فوائد من كتاب الروح لابن القيم (2-4)

منذ 2019-11-17

فوائد من كتاب الروح لابن القيم

 

القلب الرقيق:

رقَّة القلب...ناشئة من صفة الرحمة التي هي كمال, والله إنما يرحم من عباده الرحماء, وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرقَّ الناس قلباً,...فرقة القلب رحمة ورأفة.

والقلب...إذا أشرق فيه نور الإيمان واليقين بالوعد, وامتلأ من محبة الله وإجلاله رقَّ وصارت فيه الرأفةُ والرحمة, فتراه رقيقاً رحيماً رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم, يرحم النملة في جُحرها, والطير في وكرها, فضلاً عن بني جنسه, فهذا أقرب القلوب من الله تعالى.

قال أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالعيال.

والله سبحانه إذا أراد أن يرحم عبداً أسكن في قلبه الرأفة والرحمة, وإذا أراد أن يعذبه نزع من قلبه الرحمة والرأفة, وأبدله بهما الغلظة والقسوة.

القلب المطمئن:

قال تعالى: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله إلا بذكر الله تطمئن القلوب }  [الرعد:28] فإن طمأنينة القلب سكونه واستقراره بزوال القلق والانزعاج والاضطراب عنه, وهذا لا يتأتي بشيء سوى ذكر الله البتة, وأما ما عداه فالطمأنينة إليه وبه غرور, والثقة به عجز.

قضى الله سبحانه وتعالى قضاءً لا مرد له: أن من اطمأن إلى شيء سواه أتاه القلق والانزعاج والاضطراب من جهته, كائناً من كان, بل لو اطمأن العبد إلى علمه وحاله وعمله سُلِبه وزايَلَه.

وقد جعل الله سبحانه نفوس المطمئنين إلى سواه أغراضاً لسهام البلاء, ليعلم عباده وأولياءه أن المتعلق بغيره مقطوع, والمطمئن إلى سواه عن مصالحه ومقاصده مصدود وممنوع.

وهاهنا سر لطيف يجب التنبيه عليه والتنبيه له, والتوفيق له بيد من أزِمَّة التوفيق بيديه, وهو أن الله سبحانه جعل لكل عضو من أعضاء الإنسان كمالاً إن لم يحصل له وإلا فهو في قلق واضطراب وانزعاج بسبب فقد كماله الذي جُعل له مثاله...جَعَلَ كمال القلب ونعيمه وسروره ولذته وابتهاجه في معرفته سبحانه, وإرادته, ومحبته, والإنابة, والإقبال عليه, والشوق إليه, والأنس به, فإذا عدم القلبُ ذلك كان أشد عذاباً واضطراباً من العين التي فقدت النور الباصر, ومن اللسان الذي فقد قوة الكلام والذوق, ولا سبيل له إلى الطمأنينة بوجه من الوجوه, ولو نال من الدنيا وأسبابها ومن العلوم ما نال, إلا بأن يكون الله وحده هو محبوبه وإلهه ومعبوده وغاية مطلوبة, ويكون هو وحده مستعانه على تحصيل ذلك.

اليقظة أولُ مفاتيح الخير:

اليقظة أولُ مفاتيح الخير, فإن الغافل عن الاستعداد للقاء ربه والتزود لمعاده بمنزلة النائم, بل أسوأُ حالاً منه فإن الغافل يعلم وعد الله ووعيده وما تتقاضاه أوامر الرب تعالى ونواهيه وأحكامه من الحقوق, ولكن يحجبه عن حقيقة الإدراك ويُقعده...سنةُ القلب وهي غفلته التي رقد فيها فطال رقوده وركد وأخلد إلى نوازع الشهوات. فاشتدَّ إخلاده وركوده وانغمس في غمار الشهوات واستولت عليه العادات ومخالطة أهل البطالات...فهو في رقاده مع النائمين, وفي سكرته مع المخمورين. فمتى انكشفت عن قلبه سنة هذه الغفلة بزجرةٍ من زواجر الحق في قلبه, استجاب فيها لواعظ الله في قلب عبده المؤمن, أو هِمَّة عليَّةٍ أثارها معمول الفكر في المحل القابل, فضرب بمعمول فكره, وكبَّر تكبيرة أضاءت له منها قصورُ الجنة.

فأنارت له تلك الفكرة نوراً رأى في ضوئه ما خُلِق له وما سيلقاه بين يديه من حين الموت إلى دخول دار القرار ورأى سرعة انقضاء الدنيا, وعدم وفائها لبنيها, وقتلها لعُشَّاقها وفعلها بهم أنواع المثلات فنهض في ذلك الضوء على ساق عزمه قائلاً   {يا حسرتى على ما فرطتُ في جنبِ الله}[الزمر:56] فاستقبل بقية عمره التي لا قيمة لها مستدركاً ما فات, محيياً ما أمات, مستقيلاً بها ما تقدم له من العثرات, منتهزاً فرصةَ الإمكان التي إن فاتت فته جميع الخيرات.ثم يلحظ في نور تلك اليقظة نعمة ربه عليه من حين استقر في الرحم إلى وقته وهو يتقلب فيها ظاهراً وباطناً ليلاً ونهاراً يقظةً ومناماً سراً وعلانيةً فلو اجتهد على إحصاء أنواعها لما قدر ويكفى أن أدناها نعمة النفس ولله عليه في كل يوم أربعة وعشرون ألف نعمة فما ظنُّك بغيرها

ثم يرى في ضوء ذلك النور أنه آيس من حصرها وإحصائها, عاجز عن أداء حقِّها, وأن المنعم بها إن طالبه بحقوقها استوعب جميع أعماله حقَُّ نعمةٍ واحدة منها, فيتيقن حينئذ أنه لا مطمع له في النجاة إلا بعفو الله ورحمته وفضله.

ثم يرى في ضوء تلك اليقظة أنه لو عمل أعمال الثقلين من البرِّ لاحتقرها إلى جنب عظمة الرب تعالى وما يستحقه بجلال وجهه وعظيم سلطانه. هذا لو كانت أعمالُه منه, فكيف وهي مجرد فضل الله ومنته وإحسانه, حيث يسرها له, وأعانه عليها.

ثم تبرقُ له في نور تلك اليقظة بارقة أخرى, يرى في ضوئها عيوب نفسه وآفات عمله, وما تقدم له من الجنايات والإساءات وهتك الحرمات, والتقاعد عن كثير من الحقوق والواجبات.فإذا انضم ذلك إلى شهود نعم الله عليه وأياديه لديه رأى أن حقَّ المنعم عليه في نعمه وأوامره لم يُبقِ له حسنة واحدةً يرفع بها رأسه. فتطامن قلبه, وانكسرت نفسه, وخشعت جوارحه, وسار إلى الله ناكس الرأس بين مشاهدة نعمه, ومطالعة جناياته وعيوب نفسه وآفات عمله.

ثم تبرق له بارقة أخرى, يرى في ضوئها عزة وقته, وخطره وشرفه, وأنه رأس مال سعادته, فيبخل به أن يضيعه فيما لا يقربه إلى ربه, فإن في إضاعته الخسران والحسرة والندامة, وفي حفظه وعمارته الربح والسعادة, فيشحُّ بأنفاسه أن يضيعها فيما لا ينفعه يوم معاده.

ثم يلحظ في ضوء تلك البارقة ما تقتضيه يقظته من سنةِ غفلته: من التوبة والمحاسبة والمراقبة, والغيرة لربه أن يؤثر عليه غيره, وعلى حظه من رضاه وقربه وكرامته أن يبيعه بثمن بخس في دار سريعة الزوال, وعلى نفسه أن يُملك رقَّها لمعشوق لو فكر في منتهى حسنه ورأى أخره بعين بصيرته لأنِفَ لها من محبته.

فرح التائب بتوبته فرحة عجيبة, لا نسبة لفرحة المعصية إليها البتة:

الفرحة التي تحصل..بالتوبة,..فرحة عجيبة لا نسبة لفرحة المعصية إليها البتة. فلو علم العاصي أن لذة التوبة وفرحتها تزيد على لذة المعصية وفرحتها أضعافاً مضاعفة لبادر إليها أعظم من مبادرته إلى لذة المعصية.

وهاهنا فرحة أعظم من هذا كله, وهي فرحته عند مفارقته الدنيا إلى الله, إذا أرسل إليه الملائكة فبشروه بلقائه, وقال له ملك الموت: اخرجي أيتها الروح الطيبة كانت في الجسد الطيب, أبشري بروح وريحان وربٍّ غير غضبان, اخرجي راضية مرضية عنك: {يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضيةً * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي}[الفجر:27-30]ولكن هاهنا أمر يجب التنبيه عليه, وهو أنه لا يصل إلى ذلك إلا بعد ترحاتٍ ومضض ومِحَن لا تثبتُ لها الجبال, فإن صبر لها ظفر بلذة الفرح, وإن ضعُف عن حملها ولم يصبر لها لم يظفر بشيء.

فلو لم يكن بين يدي التائب إلا هذه الفرحة وحدها لكان العقل يأمره بإيثارها, فكيف ومن بعدها أنواع من الفرح, منها صلاة الملائكة الذين بين السماء والأرض على روحه, ومنها: فتح أبواب السماء له, ومنها: وصلاة ملائكة السماء عليها, وتشيع مقربيها لها إلى السماء الثانية فتفتح لها, ويصلي عليها أهلها, ويشيٍّعُها مقرَّبوها هكذا إلى السماء السابعة, فكيف يقدر فرحها وقد استؤذن لها على ربها ووليها وحبيبها, فوقفت بين يديه وأذن لها بالسجود فسجدت ثم سمعته سبحانه وتعالى يقول اكتبوا كتابه في علِّين , ثم يُذهب به, فيرى الجنة ومقعده فيها وما أعده الله له ويلقى أصحابه وأهله فيستبشرون به ويفرحون به ويفرح بهم فرح الغائب يقدم على أهله, فيجدهم على أحسن حال, ويقدم عليهم بخير ما قدم به مسافر.

هذا كله قبل الفرح الأكبر يوم حشر الأجساد, بجلوسه في ظل العرش, وشُربه من الحوض, وأخذه كتابه بيمينه, وثقل ميزانه, وبياض وجهه, وإعطائه النور التام, والناس في الظلمة, وقطعه جسر جهنم بلا تعويق, وانتهائه إلى باب الجنة, وقد أُزلفت له في الموقف, وتلقى خزنتها له بالترحيب والسلام والبشارة, وقدومه على منازله وقصوره وأزواجه وسراريه.

وبعد ذلك  فرح آخر لا يُقدَّر ولا يُعبَّر عنه, تتلاشي هذه الأفراح كلُّها عند, وإنما يكون لأهل السنة المصدقين برؤية وجه ربهم تبارك وتعالى من فوقهم, وسلامه عليهم, وتكليمه إياهم ومحاضرته لهم.