ضرورة الصدق وإخلاص النية في أعمال الدين والدنيا
"القلب ملك والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث خبثت جنوده"
في كلام ابن تيمية عن أهمية الأمور الباطنة من العلوم والأعمال عرض لعدة مسائل ترتبط بضرورة الصدق والإخلاص وعقد النية، وكلها تتصل بالحديث: "القلب ملك والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث خبثت جنوده" ومن هذا الحديث يتطرق إلى علاقة البواعث بالسلوك، فإذا بحثنا في النتائج التي وصل إليها شيخ الإسلام، فإننا نراه يقرر أن أصل الدين في الحقيقة هو الأمور الباطنة من العلوم والأعمال وأن الأعمال الظاهرة لا تنفع بدونها) [1].
ومفهوم الدين عنده يتسع فيشمل العقائد والعبادات وقواعد السلوك حيث وقع اختياره على الآية الجامعة التي تتناول كل هذا في قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون} [البقرة: 177].
وبنظرة شاملة جامعة بين العمل الفردي والتكافل الاجتماعي بالتعاون على البر والتقوى، يقول شيخ الإسلام: (والسعي سعيان: سعي فيما نصب للرزق: كالصناعة والزراعة والتجارة، وسعي بالدعاء والتوكل والإحسان إلى الخلق ونحو ذلك، فإن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) [2].
ويذكر ابن تيمية أن الآية الآنفة الذكر في وصف الصادقين في دعوى البر (الذي هو جماع الدين) [3] وعلى العكس وردت آيات تصف المنافقين في مثل قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10].
فوصفهم بالكذب في هذه الآية وغيرها، فالصادق هو الذي يصدق في قصده ونيته وطلبه وإرادته وعمله وخبره وكلامه، والمنافق على الضد يكذب، ويصبح مرائيًا في عمله، لا يصدر عنه نية صادقة، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} [النساء: 142].
والإخلاص في العقيدة والعمل هو حقيقة الإيمان (إذ الإسلام هو الاستسلام لله لا لغيره) [4] ويندرج تحته الأعمال الباطنة كمحبة الله، والإخلاص له، والتوكل عليه، والرضا عنه، ونحو ذلك، وهي كلها (خير محض، وهي حسنة محبوبة في حق كل النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) [5] ثم يقرر ابن تيمية بعد هذا أن النية للعمل كالروح للجسد[6].
ويقع اختيار ابن تيمية على حديث قدسي يستشهد به في مجال العمل وبواعثه في صلة العبد بربه عز وجل، وصلته بالناس أيضًا فقد روى الطبراني في كتاب الدعاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله: يا ابن آدم إنما هي أربع، واحدة لي وواحدة لك وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي، فأما التي لي فتعبدني لا تضرك بي شيئًا، وأما التي هي لك فعملك أجازيك به أحوج ما تكون إليه، وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعلي الإجابة، وأما التي بينك وبين خلقي فأت للناس ما تحب أن يأتوا إليك»، ويشرح ابن تيمية هذا الحديث فيوضح أن العبد يحب ويريد ابتداء ما يراه ملائمًا له، والله تعالى يحب ويرضى الغاية المقصودة في رضاه، والوسيلة المتبعة في ذلك[7]، ونحن نفهم من الحديث أيضًا القاعدة التي تحدد علاقة الناس بعضهم ببعض في الأعمال.
وإذا كان لا بد من النية في القلب، فإن القلب يحتاج إلى أن يربي وينمو عن طريقة تزكيته، ووسيلته القرآن الذي يزيل الأمراض الموجبة للإرادات الفاسدة، حتى يصلح القلب فتصلح إرادته ويعود إلى فطرته التي فطر عليها، كما يعود البدن إلى الحال الطبيعي، ويتغذى القلب من الإيمان والقرآن بما يزكيه ويؤيده، كما يتغذى البدن بما ينميه ويقومه، فإن زكاة القلب مثل نماء البدن[8].
والأعمال تابعة للاعتقادات، فإن صلحت صلحت، وإن فسدت فسدت أيضًا، ولذا فإن الله يحاسب العبد على النية حتى لو لم يقدم على العمل، فإن من كان عازمًا على الفعل عزمًا جازمًا، وفعل ما يقدر عليه منه، كان بمنزلة الفاعل (كما جاء في السنن فيمن تطهر في بيته ثم ذهب إلى المسجد ليدرك الجماعة فوجدها قد فاتت، أنه يكتب له أجر صلاة الجماعة[9]، وكذلك من هم بسيئة ولم يفعلها كتب له حسنة كاملة، وهذا هو تفسيره لقوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24].
والبرهان المذكور في الآية هو برهان الإيمان الذي حصل في قلبه فصرف الله به ما كان هم به، وكتب له حسنة كاملة، ولم يكتب عليه خطيئة إذا فعل خيرًا ولم يفعل سيئة[10].
مما تقدم يتضح أن ابن تيمية يقرر أنه لابد للعمل من ركنين: النية والحركة مستندًا إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (أصدق الأسماء حارث وهمام) . ويقول: (فكل أحد حارث وهمام له عمل ونية. لكن النية المحمودة التي يتقبلها الله ويثيب عليها أن يراد وجه الله بذلك العمل، والعمل المحمود هو الصالح وهو الأمور به) [11].
[1] التحفة العراقية في الأعمال القلبية ص 43.
[2] الفتاوى ج 8 ص 541ط. الرياض سنة 1398هـ.
[3] المصدر نفسه ص 42.
[4] المصدر نفسه ص 43.
[5] المصدر نفسه ص 44.
[6] السياسة الشرعية ص 71 وانظر أيضًا ص 116.
[7] التحفة العراقية ص 46.
[8] أمراض القلوب وشفاؤها ص 6.
[9] فتاوى ابن تيمية ج 1 ص 101.
[10] أمراض القلوب وشفاؤها ص 9.
[11] الحسبة ص 76.
مصطفى حلمي
أستاذ العقيدة و الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة.
- التصنيف: