في تفسير قوله تعالى: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور}
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} أي: خوَّان في أمانة الله كَفُور لنعمته
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38]؛ قال البغوي رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38]: "يريد: يدفع غائلة المشركين عن المؤمنين، ويمنعهم عن المؤمنين، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38]؛ أي: خوَّان في أمانة الله كَفُور لنعمته؛ قال ابن عباس: خانوا الله فجعلوا معه شريكًا وكفروا نِعَمَه، قال: من تقرَّب إلى الأصنام بذبيحته، وذكر عليها اسمًا غير الله، فهو خوان كفور"[1].
إضافة: يمكن قراءة العديد من الفوائد الثمينة من الآية الكريمة؛ وهي على النحو الآتي:
أولًا: في الآية الكريمة وصفٌ لله سبحانه وتعالى بالقوة الكاملة، وهو القوي العزيز الذي يدافع عن عباده المؤمنين.
الدفاع لغة من الدفع: الإزالة بقوة، دَفَعَهُ يَدْفَعُهُ، دَفْعًا ودفاعًا، ودافَعَهُ ودَفَعُه، فاندفع وتدفَّع وتدافَعَ، وتدافعوا الشيء: دَفَعَهُ كلُّ واحد منهم عن صاحبه، وتدافع القوم؛ أي: دَفَعَ بعضهم بعضًا... ودافع عنه بمعنى دفع، تقول منه: دفع الله عنك المكروه دفعًا، ودافع الله عنك السوء دفاعًا، واستدفعت الله تعالى الأسواء؛ أي: طلبت منه أن يدفعها عني[2].
ثانيًا: شرط الإيمان بالله سبحانه وتعالى لتُحقُّق نصر الله ومدافعته؛ كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
قال ابن كثير في تفسير القرآن العظيم: "قد أورد أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى، عند قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر: 51] سؤالًا، فقال: قد علم أن بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قتله قومه بالكلية؛ كيحيى وزكريا وشعياء، ومنهم من خرج من بين أظْهُرِهم، إما مهاجرًا كإبراهيم، وإما إلى السماء كعيسى، فأين النُّصرة في الدنيا؟ ثم أجاب عن ذلك بجوابين؛
أحدهما: أن يكون الخبر خرج عامًّا، والمراد به البعض، قال: وهذا سائغ في اللغة.
الثاني: أن يكون المراد بالنصر الانتصار لهم ممن آذاهم، وسواء كان ذلك بحضرتهم، أو في غيبتهم، أو بعد موتهم، كما فعل بقتلة يحيى وزكريا وشعياء، سلَّط عليهم من أعدائهم مَن أهانهم وسفك دماءهم، وقد ذكر أن النمروذ أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، وأما الذين رامُوا صلب المسيح عليه السلام من اليهود، فسلط الله عليهم الروم فأهانوهم وأذلوهم، وأظهرهم الله عليهم، ثم قبل يوم القيامة سينزل عيسى ابن مريم إمامًا عادلًا، وحكمًا مُقسطًا، فيقتل المسيح الدجال وجنوده من اليهود، ويقتل الخنزير، ويكسِر الصليب، ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام، وهذه نصرة عظيمة، وهذه سُنَّة الله في خَلْقِهِ في قديم الدهر وحديثه؛ أنه ينصر عباده المؤمنين في الدنيا، ويقر أعينهم ممن آذاهم؛ ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله تعالى: من عادى لي وليًّا، فقد بارَزَني بالحرب»،
وفي الحديث الآخر: «إني لأثأر لأوليائي كما يثأر اللَّيثُ الحَرِبُ»؛ ولهذا أهلك تعالى قوم نوح وعاد وثمود، وأصحاب الرَّسِّ، وقوم لوط، وأهل مدين، وأشباههم وأضرابهم ممن كذب الرسل وخالف الحق، وأنجى الله من بينهم المؤمنين، فلم يهلك منهم أحدًا، وعذَّب الكافرين، فلم يفلت منهم أحدًا؛ قال السدي: لم يبعث الله رسولًا قط إلى قوم فيقتلونه، أو قومًا من المؤمنين يدعون إلى الحق فيُقتلون، فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله لهم من ينصرهم، فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا، قال: فكانت الأنبياء والمؤمنون يُقتلون في الدنيا، وهم منصورون فيها، وهكذا نصر الله سبحانه نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه على من خالفه وناوأه، وكذَّبه وعاداه، فجعل كلمته هي العليا، ودينه هو الظاهر على سائر الأديان، وأمَرَه بالهجرة من بين ظهراني قومه إلى المدينة النبوية، وجعل له فيها أنصارًا وأعوانًا، ثم منحه أكتاف المشركين يوم بدر، فنصره عليهم وخذلهم له، وقتل صناديدهم، وأسر سَراتَهم، فاستاقهم مقرنين في الأصفاد، ثم مَنَّ عليهم بأخذه الفداء منهم، ثم بعد مدة قريبة فتح عليه مكة، فقرَّت عينه ببلده، وهو البلد المحرَّم الحرام المشرَّف المعظَّم، فأنقذه الله به مما كان فيه من الشرك والكفر، وفتح له اليمن، ودانت له جزيرة العرب بكمالها، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، ثم قبضه الله تعالى إليه لِما له عنده من الكرامة العظيمة، فأقام الله أصحابه خلفاء بعده، فبلغوا عنه دين الله، ودَعَوا عبادَ الله إلى الله، وفتحوا البلاد والرساتيق، والأقاليم والمدائن والقرى، والقلوب، حتى انتشرت الدعوة المحمدية في مشارق الأرض ومغاربها، ثم لا يزال هذا الدين قائمًا منصورًا ظاهرًا إلى قيام الساعة"[3].
والإيمان هو أن تؤمن بالله ورسله، وملائكته وكتبه، واليوم الآخر، والقضاء والقدر خيره وشره؛ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ((بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجلٌ شديدٌ بياض الثياب، شديدُ سوادِ الشعر، لا نرى عليه أثر السفر ولا نعرفه، حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسند ركبته إلى ركبته، ووضع كفَّيه على فَخِذِه، ثم قال: يا محمدُ، أخبرني عن الإسلام، ما الإسلام؟ قال: «أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتيَ الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا»، قال: صدقت، قال عمر: فعجِبنا له يسأله ويصدقه، فقال: يا محمد، أخبرني عن الإيمان، ما الإيمان؟ قال: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر كله، خيره وشره»، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان، ما الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، فقال: أخبرني عن الساعة، متى الساعة؟ قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل»، فقال: أخبرني عن أماراتها، قال: أ «ن تلِدَ الأَمَةُ ربَّتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة، رِعاءَ الشَّاءِ يتطاولون في البناء»، قال: ثم انطلق الرجل، قال عمر: فلبثت ثلاثًا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عمر، أتدري من السائل» ؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنه جبريل عليه السلام أتاكم يعلمكم دينكم»[4].
والإيمان هو أن تؤمن بالله وأسمائه الحسنى وصفاته العليا، من غير تمثيل أو تحريف أو تعطيل، وهو قول وعمل واعتقاد، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.
ثالثًا: الآية الكريمة تخبر عن حقيقة ربانية؛ أن الله سبحانه وتعالى يدافع عن الذين آمنوا، وهذا هو قول الله، وقوله حق، لا يأتيه الباطل أو الريب، أو الشك أو الظن: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [إبراهيم: 10].
رابعًا: استمرارية هذا الدفاع إلى قيام الساعة، وإلى أن يَرِثَ الله الأرضَ ومن عليها.
خامسًا: حَصْرُ الدفاع على المؤمنين فقط وليس غيرهم، الله لا يدافع عن الكافرين، لكن يُمهلهم ويستدرجهم، ثم يأخذهم أخذَ عزيزٍ مقتدرٍ؛ قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182].
سادسًا: فيها بشارة للمؤمنين، مهما اشتدت عليهم الحال، وغلبهم الأعداء، فإن الله ناصرهم لا محالة؛ قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110]، وقوله تعالى: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
سابعًا: فيها ضرورة ووجوب الإيمان الحق، والتوحيد الخالص لله رب العالمين، حتى يكون المرء من الذين يدافع الله عنهم.
ثامنًا: الخسارة الدائمة والمستمرة لأعداء المؤمنين إلى قيام الساعة، فمن كان يدافع الله عنه، فعدوُّه في خاتمة المطاف خاسر ومهزوم.
تاسعًا: دفاع الله عن المؤمنين عِلْمُه عنده سبحانه وتعالى؛ قال الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر: 31].
فقد أهلَكَ الله أُمَمًا بالصيحة مثل ثمود قوم صالح عليه السلام، وخسف بقارون، وبالغرق قوم نوح عليه السلام، وبالحجارة مثل قوم لوط عليه السلام؛ قال الله تعالى: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 39، 40].
عاشرًا: في الآية الكريمة بشارة في انتصار المؤمنين على الدوام، وهزيمة الكافرين على الدوام.
حادي عشر: في الآية الكريمة طمأنينة وسكينة للمؤمنين؛ لأن الله ربَّ العالمين معهم.
هذا، والله أعلم وأحكم.
[1] تفسير البغوي.
[2] لسان العرب.
[3] تفسير ابن كثير.
[4] صحيح مسلم.
- التصنيف: