‬واختيار‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يضيع‭ ‬وقتا،‭ ‬أو‭ ‬يرهق‭ ‬جسدا‭...!‬

 

ثالثها‭: ‬اجتهاد‭ ‬متين‭: ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬الكلل،‭ ‬ولا‭ ‬يطل‭ ‬عليه‭ ‬الملل،‭ ‬فهو‭ ‬في‭ ‬دأب،‭ ‬وجد‭ ‬وسهر،‭ ‬وسفر،‭.... ‬يؤثر‭ ‬العلم‭ ‬على‭ ‬الراحة،‭ ‬والتعب‭ ‬على‭ ‬الطرب،‭ ‬والبحث‭ ‬على‭ ‬اللغو‭ ‬والمزاح،‭ ‬مستفرغا‭ ‬الوسع،‭ ‬وباذلا‭ ‬بلا‭ ‬تقصير،‭ ‬قال‭ ‬تعالى‭ : ‬ {خذوا‭ ‬ما‭ ‬آتيناكم‭ ‬بقوة}

رابعها‭: ‬بُلغة‭ ‬كافية‭: ‬تسد‭ ‬الحاجة،‭ ‬وتكف‭ ‬السؤال،‭ ‬وتمنع‭ ‬الانشغال،‭ ‬وتجعل‭ ‬طلاب‭ ‬العلم‭ ‬في‭ ‬مأمن‭ ‬من‭ ‬الشحاذة‭ ‬والفقر‭ ‬والاستجداء،‭ ‬وتعين‭ ‬على‭ ‬القُنية‭ ‬العلمية،‭ ‬وقد‭ ‬نص‭ ‬الإمام‭ ‬أحمد‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬أدب‭ ‬المفتي‭: ‬على‭ ‬الاستغناء‭ ‬عن‭ ‬الناس‭ ‬،‭ ‬وقال‭ ‬سفيان‭ ‬الثوري‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬لما‭ ‬شوهدت‭ ‬الدنانير‭ ‬في‭ ‬يده،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬الحلية‭ ‬وغيره‭ ‬،‭ ‬أنه‭ ‬جاءه‭ ‬رجل‭ ‬فقال‭ : ‬يا‭ ‬أبا‭ ‬عبدالله‭ ! ‬تُمسك‭ ‬هذه‭ ‬الدنانير‭... ‬؟‭!‬

فقال‭ :  ‬اسكُت‭ ‬،‭.. ‬لولا‭ ‬هذه‭ ‬الدنانير‭ ‬لتمندل‭ ‬أي‭ : ‬لتمسح‭ ‬بنا‭ ‬هؤلاء‭ ‬الملوك‭ ...! ‬وقد‭ ‬يفتقرون‭ ‬أحيانا‭ ‬بسبب‭ ‬ضغوطات‭ ‬الحياة‭ ‬ومصاعبها‭ ‬،‭ ‬فيصبرون،‭ ‬وعلى‭ ‬ربهم‭ ‬يتوكلون،‭ ‬ويعدون‭ ‬الفقر‭ ‬أسلم‭ ‬وأعون‭ ‬على‭ ‬العلم‭ ‬من‭ ‬الغنى‭ ‬والترف،‭ ‬حتى‭ ‬قال‭ ‬القائل‭ : ‬

•‭ ‬قلت‭ ‬للفقر‭ ‬أين‭ ‬أنت‭ ‬مقيمٌ‭...‬قال‭ ‬في‭ ‬عمائم‭ ‬الفقهاءِ؟‭!... ‬إنّ‭ ‬بيني‭ ‬وبينهم‭ ‬لإخاءً‭ ... ‬وعزيز‭ ‬عليّ‭ ‬قطع‭ ‬الإخاءِ‭ ‬

وقال‭ ‬ابن‭ ‬القيم‭ ‬في‭ ‬اعلام‭ ‬الموقعين‭ (‬4/204‭) : ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬لسفيان‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬مال‭ ‬،‭ ‬وكان‭ ‬لا‭ ‬يتروّى‭ ‬في‭ ‬بذله‭ ‬،‭ ‬ويقول‭ : ‬لولا‭ ‬ذلك‭ ‬لتمندل‭ ‬بنا‭ ‬هؤلاء .

‬فالعالم‭ ‬إذا‭ ‬مُنح‭ ‬غناءً‭ ‬فقد‭ ‬أعين‭ ‬على‭ ‬تنفيذ‭ ‬علمه‭ ‬،‭ ‬وإذا‭ ‬احتاج‭ ‬الناسَ‭ ‬فقد‭ ‬مات‭ ‬علمه‭ ‬وهو‭ ‬ينظر‭ ....! ‬يقصد‭ ‬أنه‭ ‬مضطر‭ ‬للعلم‭ ‬والشغل‭ ‬التجاري‭ ‬الصارف‭ ‬عن‭ ‬التدريس‭ ‬والمراجعة‭ ‬ونفع‭ ‬الخلائق‭ .‬

 

خامسها‭: ‬صحبة‭ ‬أستاذ‭ : ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬شيوخ‭ ‬العلم،‭ ‬وأقطاب‭ ‬الفقه،‭ ‬وصيارفة‭ ‬المعرفة،‭ ‬لأنهم‭ ‬كالأطباء‭ ‬تشخيصا،‭ ‬والدلائل‭ ‬طريقا،‭ ‬والبراهين‭ ‬إقناعاً،‭ ‬والشموس‭ ‬إضاءة،‭ ‬قال‭ ‬موسى‭ ‬في‭ ‬قصته‭ ‬مع‭ ‬الخضر‭ ‬عليهما‭ ‬السلام‭ ‬ { {هل‭ ‬أتّبعك‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تُعلّمنِ‭ ‬مما‭ ‬عُلّمتَ‭ ‬رُشدا} [  ‬سورة‭ ‬الكهف] ‭ . ‬فهم‭ ‬يعينون‭ ‬على‭ ‬الفهم،‭ ‬ويثبّتون‭ ‬على‭ ‬الجادة،‭ ‬ويذللون‭ ‬الصعاب‭. ‬وقال‭ ‬السلف‭ ‬في‭ ‬حكتمهم‭ ‬الرائعة‭:  ‬من‭ ‬دخل‭ ‬العلم‭ ‬وحده،‭ ‬خرج‭ ‬وحده‭ . ‬ومن‭ ‬ثَم‭ ‬حذّروا‭ ‬من‭ ‬اللياذ‭ ‬بالكتب‭ ‬دون‭ ‬شيوخ،‭ ‬ومن‭ ‬حفظها‭ ‬بلا‭ ‬اتعاظ‭ ‬وتفقه،‭ ‬قال‭ ‬الشافعي‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭:  ‬من‭ ‬تفقه‭ ‬من‭ ‬بطون‭ ‬الكتب،‭ ‬ضيّع‭ ‬الأحكام‭ ). ‬واتسعت‭ ‬المقولة‭ ‬الأخرى‭ ( ‬من‭ ‬كان‭ ‬شيخُه‭ ‬كتابَه،‭ ‬كان‭ ‬خطؤه‭ ‬أكثرَ‭ ‬من‭ ‬صوابه‭...!‬

 

سادسها‭: ‬طول‭ ‬زمان‭: ‬ويعنون‭ ‬بها‭ ‬الخبرة‭ ‬والممارسة،‭ ‬والتدريب‭ ‬العلمي‭ ‬على‭ ‬الدرس‭ ‬والإلقاء‭ ‬والحوار،‭ ‬وسرد‭ ‬المطولات،‭ ‬والمناظرات‭ ‬والاستنباطات‭ ‬والتأليفات‭ ‬والكتابة‭ ‬،‭ ‬بحيث‭ ‬يتحقق‭ ‬معها‭ ‬النضج‭ ‬وبلوغ‭ ‬الحكمة،‭ ‬وعدم‭ ‬الحماس‭ ‬والاستعجال‭ ‬،‭ ‬قال‭ ‬تعالى‭: ‬ {وكان‭ ‬الإنسان‭ ‬عجولا} ‭  ‬سورة‭ ‬الإسراء‭ . ‬وقال‭ ‬عليه‭ ‬الصلاة‭ ‬والسلام‭ ‬لأَشجّ‭ ‬عبد‭ ‬القيس‭ :‬ «إن‭ ‬فيك‭ ‬لخصلتين‭ ‬يحبهما‭ ‬الله‭: ‬الحلم‭ ‬والأناة» ‭.‬

والدليل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬اختيارات‭ ‬المرء‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬حياته،‭ ‬تغاير‭ ‬اختياراته‭ ‬بعد‭ ‬سن‭ ‬النضج‭ ‬والدراية،‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الدنيوي،‭ ‬فكيف‭ ‬بالعلم‭ ‬الأخروي‭ ‬المقرب‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ...‬؟‭! ‬واذا‭ ‬انضاف‭ ‬الى‭ ‬ذلك‭ ‬خب‭ ‬ظهور‭ ‬واعجاب‭ ‬قبل‭ ‬التمكن‭ ‬والتحقق‭ ‬كان‭ ‬خيبة‭ ‬على‭ ‬صاحبه،‭ ‬وقَالَ‭ ‬سحنون‭ ‬بْنُ‭ ‬سَعِيدٍ‭ ‬المالكي‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ :  ‬أَجْسَرُ‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬الْفُتْيَا‭ ‬أقلّهم‭ ‬علما‭ ‬،‭ ‬يكون‭ ‬عِنْدَ‭ ‬الرجل‭ ‬الْبَابُ‭ ‬الواحد‭ ‬مِنْ‭ ‬الْعِلْمِ،‭ ‬يظن‭ ‬أَنَّ‭ ‬الحق‭ ‬كله‭ ‬فيه.‬

وكم‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬وطالب،‭ ‬تراجع‭ ‬عن‭ ‬كتب‭ ‬وفتاوى‭ ‬واختيارات‭ ‬ومواقف،‭ ‬بسبب‭ ‬مرحلته‭ ‬العمرية،‭ ‬وتوقيعه‭ ‬المبكر،‭ ‬وحينما‭ ‬بلغ‭ ‬أشده،‭ ‬ونال‭ ‬رشده،‭ ‬وأتم‭ ‬عمقه‭ ‬،‭ ‬ظهرت‭ ‬له‭ ‬تراجعات‭ ‬وأحيانا‭ ‬ندامات‭...!!‬

ومن‭ ‬ذلك‭ ‬أئمة‭ ‬أجلة‭ ‬تأسفوا‭ ‬من‭ ‬استعجالهم،‭ ‬أو‭ ‬عدم‭ ‬تحريرهم‭ ‬بسبب‭ ‬الضيق‭ ‬والانشغال،‭ ‬فكيف‭ ‬بطلاب‭ ‬زماننا‭...‬؟‭!‬

وعلى‭ ‬سبيل‭ ‬التمثيل‭ ‬هنا‭: ‬تعقبات‭ ‬العلامة‭ ‬الذهبي‭ ‬على‭ ‬الحاكم‭ ‬رحمهما‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬تلخيصه‭ ‬للمستدرك،‭ ‬ورواجها‭ ‬بين‭ ‬طلاب‭ ‬العلم،‭ ‬وقد‭ ‬أثنى‭ ‬هو‭ ‬وقسّم‭ ‬الكتاب،‭ ‬ثم‭ ‬قال‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬ترجمة‭ ‬الحاكم‭ ‬في‭ ‬السير‭  ‬وبكل‭ ‬حال‭ ‬فهو‭ ‬كتاب‭ ‬مفيد‭ ‬قد‭ ‬اختصرته‭ ‬،‭ ‬ويعوز‭ ‬عملا‭ ‬وتحريرا‭. ‬

 

والحافظ‭ ‬ابن‭ ‬حجر‭ ‬مع‭ ‬كثرة‭ ‬تصانيفه‭ ‬فقد‭ ‬قال‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬حياته‭ ‬كما‭ ‬نقله‭ ‬تلميذه‭ ‬السخاوي‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ : ( ‬لستُ‭ ‬راضياً‭ ‬عن‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬تصانيفي؛‭ ‬لأني‭ ‬عملتها‭ ‬في‭ (‬ابتداء‭ ‬الأمر‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬لم‭ ‬يتهيأ‭ ‬لي‭ ‬مَنْ‭ ‬يُحرِّرُها‭ ‬معي،‭ ‬سوى‭: ‬‮«‬شرح‭ ‬البخاري‮»‬،‭ ‬و‭ ‬‮«‬مقدمته‮»‬،‭ ‬و‭ ‬‮«‬المشتبه‮»‬،‭ ‬و‭ ‬‮«‬التهذيب‮»‬،‭ ‬و‭ ‬‮«‬لسان‭ ‬الميزان‮»‬،‭ ‬وأما‭ ‬سائر‭ ‬المجموعات‭ ‬فهي‭ ‬كثيرة‭ ‬العَدَد‭ ‬واهية‭ ‬العُدَد،‭ ‬ضعيفةُ‭ ‬القُوى،‭ ‬ظامئة‭ ‬الرُّوى‭ ). ‬فهذان‭ ‬نموذجان‭ ‬تؤكدان‭ ‬أهمية‭ ‬الطول‭ ‬الزماني‭ ‬والخبرة‭ ‬المعرفية‭ ‬للمرء،‭ ‬بحيث‭ ‬يسلم‭ ‬الاعتراض‭ ‬والتذبذب‭ ‬،‭ ‬وكثرة‭ ‬الملام‭ ‬،‭ ‬وقد‭ ‬قيل‭:( ‬من‭ ‬تعجل‭ ‬شيئا‭ ‬قبل‭ ‬أوانه،‭ ‬فقد‭ ‬تصدى‭ ‬لهوانه‭ ).‬‭ ‬وفِي‭ ‬معنى‭ ‬ذلك‭ ‬ومناحيه‭: ‬الفتاوى‭ ‬المستعجلة،‭ ‬والمواقف‭ ‬الحماسية،‭ ‬واندفاعات‭ ‬الشباب‭ ‬الصغار،‭ ‬والنشرات‭ ‬غير‭ ‬المنقحة،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬زعموا‭ ‬ما‭ ‬زعموا،‭ ‬وقد‭ ‬بدا‭ ‬عليها‭ ‬ضعف‭ ‬الاستدلال،‭ ‬أو‭ ‬قلة‭ ‬الخبرة،‭ ‬أو‭ ‬شغل‭ ‬حُطاب‭ ‬الليل‭...! ‬لأن‭ ‬العلم‭ ‬عزيز‭ ‬نفيس،‭ ‬ولا‭ ‬يحسن‭ ‬يؤديه‭ ‬إلا‭ ‬الأعزة‭ ‬الكَملة،‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬تعالى‭ :( ‬فاسألوا‭ ‬أهل‭ ‬الذكر‭ ‬إن‭ ‬كنتم‭ ‬تعلمون‭ )‬سورة‭ ‬النحل‭ ‬والأنبياء‭ .‬

 

وأهل‭ ‬الذكر‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬اكتملوا‭ ‬علما‭ ‬وفهما،‭ ‬وأتقنوا‭ ‬وعيا‭ ‬ودراية‭...! ‬ومن‭ ‬فائدة‭ ‬طول‭ ‬الزمان‭ ‬العلمي‭: (‬تحقيق‭ ‬الملَكة‭) ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تعني‭ ‬الهضم‭ ‬واللم‭ ‬وحسن‭ ‬الدراية‭ ‬والإحاطة‭ ‬بفن‭ ‬من‭ ‬الفنون‭ ‬رسوخا‭ ‬وإبداعاً‭...! ‬

 

فجزى‭ ‬الله‭ ‬الإمام‭ ‬الشافعي‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬حسن‭ ‬التوجيه‭ ‬ورسم‭ ‬المسار،‭ ‬ودلالة‭ ‬الطريق،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬يتعظ‭ ‬ويبادر‭ ‬بلا‭ ‬تردد‭ ‬أو‭ ‬اضطراب‭ ...‬؟‭! ‬والله‭ ‬ولي‭ ‬التوفيق‭....‬

حمزة بن فايع الفتحي

رئيس قسم الشريعة بجامعة الملك خالد فرع تهامة، وخطيب جامع الفهد بمحايل عسير