باختصار شديد: مَن يمثلُني؟!

منذ 2022-11-07

فمن القضايا المهمة التي زلّت فيها أقدام وضلت فيها أفهام؛ قضية اختيار من ينوب عنك أو يمثلكُ أو يسيِّرُ أمورك ومهامّك بمختلف الأعمال والمشاريع أيا كانت.

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فمن القضايا المهمة التي زلّت فيها أقدام وضلت فيها أفهام؛ قضية اختيار من ينوب عنك أو يمثلكُ أو يسيِّرُ أمورك ومهامّك بمختلف الأعمال والمشاريع أيا كانت.

هنالك معايير وخصائص مهمة فيمن يمثلُك في أي مشروعٍ أو برنامجٍ أو مهمةٍ، إذا توفرت ستحقق النجاح بإذن الله والثمار المرجوة والمخرجات النافعة.

معايير أساسية:

هنالك معايير وأصول أساسية، لابد من توفرها في أي منصب، لتحقيق أمثل مخرجات وأفضلها؛ نجملها بالآتي: "الحفظ والعلم والقوة والأمانة".

قال تعالى على لسان يوسف عليه السلام: { {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)} }.

وقال سبحانه على لسان ابنة الرجل الصالح في مدين تشير إلى موسى عليه السلام: { {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} }.

حفيظ: أي للذي أتولاه، فلا يُضيَّعُ منه شيء في غير محله.

عليم: بوجوه وتدبير ما يتولاه وتحقيق المصالح.

القوي: القادر على إنجاز المهمة على أتم وجه.

الْأَمِينُ: الَّذِي يَحْفَظُ مَا عُهِدَ لَهُ بِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ دُونَ نَقْصٍ وَلَا تَغْيِيرٍ.

معايير أخرى مهمة:

هنالك معايير ومزايا أخرى مهمة، بقدر توفرها تكون الإنجازات والمخرجات أنفع وأعظم، أذكر منها على سبيل التمثيل لا الحصر، من خلال التأمل في قصة نبي الله سليمان -عليه السلام- مع الهدهد.

لما علمَ سليمانُ عليه السلام بملكة سبأ وعرشها العظيم ومملكتها، أراد أن يرسلَ لها رسالةً مهمة تدعوها إلى الإسلام، فلم يلتفت إلى المقربين عنده من قادة ومستشارين من الجن وغيرهم، بل اختار جندياً ضعيفاً صغيراً لا يؤبه له، لهذه المهمة الكبيرة، اختار الهدهد، لماذا؟! لأنه لا يجامل ولا يحابي!

مع أن الهدهد ليست هذه وظيفته، لكن اجتمعت فيه خصال التمثيل والكفاءة فقدمه على غيره.

سليمان عنده أبناء وإخوة وأقارب وهكذا ولكن نظر إلى مصلحة مملكته ومجتمعه وأمته فاختار الهدهد، لأنه كان مندوباً صالحاً وممثلاً مناسباً في هذه المهمة، لما له من خصال تؤهله لهذه المسؤولية، نستلهم منها:

1- العلم.

أن يكون عارفاً ومُلماً وخبيراً بحيثيات المهمة أو المنصب.

قال تعالى: { {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)} }.

يقول ابن القيم: وهذا الخطاب إنما جرَّأه عليه العلم، والا فالهدهدُ مع ضعفه لا يتمكنُ في خطابه لسليمانَ مع قوته بمثل هذا الخطاب لولا سلطانُ العلم.

2- الثقة بقدراته والثبات وعدم التلكؤ.

فقد أظهر الهدهد ثقة واضحة وثباتاً عظيماً دون تردد أو اضطراب، في خطابه لسليمان عليه السلام.

3- مهارة الدفاع عن النفس بلطفٍ وحكمة.

فالذي لا يتمكن من الدفاع عن نفسه في المواقف الحرجة، فكيف يدافع عن غيره ويطالب بحقوقهم؟!

أظهر الهدهد حنكةً ومهارةً في دفاعه عن نفسه، لما توعده سليمان -عليه السلام-، ومع ذلك كان لطيفا في خطابه ومؤدبا في جوابه، فقال: { {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} }، وهذا قمةٌ في الأدب والتواضع، فلم يقل لسليمان -عليه السلام- أنت لا تعرف ولا تعلم أحوال الممالك الأخرى!

4- الإيجابية في كل الأحوال: حال حضورك أو غيابك.

مع أن الهدهد ليس من مهامِّه ما كان سبباً في غيابه، ولكن لأنه إيجابي تحمل المسؤولة واستشعر هم دينه وأمته.

5- الولاء الوظيفي: فكن صاحبَ رسالةٍ لا مجردَ موظف.

الهدهد من فلسطين ورأى أمراً منكراً ومُهما في اليمن فأخبر به، وأظهر ولاءه لمملكة سليمان التي ينتمي إليها.

6- الشجاعة والجرأة: في مواجهة التحديات والصعاب.

لما توعده سليمان -عليه السلام- لم يهرب ويختفي عن الأنظار، بل واجه ودافع عن نفسه، وتجرأ في خطابه لسليمان وصدعه بالحق.

7- حُسنُ التخاطب وانتقاء العبارات.

قال: { {أحطت} }، ولم يقل "أنت جاهل" أو "أنا أعلم منك"!

8- سلامة الفطرة.

الهدهد استغرب وتعجب وأنكر وجود امرأةٍ تملك قوماً!

9- الغَيرةُ على دين الله وجناب التوحيد والحرمات.

قال سبحانه موضحاً عقيدة التوحيد لدى الهدهد وغيرته منقطعة النظير على دين الله: { {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} }.

10- القناعة وعدمُ الاغترار بالحضارات الزائفة: والانفتان بزخارف الدنيا.

 فمن يبحث عن امتيازات خاصة وترقيات ومكافآت على حساب مؤسسته ومجتمعه ومَن تحته، سيضيع الأمانة.

الهدهد في رحلته العجيبة مَرَّ بعجائب ومواقف ومشاهد، لكن لم يستوقفه إلا حال القوم من الشرك الفادح.

قال: { {وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون} } لم يُبْهِرْهُ عرش الملكة ولا قصرها ولا حضارتها الزائفة عن رؤية حقيقة ضلالهم وانحرافهم!

11- احترام التخصص والحديث عما تعلم وتُتقن.

فالهدهد تحدث عما يعرفه من إخراج الماء والطعام من باطن الأرض، لأن الله علمه وهداه لهذا.

قال تعالى على لسان الهدهد: { {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} }.

12- ضرورة مراقبة الله جل وعلا في كل صغيرة أو كبيرة، لأن الله مطلع على كل شيء.

قال سبحانه عن الهدهد: { {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} }.

 

12 ربيع الآخر 1444هـ

6/11/2022م

أيمن الشعبان

داعية إسلامي، ومدير جمعية بيت المقدس، وخطيب واعظ في إدارة الأوقاف السنية بمملكة البحرين.