فوائد من كتاب الروح لابن القيم (1-4)
وليس للعبد أنفعُ من هذه التوبة ولا سيما إذا عقب ذلك بذكر الله, واستعمال السنن التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند النوم, حتى يغلبه النوم, فمن أراد الله به خيراً وفقه لذلك, ولا قوة إلا بالله.
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين..أما بعد : فمن أشهر كتب العلامة ابن القيم رحمه الله كتابه الموسوم بـ " الروح " وقد ضمّ الكتاب بين جوانبه فوائد متنوعة في فنون متعددة, لعل من أهمها ما كتبه عن الفروق بين الخصال المحمودة والمذمومة, وقد أثنى العلامة ابن القيم على ما كتبه حولها بقوله: " ولا تستطل هذا الفصل, فلعله أنفع فصول الكتاب, والحاجةُ إليه شديدة.
وقد يسّر الله الكريم لي فقمتُ بانتقاء فوائد من هذا الفصل, ومن غيره من الفصول التي كتبها العلامة ابن القيم في كتابه, أسأل الله أن ينفع بها, ويبارك فيها.
عذاب القبر ونعيمه:
لتعلم أن مذهب سلف الأمة وأئمتها: أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب, وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه, وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن مُنعَّمة أو مُعذبة, وأنها تتصل بالبدن أحياناً فيحصل له معها النعيم أو العذاب, ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أُعيدت الأرواح إلى الأجساد, وقاموا من قبورهم لرب العالمين.
الأسباب المنجية من عذاب القبر:
من أنفعها: أن يجلس الإنسان عندما يريد النوم لله ساعةً, يحاسب نفسه فيها على ما خسره وربحه في يومه, ثم يجدد له توبة نصوحاً بينه وبين الله, فينام على تلك التوبة, ويعزم على أن لا يعاود الذنب إذا استيقظ, ويفعل هذا كل ليلة, فإن مات من ليلته مات على توبة, وإن استيقظ استيقظ مستقبلاً للعمل, مسروراً بتأخير أجله حتى يستقيل ربه, ويستدرك ما فاته.
وليس للعبد أنفعُ من هذه التوبة ولا سيما إذا عقب ذلك بذكر الله, واستعمال السنن التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند النوم, حتى يغلبه النوم, فمن أراد الله به خيراً وفقه لذلك, ولا قوة إلا بالله.
أصحاب القبور:
أكثر أصحاب القبور معذبين, والفائز منهم قليل, فظواهر القبور تراب, وبواطنها حسرات وعذاب, ظواهرها بالتراب والحجارة المنقوشة مبينات, وفي باطنها الدواهي والبِليَّات تغلي بالحسرات, كما تغلي القدور بما فيها, ويحقّ لها, وقد حيل بينها وبين شهواتها وأمانيها.
تالله لقد وعظت, فما تركت لواعظ مقالاً, ونادت: يا عمار الدنيا لقد أعمرتم داراً موشكة بكم زوالاً, وخربتم داراً أنتم مسرعون إليها انتقالاً, عمرتم بيوتاً لغيركم منافعها وسكناها, خربتم بيوتاً ليس لكم مساكن سواها.
عذاب القبر دائم ومنقطع:
عذاب القبر...نوعان:
نوع دائم, سوى ما ورد في بعض الحديث أنه يخفف عنهم ما بين النفختين, فإذا قاموا من قبورهم قالوا: {ياويلنا من بعثنا من مرقدنا } [يس:52]
ويدل على دوامه قوله تعالى: {النارُ يعرضون عليها غدواً وعشياً } [غافر:46]
ويدلُّ عليه ما تقدم في حديث سمرة الذي رواه البخاري في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: ( فهو يفعل به بذلك إلى يوم القيامة )
النوع الثاني: إلى مدةٍ, ثم ينقطع, وهو عذاب بعض العصاة الذين خفت جرائمهم, فيعذب بحسب جُرمه, ثم يخفَّفُ عنه, كما يعذب في النار مدة, ثم يزول عنه العذاب
وقد ينقطع عنه العذاب بدعاء أو صدقة أو استغفار, أو ثواب حج....
النفس الأمارة:
النفس الأمارة فهي المذمومة, فإنها تأمر بكل سوء. وهذا من طبيعتها إلا من وفقها الله, وثبتها, وأعانها. فما تخلص أحد من شر نفسه إلا بتوفيق الله له, كما قال تعالى حاكياً عن امرأة العزيز: {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا من رحم ربي إن ربي غفور رحيم } [يوسف:53] وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم خطبة الحاجة: «إن الحمد لله, نحمده, ونستعينه, ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهد الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له» فالشر كامن في النفس, وهو موجب سيئات الأعمال, فإن خلى الله بين العبد وبين نفسه هلك بين شرها وما تقتضيه من سيئات الأعمال, وإن وفقه وأعانه نجاه من ذلك كله. فنسأل الله العظيم أن يعذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
النفس اللوامة:
اللوامة, هي التي أقسم بها سبحانه في قوله: {ولا أقسم بالنفسِ اللوامة } [القيامة:2] فاختلف فيها, فقالت طائفة: هي التي لا تثبتُ على حال واحدة. أخذوا اللفظة من التلوم, وهو التردد, فهي كثيرة التقلب والتلون, وهي من أعظم آيات الله, فإنها مخلوق من مخلوقاته تتقلب وتتلون في الساعة الواحدة – فضلاً عن اليوم والشهر والعام والعمر – ألواناً متلونةً, فتذكُر وتغفل, وتقبل وتُعرض, وتلطف وتكثف, وتنيب وتجفو, وتحب وتبغض, وتفرح وتحزن, وترضى وتغضب, وتطيع وتعصي, وتتقي وتفجر, إلى أضعاف ذلك من حالاتها وتلونها.فهذا قول.
وقالت طائفة: اللفظة مأخوذة من اللوم...فإن كل أحد يلوم نفسه, براً كان أو فاجراً, فالسعيد يلومها على ارتكاب معصية الله وترك طاعته, والشقي لا يلومها إلا على فوات حظها وهواها...وقالت فرقة أخرى: هذا اللومُ يوم القيامة, فإن كل أحد يلوم نفسه: إن كان مسيئاً على إساءته, وإن كان محسناً على تقصيره.
وهذه الأقوال كلها حق, ولا تنافي بينها, فإن النفس موصوفة بهذا كلِّه, وباعتباره سميت لوامة, ولكن اللوامة نوعان:
لوَّامة ملُومة: وهي النفس الجاهلة الظالمة التي يلومها الله وملائكته.
ولوَّامة غيرُ ملومة: وهي التي لا تزال تلومُ صاحبها على تقصيره في طاعة الله مع بذله جهده, فهذه غير ملومة.
وأشرف النفوس من لامت نفسها في طاعة الله, واحتملت ملائم اللائمين في مرضاته فلا تأخذها فيه لومة لائم فهذه قد تخلصت من لوم الله لها, وأما من رضيت بأعمالها..ولم تحتمل في الله ملام اللُّوام, فهي التي يلومها الله عز وجل.
النفس المطمئنة:
النفس المطمئنة هي أقلُّ النفوس البشرية عدداً, وأعظمها عند الله قدراً, وهي التي يقال لها : {ارجعي إلى ربك راضيةً مرضيةً * فادخلي عبادي * وادخلي جنتي } [الفجر:28-30]
والله سبحانه المسؤول المرجو الإجابة, أن يجعلنا نفوسنا مطمئنةً إليه, عاكفةً بهمتها عليه, راهبةً منه, راغبةً فيما لديه, وأن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, وأن لا يجعلنا ممن أغفل قلبه عن ذكره, واتبع هواه, وكان أمره فرطاً.
فرح القلب وابتهاجه:
ابتهاج القلب وسروره وفرحه بالله وأسمائه وصفاته وكلامه ورسوله ولقائه أفضلُ ما يعطاه, بل هو أجل عطاياه, والفرح في الآخرة بالله ولقائه بحسب الفرح به ومحبته في الدنيا. فالفرح بالوصول إلى المحبوب يكون على حسب قوة المحبة وضعفها, فهذا شأن فرح القلب.
وله فرح آخر, وهو فرحه بما منَّ الله به عليه من معاملته والإخلاص له والتوكل عليه والثقة به وخوفه ورجائه. وكلما تمكن في ذلك قوي فرحُه وابتهاجه.
- التصنيف: