التعالُم والتباغض

منذ 2021-09-13

قال ابن القيم : إذا كان الله ورسوله في جانب فاحذر أن تكون في الجانب الآخر

 

في ظل تعدد مصادر الأخبار وتنوع التحليلات، وفي ظل تقدم أساليب التأثير والتوجيه، وما أنتجته هذه الظروف من انقسام بين كثير من الناس بسبب تباين مواقفهم من الأحداث والأشخاص، وتحزب كل فئة  لآرائها {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} ، وما جرَّ ذلك -في كثير من الأحوال- إلى التباغض والفرقة بين الأخ وأخيه، والأب وابنه، والصديق وصديقه، تظهر حاجة كل واحد منا – إن كان طالباً للحق محباً له – أن يسأل ربَه أن يدله على الصواب ويأخذ به ويوالي أهله، وأن يُبصّره بالباطل ويصرفه عنه وعن موالاة أهله، فإن الله إذا عَلِم صِدق العبد هداه – لا محالة – للحق ولما فيه الخير له.

وهناك أمور عدة تدعو وتبرز أهمية التجاء المرء إلى الله ودعائه له ليدله على ما اختلف فيه:

منها: شدة الخداع والتضليل الذي يُمارس على الناس، وكثرة القائمين عليه. فإذا كان الله تعالى الذي يعلم السر والنجوى قد وصف مكر أقوامٍِ بقوله {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} ، فكيف لا نخشى أن نصبح ضحايا هذا المكر!، وإذا كانت الجبال الصُم تكاد تتزلزل من مكرهم، فكيف بقلب ضعيف من مضغة لا يتأثر! {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} .

ومنها : خفاء كثير من الحق؛ بسبب قلة أو ضعف من يستطيعون بيانه، خشية سطوة أهل الباطل. وصدق الإمام أحمد حينما قال : " إذا سكت العالم تقية ( أي خوفاً ) والجاهل يجهل ، فمتى يظهر الحق ؟" وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله : "اذا سكت أهل الحق عن الباطل توهم أهل الباطل أنهم على حق".

ومنها : خطورة الانحياز للباطل وأهله، قال ابن القيم : " إذا كان الله ورسوله في جانب فاحذر أن تكون في الجانب الآخر، فإن ذلك ُيفضي الى المشاقة والمحادة (أي معاداة الله ورسوله) ... وكن في الجانب الذي يكون فيه الله ورسوله، وإن كان الناس كلهم في الجانب الآخر، فإن لذلك عواقب هي أحمد العواقب وأفضلها، وليس للعبد أنفع من ذلك في دنياه قبل آخرته)، ثم يبين رحمه الله أن سبب ميلِِ كثير من الناس للباطل هو الخوف من أهل الباطل أو الرغبة فيما عندهم، فيقول: "وأكثر الخلق إنما يكونون من الجانب الآخر، ولاسيما إذا قويت الرغبة والرهبة فهناك لا تكاد تجد أحداًً في الجانب الذى فيه الله ورسوله، بل يعده الناس ناقص العقل، سيء الاختيار لنفسه".

ومنها: ضعف الإنسان وحاجته الشديدة إلى تبصير الله له بالحق وأهله، وخاصة مع تعاظم وانتفاش التضليل ودعاته. فإذا كان نبي الله المعصوم صلى الله عليه وسلم  يلجأ إلى ربه ليهديه لما اختلف فيه من الحق، فيقول في دعائه :  « اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»   [رواه مسلم] ، فغيره من باب أولى. وقد كان ابن تيمية على رسوخ علمه إذا استغلقت عليه مسألة فلم يعرف الصواب فيها؛ سجد ومرّغ وجهه في التراب ودعا : يا معلم إبراهيم علمني، و يا مفهم سليمان فهمني.

ومنها: اغترار كثير من الناس بما أوتوا من علوم الدنيا، وبأنهم قادرون بأنفسهم على تمييز الحق من الباطل، دون الحاجة إلى عون الله تعالى،  كما قال سبحانه: (فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)،  وفي عبارة تهز القلوب يقول ابن تيمية: "وقد يكون الرجل من أذكياء الناس، وأحدِّهم نظراً، ويُعميه الله عن أظهر الأشياء، وقد يكون من أبلد الناس، وأضعفهم نظراً، ويهديه لما اختُلف فيه من الحق بإذنه، فلا حول ولا قوة إلا به"، وقال ابن القيم : " إن العبد لا يستغنى عن تثبيت الله له طرفة عين ، فإن لم يثبته وإلا زالت سماء إيمانه وأرضه عن مكانهما ، وقد قال تعالى لأكرم خلقه عليه – عبده ورسوله - :  {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا} . فاللهم لا تكِلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

ومنها : أن الميل لدعاة الباطل ونصرتهم في الدنيا، يكون وبالاًً وحسرة يوم القيامة، ولات ساعة مندم، حين تتلاشى سطوة أهل الباطل فلا ينفع الركون إليهم، وتذهب أموالهم ومناصبهم فلا يُجدي التزلف لهم، وحين يتبرأ أهل الباطل ودعاة الفساد يوم القيامة ممن وافقوهم وأيدوهم رهبة أو رغبة، فما أعظمها من حسرة!.

ختاماً .. إذا لجأت -أخي الكريم- إلى الله بصدق، وتبين لك الحق، فإما أن تصدع به وتصبر على ما تلاقيه بسببه، وما أعلاها من منزلة، وإما أن تصمت فلا تزكي أو تُعين أهل الباطل على أهل الحق، فإن لك فسحة ورخصة من نبينا الرؤوف الرحيم بأمته، حين قال :  «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»   [متفق عليه] .

 

كتبه : منصور بن محمد الـمقرن