العوامل الداخلية والخارجية لإخفاق المشروع الصليبي في القرون الوسطى

منذ 2024-01-13

بقدر ضخامة وامتداد الحدث التاريخي وأهميته، تبرز الحاجة الماسة لدراسة عدد من عوامل إخفاق المشروع الصليبي الكبير

 

لم تلقَ فترة من فترات التاريخ الإنساني من الاهتمام والدراسة والتحليل والنقد مثلما لقيت فترة الحروب الصليبية، وليس هذا بمستغرب فتلك الحقبة الزمنية الممتدة لقرنين ونصف من الزمان قد دار في طاحونها عوالم ثلاثة: عالم الغرب اللاتيني مبتدع فكرة الحروب الصليبية وحامل صليبها، والعالم البيزنطي الشرقي صاحب فكرة الصدام الديني مع العالم الإسلامي وأول خصم أممي وتاريخي للمسلمين والذي استفاد وتضرر في الوقت نفسه من الحروب الصليبية[1]، والعالم الإسلامي الذي تحمل عبء مواجهة جحافل البرابرة الأوربيين وعنصرية وتعصب الكنيسة الكاثوليكية طوال هذه الفترة الزمنية الممتدة.

وبقدر ضخامة وامتداد الحدث التاريخي وأهميته، تبرز الحاجة الماسة لدراسة عدد من عوامل إخفاق المشروع الصليبي الكبير، وسواء الداخلية منها أو الخارجية، مع الإقرار بأن هذا الأمر يحمل قدراً من الصعوبة بسبب تناثر هذه العوامل بين تفاصيل الأحداث المتشعبة والممتدة عبر قرنين ونصف من الزمان. وتنقسم هذه العوامل إلى عوامل داخلية وأخرى خارجية تفاعلت فيما بينها على المدى الطويل لتعطي المحصلة النهائية في الإخفاق التاريخي للمشروع الصليبي[2].

 العوامل الداخلية:

أولاً: عنصرية وتعصب الحركة الصليبية: من أبرز سمات المشروع الصليبي عنصريته وتعصبه ووحشيته ضد كل ما هو غير كاثوليكي عامة، ومسلم خاصة، يظهر هذا منذ الإرهاصات الأولى للحركة الصليبية ومع انطلاق حركة الريكونيكستا الإسبانية في شبه الجزيرة الأيبيرية سنة 452هـ على يد ألفونسو السادس، حيث اقترنت هذه الحركة بالدموية والوحشية المفرطة، حتى صارت سمة مميزة لها، وسط موجة عارمة من العداء والكراهية والرغبة الجامحة للفتك بكل من لا يدين بالكاثوليكية، بحيث صار لا يكتب تاريخ المشروع الصليبي إلا بالدم والمذابح وإزهاق أرواح مئات الآلاف من المدنيين والأبرياء. ولم يستثن اليهود أو الأرثوذكس من هذه المجازر. فقد ارتكب الصليبيون مجزرة مروعة بحق اليهود في حوض الراين سنة 1097م. وسلسلة المذابح والانتهاكات التي ارتكبتها الحملة الصليبية الرابعة في القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية سنة 1204م[3]، بعد أن تغير مسار الحملة من الشام إلى القسطنطينية لإخضاع الكنيسة الشرقية للغربية، وقدر عدد ضحايا هذه الحملة بعشرات الآلاف، وانتهكت الكنائس، ودخل الصليبيون كنيسة آيا صوفيا وأجلسوا عاهرة على الكرسي البطريركي، وشربوا بها الخمر، وفجروا بالراهبات وذبحوا القساوسة، في مشهد مروع. غير أن النصيب الأكبر من الوحشية والدموية والتعصب والعنصرية كان من نصيب العالم الإسلامي، بداية من مجزرة بيت المقدس المهولة التي وقعت في أعقاب سقوط المدينة في شعبان 492هـ/ يوليو 1099م، والتي استمرت عشرة أيام تم فيها الفتك بعشرات الآلاف من المسلمين.

ثانياً: عدم تجانس التركيبة السكانية الصليبية: جذب المشروع الصليبي إليه من خلال الإغراءات المادية والحماسة الدينية أعداداً غفيرة من نصارى غرب أوربا، فقد شارك فيه الفرنسيون، والإيطاليون، والألمان، والإنجليز، والهولنديون، والنرويجيون، والدنماركيون، والسويديون، وغيرهم من الأمم التي يحتفظ بعضها بعلاقات غير ودية، وتاريخ طويل من الخلافات الجانبية مثل الإنجليز والفرنسيين، والإيطاليين والألمان، وقد صهرت حرارة البداية هذه الخلافات فلم يظهر أثرها إلا بعد الاستقرار، فقد عاشت هذه الشعوب في كيانات منفصلة، وظهرت خلافاتها للعلن، وتنافس الجميع في نهب خيرات البلاد بصورة محمومة، وبرغم وجود العديد من الأسباب الداعية للوحدة ونبذ الفرقة إلا إن الصليبيين لم يتخلوا أبداً عن خلافاتهم الجانبية، وقد ساهم التفاوت في أعداد كل جالية في تأزيم العلاقات. فقد كان الفرنسيون الأكثر عدداً واستحواذاً على الأراضي، في حين كان عدد الألمان قليلاً[4]، أيضاً تميز الطليان وخاصة أبناء المدن التجارية مثل بيزا وجنوة والبندقية بمهارة فائقة في التجارة مما أدى لتزايد نفوذهم وحصولهم على امتيازات تجارية من البيزنطيين والصليبيين في الشام على حد السواء. وكل هذا التباين قاد في لحظة تاريخية في هذه الكيانات لحرب أهلية عنيفة بين الصليبيين بسبب فتنة دير ساباس سنة 655هـ/ 1257م[5].

ثالثاً: العجز عن الخروج من النطاق الآسيوي: كان الكيان الصليبي الذي صنعته الحملات الأولى كياناً أوربياً بامتياز، وظل الارتباط وثيقاً بين الممالك الصليبية والغرب الأوربي الذي وفر له كل الدعم المادي والمعنوي الذي مكنه من الاستمرار في مواجهة المسلمين لأكثر من قرنين من الزمان، ومع ذلك كان الارتباط بالغرب الأوربي عنصراً من عناصر ضعف المشروع الصليبي. فالملاحظ أن الصليبيين لم يعتمدوا على أنفسهم في مواجهة الكفاح الإسلامي ضدهم، فكلما اشتد المسلمون عليهم وحققوا انتصارات متتالية، أو تمكنوا من إسقاط إمارة صليبية، مثل الرها سنة 539هـ، وبيت المقدس سنة 583هـ[6]، استغاث الصليبيون بإخوانهم في الغرب الأوربي، مما أثبت فشل الصليبيين الوافدين في بلاد الشام عن تغيير الواقع السياسي والعسكري الذي أوجدته حركة الجهاد الإسلامي. وأصبح الكيان الصليبي مثل الجنين الذي لم يكتمل نموه، وظل ارتباطه بالوطن الأم أو الغرب الأوربي يعكس حالة العجز الإستراتيجي عن التمدد الخارجي من الحيز الجغرافي الآسيوي، وكذلك تمثل في الفشل المتكرر للصليبيين في احتلال مصر وتونس، وعكس ذلك خللاً أمنياً خطيراً، إذ أصبح العمق الدفاعي الإستراتيجي للكيانات الصليبية بعيداً بمسافات شاسعة تفصلها البحار والدول والممالك، بينما كانت مناطق العمق الدفاعي الإستراتيجي للمسلمين في بلاد الشام ومصر والعراق، قريبة وتقدم دعمها سريعاً وفي أقصر وقت ممكن. كما أن المسلمين امتلكوا جبهة آسيوية وأخرى إفريقية، وبعد سقوط الرها أصبح الوجود الصليبي بمثابة نطاق جغرافي صغير، ساحلي يعاني من الانعزال وعدم القدرة عن التمدد، وكان هذا العجز هو عقدة الصليبيين الأساسية على مر تاريخهم في المنطقة.

رابعاً: فساد جماعات الرهبان المقاتلة: نشأت العديد من الهيئات الدينية العسكرية في المشروع الصليبي مثل الإسبتارية والداوية وتنظيم التيوتون، وفرسان القديس توماس وغيرها من التنظيمات التي تشكلت نواتها الأولى سنة 463هـ/ 1070م، أي قبل انطلاق الحملات الصليبية بأكثر من عشرين سنة[7]، وكان الهدف منها في أول الأمر مساعدة مرضى الحجيج النصراني إلى بيت المقدس، ثم تحولت هذه الهيئات بعد احتلال بيت المقدس إلى تشكيلات قتالية تجمع بين الرهبنة والفروسية، وكانت هذه الهيئات تعتبر نفسها حامية النصرانية والمدافعة الأولى عن قبر المسيح، وكانوا أكثر الصليبيين حمية وشدة في قتال المسلمين، وكان البابا باسكوال الثاني أول من اعترف بهذه الهيئات ودعمها وأصبغ عليها سمات القداسة.

مع الوقت واستقرار الوجود الصليبي في الشام بعد الحملة الصليبية الأولى تحولت هذه الهيئات الدينية إلى عبء ثقيل على المشروع الصليبي، فقد تفرغ القائمون على هذه الهيئات لجمع الأموال وتوسيع دائرة النفوذ، فقد أصبحت تسيطر على ممتلكات شاسعة في الشام، غير الأوقاف الصليبية في أوربا وإسبانيا، فقد أوقف ملك أراجون الإسباني «ألفونسو المحارب» ثلث ثروته وأملاكه على الداوية والإسبتارية في الشام[8]، ومع الوقت تركت هذه الهيئات دورها الديني والقتالي وانشغلت تماماً بالمال والتجارة والعمل المصرفي، فقد أقرضت الملك الصليبي الفرنسي لويس التاسع مبلغ فديته بعد وقوعه في الأسر عقب إخفاق حملته الصليبية الشهيرة على المنصورة سنة 648هـ/ 1250م. كما حدث تصارع على النفوذ والسلطة والأموال بين الإسبتارية والداوية وصل إلى حد الاقتتال، مما حدا ببعض عقلاء النصارى مثل المؤرخ وليم الصوري بتوجيه النقد لعمل هذه الهيئات، وتوقع انهيار المشروع الصليبي بسبب تنافسهم المرير على الدنيا[9].

خامساً: بروز العديد من المشكلات السياسية والإدارية، في الكيان الصليبي الذي استقر بعد الحملة الصليبية الأولى: مثل الصراع على السلطة الذي حدث بين الأميرة ميلزندا وابنها بلدوين الثالث، حيث كانت وصية عليه لفترة طويلة، فلما بلغ السن القانونية رفضت أن تسلمه السلطة كملك لبيت المقدس، ودارت حرب ضروس سنة 547هـ/ 1152م انتهت بانتصار بلدوين ونفي ميلزندا من الشام كله[10]. أيضاً كانت هناك على الدوام مشاكل مالية في المشروع الصليبي بسبب النفقات الكبيرة في محاربة المسلمين. لذلك وجدنا ملوك أوربا الصليبيين وكرسي البابوية يفرضون الضرائب المتتالية لتمويل الحملات الصليبية التي كانت موجهة في الأساس للدفاع وحماية الكيان الصليبي وليس تمدده وتوسعه، ومن أمثلتها ضريبة ملك إنجلترا هنري الثاني سنة 561هـ/ 1166م لمعاونة مملكة بيت المقدس ضد السلطان نور الدين محمود الشهيد، والضريبة التي فرضها ملك فرنسا سنة 584هـ/ 1188م، لتمويل الحملة الثالثة بعد فتح صلاح الدين لبيت المقدس، والتي عرفت باسم «عشور صلاح الدين»[11]. ومن المشاكل التي واجهت الكيان الصليبي أيضاً تزايد نفوذ أحد أمراء الأطراف بسبب موقعه الإستراتيجي مثلما حدث مع الأمير المغرور المتهور رينالد دي شاتيون المعروف في المراجع العربية «أرناط» المعروف بنزقه وانتهازيته وشدة عداوته للمسلمين، فقد كان أميراً على الكرك وشرق الأردن، وهدد قوافل الحجيج المسلمين عدة مرات، واعتدى عليهم في واحدة، ورفض الانصياع لأوامر الملك الصليبي بكف الأذى ورد ما سلبه من المسلمين، ولكنه رفض واستكبر، بل وصل غروره وتهوره لمحاولة احتلال المدينة النبوية ونبش القبر الشريف، فنذر صلاح الدين - بيض الله وجهه - أن يقتله بيده، وكانت حماقات أرناط إحدى أهم مقدمات حرب حطين الشهيرة سنة 583هـ[12].

سادساً: فجوة الأجيال الصليبية وظهور طبقة البولاني: برغم الحشد المادي والبشري الكبير للمشروع الصليبي إلا إن ما يمكن وصفه بفجوة الأجيال قد ضرب المشروع الصليبي بقوة، ففي جيل التأسيس برز عدة قادة كبار مثل جود فري دي بويون، وبلدوين الأول الذي يعتبر المؤسس الأول للكيان الصليبي في الشام، وفولك أوف أنجو، وبلدوين الثاني والثالث، وعموري الأول الذي كان يعتبر آخر عظماء المشروع الصليبي[13]، بعدها عقم الرحم الصليبي عن الدفع بأسماء بارزة أو على نفس المستوى، فقد ظهرت طبقة البولاني أو الأفراخ المولدين من تزاوج صليبيي الغرب مع صليبيي الشرق، وهذه الطبقة قد تعربت وتمشرقت بدرجة جعلتها لا تحب القتال أو الدفع وتركز على الإعمار والرفاهية والبعد عن ساحات القتال، وقد ظلت هذه الفجوة تتسع بين الأجيال، وتتعمق آثارها التدميرية للكيان الصليبي من أساساته العقدية والإستراتيجية، في الوقت الذي كانت تتعمق لدى المسلمين الرغبة المتأججة بوجوب طرد الصليبيين من الشام، وابتداء من سنة 539هـ/ 1144م أصبحت كافة الأسر الحاكمة في الشام ومصر والجزيرة من الأتابكية والأيوبية والمملوكية لا تهدف سوى لتطهير بلاد الإسلام من بقايا الكيانات الصليبية في الشام والسواحل[14].

سابعاً: الفشل في تنصير المنطقة أو كثلكتها، فالدافع الديني والرغبة العارمة في القضاء على كل ما هو ليس بكاثوليكي كان المحرك الرئيس والباعث الأول للحروب الصليبية في القرون الوسطى. وعلى طريق تغيير الهوية الدينية لأبناء المنطقة عمل الصليبيون على تغيير الواقع الديمغرافي، وكذلك الطبوغرافي، ثم العقائدي.

 فعلى المستوى الديمغرافي نجد أن الصليبيين قد حرصوا على إقامة المذابح الوحشية قبل إقامة كل كيان صليبي جديد، كما فعلوا في أنطاكية ثم بيت المقدس، وذلك من أجل خلخلة البنية السكانية ووأد روح المقاومة وسهولة احتلال الأراضي، وقد دفعت مجزرة بيت المقدس المروعة بعشرات الآلاف من المسلمين إلى الرحيل إلى دمشق وحلب وحمص والقاهرة.

 أما التغيير الطبوغرافي، فقد حاول الصيلبيون تغيير هوية المنطقة، من خلال زرع عشرات المستعمرات الصليبية وطرد السكان المسلمين منها كما حدث في مستعمرات ألبيرة والقبيبة وكفر مالك، وبناء عشرات القلاع والحصون الدفاعية في مناطق إستراتيجية حساسة لتمزيق المنطقة جغرافياً وسياسياً، لمنع اتصال المسلمين ببعضهم.

أما على المستوى العقائدي، فقد كان الإخفاق هو عنوان المشروع، فمن الأمور الملفتة للنظر أن السياسة التنصيرية للصليبيين سعت منذ البداية لمعرفة عقائد المسلمين حتى تمكنهم من مواجهتهم بالمخططات التي قدموا المنطقة من أجلها، لذلك فقد تمت ترجمة القرآن الكريم لأول مرة في التاريخ سنة 538هـ/ 1143م، وهذا العمل العلمي - على نقصه وعواره - يكشف أن الصليبيين كانوا يعملون وفق خطة ممنهجة ومدروسة وبعيدة عن العشوائية، ولكنه لم يفد على أرض الواقع شيئاً، فعمد الصليبيون لاستعمال القوة والبطش لإرغام المسلمين على التنصير والأرثوذكس على التكثلك، فقد قام الصليبيون بتحويل المساجد إلى كنائس، وتحويل البعض الآخر لأعمال التخزين والإقامة، وأطلقوا اسم «معبد سليمان» على المسجد الأقصى، وقسموه ثلاثة أقسام: الأول كنيسة، والثاني مسكناً لهيئة الداوية، والثالث مستودعاً للذخائر، وجعلوا سراديب المسجد إصطبلاً للخيول والدواب، وهذه السياسية حيال المساجد كشفت عن إدراك الصليبيين لدور المسجد في مكافحة المشروع الصليبي وتأجيج جذوة الجهاد والحمية لدى المسلمين ضد الصليبيين[15].

أما أكبر عدد ذكره المؤرخون لحالة تنصير في المشروع الصليبي فكان جريمة خطف حقيرة قام بها الملك الصليبي حنا دي برين قائد الحملة الصليبية الخامسة على دمياط، عندما خطف 400 طفل مصري ونقلهم إلى فرنسا[16]. أما أعجب ما في مشروع التنصير لدى الصليبيين محاولتهم تنصير قيادات العالم الإسلامي، فقد قام الراهب فرنسيس الأسيزي بمقابلة السلطان الكامل الأيوبي سنة 625هـ وعرض عليه التنصر، وقد طمع الراهب في الكامل الأيوبي بسبب الجريمة العظمى التي أقدم عليها الكامل الأيوبي بتسليم بيت المقدس للإمبراطور الألماني فريدريك الثاني في العام نفسه. بيد أن الكامل الأيوبي كان خبيراً بأساليب التنصير بسبب حبه للمناظرات بين علماء المسلمين وأهل الكتاب، فلم يعر الراهب اهتماماً واكتفى بالسماع لدعوته ابتساماً فحسب[17].

وفي المقابل استفاد المسلمون من حملات التنصير استفادة كبيرة، فقد أزكت لديهم الحمية الدينية والقناعة بسلامة فهم طبيعة المعركة، كما دفعتهم للتفرغ في الرد على النصارى وشبهاتهم الطارئة مع العدوان الصليبي، وبداية من القرن السادس حتى القرن التاسع الهجريين شهدت الساحة العلمية والثقافية الإسلامية عشرات ومئات المصنفات والمؤلفات في الرد على النصارى وبيان عظمة الإسلام. وقد تجلت قمة الفشل التنصيري في انتشار الإسلام في صفوف الصليبيين حتى وصل إلى قادتهم وأمرائهم، كما حدث مع الكونت ريموند الثالث أمير طرابلس الذي وقع في أسر المسلمين فرأى من أخلاقهم وحسن معاملتهم ما دفعه لتعلم العربية ودرس حياة وتاريخ المسلمين وأخيراً دخل الإسلام ولكن سراً، واتفق مع صلاح الدين على نشر الإسلام في طرابلس بين الصليبيين، بيد أن وفاته السريعة أوقفت هذا الاتفاق مع صلاح الدين[18]. كما قام أحد قادة هيئة الداوية واسمه روبرت أوف سانت أليانوس وكان إنجليزياً بإعلان إسلامه سنة 581هـ/ 1185م، ولا يخفى على أحد قيمة هذا الإسلام لواحد من قادة أشرس وأخطر المقاتلين الصليبيين ضد المسلمين[19]. كما حدثت حالة إسلام جماعي لعدد ثلاثة آلاف مقاتل صليبي سنة 543هـ/ 1148م جاءوا للاشتراك في الحملة الصليبية الثانية، فقام البيزنطيون إخوانهم في الصليب بالاعتداء عليهم وسرقة أموالهم، بينما لاقوا معاملة طيبة من المسلمين الذين أطعموهم وأحسنوا إليهم، مما دفع هؤلاء الصليبيين لاعتناق الإسلام طواعية دون ضغط عليهم من أسر أو قتل[20].

العوامل الخارجية:

إجمالي العوامل الخارجية التي أدت لفشل المشروع الصليبي تجسدت في فعاليات حركة الجهاد الإسلامي ضد الغزاة البرابرة الصليبيين. فقد كان الوعي الإسلامي بطبيعة الصراع متجلياً منذ بدايات المشروع الصليبي، والمسلمون المعاصرون لمقدم الصليبيين كانوا على علم واضح بطبيعة الحركة الصليبية، فقد ألف الفقيه علي بن طاهر السلمي (ت 500هـ) رسالة بعنوان «الجهاد» سنة 499هـ، بيّن فيها الفرق بين الصليبيين والبيزنطيين، فلم يخلط بينهما، كما أوضح الأصول الأندلسية لهذه الحملات، وأنها جزء من مشروع كبير سابق بدأ في الأندلس، ثم صقلية، وقد تأثر المؤرخ الكبير ابن الأثير بهذه الرؤية، واعتبر الحركة الصليبية حرباً ثأرية بين المسيحية والإسلام.

هذه الحركة الجهادية ظهرت كواقع عملي على أيدي القادة الكبار في الجزيرة والشام ومصر، بداية من رائد الجهاد الإسلامي الأمير شرف الدين مودود، ثم عماد الدين زنكي محرر الرها من الصليبيين، وابنه نور الدين محمود الشهيد الذي يعتبر مهندس حركة الجهاد الإسلامي، وبطل مرحلة توازن القوى، ثم الناصر صلاح الدين محرر بيت المقدس وبطل حطين، والبطل الأعظم لحركة الجهاد في عصر الصليبيات، ثم الظاهر بيبرس محرر أنطاكية، ثم المنصور قلاوون محرر إمارة طرابلس، وابنه الأشرف خليل بن قلاوون الذي حاز شرف تطهير بلاد الشام من الصليبيين نهائياً بعد طردهم من عكا سنة 690هـ/1291م. وبرغم كون هؤلاء القادة لم يكونوا جميعهم على نفس المستوى، إلا إن الاستمرارية والمواصلة والتتابع في حركة الجهاد الإسلامي أعطتها فعالية وقيمة مضافة مكنتها من تأسيس عمل تراكمي، توج في نهاية المطاف بإفشال المشروع الصليبي برمته، وطردهم نهائياً من بلاد الإسلام.

 

 
 

 


[1] قضايا من تاريخ الحروب الصليبية، د. رأفت عبد الحميد، ص5.

[2] الحروب الصليبية، د. محمد مؤنس عوض، ص57.

[3] الكامل في التاريخ لابن الأثير ج10 ص288.

[4] الحروب الصليبية لمؤنس ص44.

[5] تاريخ وليم الصوري ص233.

[6] الكامل في التاريخ ج10 ص154، البداية والنهاية ج12 ص355.

[7] دراسات في تاريخ الحروب الصليبية، د. محمد النشار ص47.

[8] دولة الإسلام في الأندلس ، محمد عبد الله عنان ج4 ص61.

[9] الحروب الصليبية لمؤنس ص48.

[10] تاريخ الحركة الصليبية، د. سعيد عاشور ج 2 ص646.

[11] دراسات في الحروب الصليبية ص280.

[12] البداية والنهاية ج12 ص335.

[13] مملكة بيت المقدس الصليبية، عمر توفيق ص80.

[14] الفتح القسي في الفتح القدسي للعماد الأصفهاني ص30.

[15] الحروب الصليبية لمؤنس ص96.

[16] الحروب الصليبية لمؤنس ص100.

[17] الحملة الصليبية الخامسة لمحمود عمران ص306، قضايا من الحروب الصليبية، د. رأفت عبد الحميد ص140.

[18] الكامل في التاريخ ج10 ص160، تاريخ طرابلس السياسي والحضاري ص508.

[19] الحروب الصليبية لمؤنس ص104.

[20] المرجع السابق ص105.