السيادة .. قمة دونها الصعاب
عن عبد الملك بْن عمر، قال: وفد أسماء بْن خارجة إِلى عبد الملك بن مروان، فلما دخل عليه، قال له: بأي شيء سدت الناس؟ قال: هُوَ من غيري أحسن مِنْهُ مني. قَالَ: عزمت عليك لتخبرني، قال: ما تقدمت جليسا لي بركبة لي قط، ولا سألني أحد قط إلا رأيت لَهُ الفضل علي لمساءلته إياي، ولا دعوت أحدا قط إِلَى طعام إلا رأيت لَهُ بذلك الفضل علي .
{بسم الله الرحمن الرحيم }
«السيادة» صفة تدل في مجملها على المقدم على غيره جاهاً أو مكانة أو منزلة أو غلبة أو قوة أو رأياً أو أمراً، والسيادة في حياة المسلم رسالة مضمونها العبودية لله تعالى والسيادة على كل شيء سواه، حياة عزيزة بإيمانها تأبى الدونية وتتعالى على النقائص، حياة ملؤها العزة والكرامة والإيباء ونكران الضيم والمذلة والهوان. والسيادة ليست دعوى تُقال ولا صفة تُمنح، بل هي مكرمة مزيجها البذل والعطاء واستعذاب المشاق في سبيل علو النفس ورفعتها.
السيد الله تبارك وتعالى
عن مطرف قال: قال أبي: «انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا، فقال: (السيد الله تبارك وتعالى)» [رواه أبو داود]
أي: السؤدد على الحقيقة إنما هو لله عز وجل؛ لأنه المتصف بذلك على الإطلاق، فهو الذي الخلق خلقه، والملك ملكه، وهو المتفضل بكل النعم، وهو الذي يتصرف في الخلق كيف يشاء، وهو صاحب السؤدد على الحقيقة، وغيره ممن حصل سؤدداً إنما هو سؤدد ناقص وغير كامل؛ ولهذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عن نفسه بأنه سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام، وهو سيدهم في الدنيا والآخرة صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ولكن السؤدد الذي يليق بالإنسان للرسول صلى الله عليه وسلم منه الحظ الأكبر والنصيب الأوفر، وأما السؤدد الكامل على الحقيقة فهو لله عز وجل؛ ولهذا قال: (السيد الله) أي: الله هو المتصف بهذا على الحقيقة، وهذا لا يعني ألا يقال لغيره عز وجل: سيد؛ لأن النبي نفسه قال: (أنا سيد ولد آدم)، فأخبر عن نفسه بأنه سيد، وقال عن سعد بن معاذ سيد الأوس: (قوموا إلى سيدكم)، وجاءت نصوص تدل على إطلاق ذلك على المخلوق، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لحمايته جناب التوحيد، ولحرصه على ألا يحصل غلو يؤدي إلى محذور أرشد عليه الصلاة والسلام وبين أن السيد هو الله، وأن السؤدد الحقيقي إنما هو لله سبحانه وتعالى. [شرح سنن أبي داود للعباد]
روي أنه قرأ قارئ { {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} } وفي الحاضرين أبو الوفاء بن عقيل، فقال له قائل: يا سيدي، هب أنه أنشر الموتى للبعث والحساب وزوج النفوس بقرنائها بالثواب والعقاب، فلم هدم الأبنية وسير الجبال ودك الأرض وفطر السماء ونثر النجوم وكور الشمس؟
فقال: إنما بني لهم الدار للسكني والتمتع وجعلها وجعل ما فيها للاعتبار والتفكر والاستدلال عليه بحسن التأمل والتذكر، فلما انقضت مدة السكنى وأجلاهم من الدار خربها لانتقال الساكن منها.
فأراد أن يعلمهم بأن الكونين كانت معمورة بهم، وفي إحالة الأحوال وإظهار تلك الأهوال، وبيان المقدرة بعد بيان العزة، وتكذيب لأهل الإلحاد وزنادقة المنجمين وعباد الكواكب والشمس والقمر والأوثان، فيعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين، فإذا رأوا آلهتهم قد انهدمت، وأن معبوداتهم قد انتثرت وانفطرت، ومحالها قد تشققت ظهرت فضائحهم وتبين كذبهم، وظهر أن العالم مربوب محدث مدبر له رب يصرفه كيف يشاء، تكذيبا لملاحدة الفلاسفة القائلين بالقدم فكم لله تعالى من حكمة في هدم هذه الدار ودلالة على عظم عزته وقدرته وسلطانه وانفراده بالربوبية وانقياد المخلوقات بأسرها لقهره وإذ عانها لمشيئته فتبارك الله رب العالمين. [بدائع الفوائد لابن القيم]
السيادة رسالة
يقول بن القيم في كتاب الفوائد: "إن الإنسان هو الغاية التي خلق الله سبحانه لأجلها ما سواه من السماوات والأرض والقمر والنجوم والبر والبحر، وأن الله سبحانه وتعالى جمع ما فرقه في العالم في آدم، فهو العالم الصغير، وفيه ما في العالم الكبير، وأن الإنسان هو خلاصة الوجود وثمرته".
ويقول الإمام محمد عبده عن منظومة حياة المسلم: «عبد لله وحده، وسيد لكل شيء بعده» .. فيعيش المسلم في دوحة الإيمان حياة الأسياد التي تأبى التذلل للخلق مهما علت مناصبهم وتضخمت ثرواتهم .. يعيش المؤمن سيدا متسما بما يتسم به الأسياد من غزارة في المعرفة وسعة في الثقافة ووفرة في الخبرة .. سيدا برجولته وحلمه وشجاعته وكرمه وحيائه وعفافه وطهره .. سيدا يتصرف كما يتصرف الأسياد في إيثارهم وبذلهم.
ولا يتصور أحد أن حياة الأسياد تلك حياة سهلة ميسورة، ففي السيادة مشقة وتعب وعناء، كما قال الماوردي: "إلا من تسهلت عليه المشاق رغبة في الحمد، وهانت عليه الملاذ حذرا من الذم، ولذلك قيل: سيد القوم أشقاهم"
وعن مشقة السيادة قال المتنبي
لولا المشقة ساد الناس كلهم .. الجود يفقر والإقدام قتال
وهذه السيادة تبدأ مع أول يوم في حياة المسلم .. تبدأ مع الولادة والرضاعة .. فمنذ لحظة الولادة التي يكون فيها الآذان أول ما يطرق سمعه. ومروراً بالعقيقة التي يسمي فيها الطفل ويصير له نصيب من اسمه، ويقص فيها من شعره ليوزن ذهب يتصدق به، فتحدد علاقته بالذهب من خلال الشعر المتساقط منه، ليبقي المسلم طول عمره بعد ذلك مالكاً للمادة وسيداً عليها لا يعلوه أي قيمة مادية مهما بلغت.
سادة الناس
- عن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب جاء الحسن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « (ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين) » [البخاري:7109] قال الحافظ في الفتح: وفيه منقبة للحسن بن علي فإنه ترك الملك لا لقلة لا لذلة ولا لعلة، بل لرغبته فيما عند الله لما رآه من حقن دماء المسلمين، فراعى أمر الدين، ومصلحة الأمة.
- يروى أن أبا سفيان سأله الناس: بم سدت الناس؟ قال: "ما خالفت أحداً إلا أبقيت بين وبينه شعرة لعلي أرجع إليه".
- عن عبد الملك بْن عمر، قال: وفد أسماء بْن خارجة إِلى عبد الملك بن مروان، فلما دخل عليه، قال له: بأي شيء سدت الناس؟ قال: هُوَ من غيري أحسن مِنْهُ مني. قَالَ: عزمت عليك لتخبرني، قال: ما تقدمت جليسا لي بركبة لي قط، ولا سألني أحد قط إلا رأيت لَهُ الفضل علي لمساءلته إياي، ولا دعوت أحدا قط إِلَى طعام إلا رأيت لَهُ بذلك الفضل علي .
- قيل لقيس بن عاصم: بم سدت قومك؟ قال: ببذل القرى، وترك المرا، ونصرة المولى.
- من كلام سهل بن هارون: من لم يركب الأهوال لم ينل الرغائب، ومن ترك الأمر الذي لعله أن يبلغ به حاجته مخافة ما لعله أن يوقاه فليس ينال جسيماً.
- قال سعيد بن العاص: ما شاتمت رجلاً مذ كنت رجلاً لأني لا أشاتم إلا أحد رجلين: إما كريم فأنا أحق من احتمله، وإما لئيم فأنا أولى من رفع نفسه عنه.
- قال الكلبي: قال لي خالد بن عبد الله بن يزيد: ما تعدون السؤدد؟ فقلت: أما في الجاهلية فالرياسة، وأما في الإسلام فالولاية، وخير من ذا وذاك التقوى، فقال لي: صدقت، كان أبي يقول: لم يدرك الأول الشرف إلا بالفعل، ولا يدركه الآخر إلا بما أدرك به الأول. قلت: صدق أبوك، ساد الأحنف بحلمه، وساد مالك بن مسمع بمحبة العشيرة له، وساد قتيبة بدهائه، وساد المهلب بهذه الخلال. فقال لي: صدقت، كان أبي يقول: خير الناس للناس خيرهم لنفسه، وذاك أنه إذا كان كذلك أبقى على نفسه من السرق لئلا يقطع، ومن القتل لئلا يقاد، ومن الزنا لئلا يحد، فسلم الناس منه لإبقائه على نفسه.
- قال عدي بن حاتم: السيد الأحمق في ماله، الذليل في عرضه، المطرح لحقده، المعني بأمر جماعته، وأحسن القول ما قارنه الفعل.
- قال رجل للأحنف: لم سودك قومك وما أنت بأشرفهم بيتاً، ولا أصبحهم وجهاً، ولا أحسنهم خلقاً؟ قال: بخلاف ما فيك يا بني، قال: وما ذاك؟ قال: بتركي من أمرك ما لا يعنيني، كما عناك من أمري ما لا يعنيك.
- قال عمرو بن العاص لدهقان نهر تيري: بم ينبل الرجل عندكم؟ قال: بترك الكذب فإنه لا يشرف من لا يوثق بقوله، وبقيامه بأمر أهله فإنه لا ينبل من يحتاج أهله إلى غيره، وبمجانبة الريب فإنه لا يعز من لا يؤمن أن يصادف على سوءة، وبالقيام بحاجات الناس فإنه من رجي الفرج عنده كثرت غاشيته.
خالد سعد النجار
كاتب وباحث مصري متميز
- التصنيف: