طبيب يعمل في مجال أمراض النساء والتوليد

منذ 2012-03-12
السؤال:

نسأل فضيلتكم عن حكم عمل الطبيب في مجال أمراض النساء والتوليد، وما رأى فضيلتكم في تخصيص الخدمة في مستشفيات النساء والتوليد للعنصر النسائي فقط؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً لأننا بصدد دراسة في هذا الأمر.

الإجابة:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن عمل الرجل في تطبيب النساء والعكس، تكتنفه كثير من المحاذير الشرعية؛ حيث يقع الاختلاط بين الجنسين، واطلاع الرجال على عورات النساء والعكس، مع ما في ذلك من ذهاب الحياء والحشمة وحصول الحرج؛ ولا أعني بذلك مجال النساء والتوليد فحسب؛ بل مجالات الطبابة على وجه العموم؛ حيث إن المصلحة تقضي بأن يتولى علاج كل من الرجل والمرأة شخص من ذات الجنس؛ منعاً للفتنة وقطعاً لدابر الفساد وإبقاءً للاحترام والستر والحياء، وذلك في مجالات التحليل والأشعة والتخدير والجراحة وغيرها؛ يدلك على ذلك أن علماءنا رحمهم الله قرروا أن المرأة إذا ماتت لا يتولى تجهيزها إلا نساء، وكذلك الرجل إذا مات لا يتولى تجهيزه إلا رجال، وفي حال العدم فإنه يكتفى بالتيمم، ومجال أمراض النساء والتوليد أخص من غيره لما فيه من الاطلاع على العورة المغلظة التي لا تباح إلا للزوج، وما أبيح النظر إليها حتى من القابلة أو غيرها إلا لضرورة حفظ النفس من الهلاك؛ أعني نفس الجنين وأمه.

ولا يخفى أن الفوضى السائدة الآن في مجالات التطبيب من إدخال الرجال على النساء والنساء على الرجال تؤدي إلى حصول الحرج المفضي إلى تأخر البعض في طلب العلاج والتباطؤ في ذلك كراهة الوقوع في المحظور الشرعي، وفي ذلك مفسدة وأي مفسدة من انتشار الأمراض وإتلاف الأنفس.

فالأصل أنه لا يجوز إطلاع الرجل على عورة المرأة ولا العكس، ولا يستثنى من هذا الأصل إلا ما دعت إليه الضرورة أو الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، وذلك لعموم الأدلة الآمرة بالستر كقول الله تعالى: {}، والضرورة تقدر بقدرها فلا يكشف من جسد المرأة أمام الرجل ولا العكس إلا تقتضيه ضرورة العلاج، فإذا كان يكفي في علاج الجرح مثلاً كشف الفخذ، فلا يجوز كشف ما زاد عليه، وإذا كانت الطبيبة أو الممرضة يمكنها القيام بالعمل وحدها فلا يجوز لها أن تعرض المريضة لرجل، والعكس صحيح.

وأما الاستثناء في مداواة أحد الجنسين للآخر فقد دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك:

1 - ما رواه البخاري في صحيحه عن الربيع بنت معوذ رضي الله عنها قالت: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي، ونداوي الجرحى ونرد القتلى إلى المدينة وذلك في معركة أحد".
2 - ما رواه مسلم عن أم عطية رضي الله عنها قالت: "غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، أخلفهم في رحالهم وأصنع لهم الطعام لهم وأداوي الجرحى وأقوم على المرضى".
3 - ما رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو ومعه أم سليم، ومعها نسوة من الأنصار، يسقين الماء ويداوين الجرحى".
4 - ما رواه الحاكم في المستدرك أن الشفاء بنت عبد الله كانت ترقي من النملة، وجاءها أنصاري خرجت به نملة يريد أن ترقيه فقالت: "ما رقيت منذ أسلمت"، فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: "".
5 - ما أخرجه الحاكم في المستدرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوكل تمريض سعد بن معاذ رضي الله عنه عندما أصيب في أكحله إلى رفيدة الأسلمية رضي الله عنها، وجعل له خيمة في المسجد، ثم جعل معه بعض الجرحى وأوكل تمريضهم جميعاً إلى رفيدة.
6 - ما رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه أن أم سلمة رضي الله عنها استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجامة، فأذن لها، وأمر أبا طيبة أن يحجمها.

وقد نص على ذلك جمع من أهل العلم منهم ابن قدامة المقدسي في كتاب (المغني 6/558) قال: "ويباح للطبيب النظر إلى ما تدعو إليه الحاجة من بدنها من العورة وغيرها فإنه موضع حاجة"، وكذلك ابن مفلح في (الآداب الشرعية) والقاضي أبو يعلي وابن عابدين في حاشيته، وقال الذهبي رحمه الله تعالى في كتابه (الطب النبوي): "ونص أحمد أن الطبيب يجوز له أن ينظر المرأة الأجنبية إلى ما تدعو إليه الحاجة، إلى العورة .. وكذلك يجوز للمرأة أن تنظر إلى عورة الرجل عند الحاجة" .. قال الذهبي: "وكذلك يجوز خدمته الأجنبية، ويشاهد منها عورة في حالة المرض وكذلك يجوز لها أن تخدم الرجل وتشاهد من عورة في حال المرض إذا لم يوجد رجل أو محرم".أ.هـ، وهذا كله مقيد بحصول الضرورة وانتفاء الخلوة.

وقد صدر بهذا قرار من مجمع الفقه الإسلامي ورقمه (85/12/د 8) ونصه:
"الأصل أنه إذا توافرت طبيبة متخصصة يجب أن تقوم بالكشف على المريضة، وإذا لم يتوافر ذلك فتقوم بذلك طبيبة غير مسلمة ثقة، فإن لم يتوافر ذلك يقوم به طبيب مسلم، وإن لم يتوافر طبيب مسلم يمكن أن يقوم مقامه طبيب غير مسلم، على أن يطلع من جسم المرأة على قدر الحاجة في تشخيص المرض ومداواته وألا يزيد عن ذلك وأن يغض الطرف قدر استطاعته، وأن تتم معالجة الطبيب للمرأة هذه بحضور محرم أو زوج أو امرأة ثقة منعاً للخلوة المحرمة. ويوصي بما يلي: أن تولي السلطات الصحية جل جهدها لتشجيع النساء على الانخراط في مجال العلوم الطبية والتخصص في كل فروعها، وخاصة أمراض النساء والتوليد، نظراً لندرة النساء في هذه التخصصات الطبية، حتى لا نضطر إلى قاعدة الاستثناء" انتهى نقلاً عن (مجلة المجمع) (8/1/49).

واختلف الفقهاء في الخلوة فمنهم من رأى أن وجود رجلين أجنبيين ينفي الخلوة (بعض الحنفية)، والراجح عند الشافعية أن الخلوة تنتفي بوجود امرأة ثقة أخرى، بينما قال القفال الشاشي الشافعي أن الخلوة لا تنتفي بوجود امرأتين أجنبيتين (المريضة + الممرضة)، وتحرم خلوة امرأة برجلين إلا إذا كان أحدهما من محارمها. وعند الحنابلة أن الخلوة لا تنتفي بوجود امرأة أو أكثر مع الطبيب والمريضة كما لا تنتفي بوجود أكثر من رجل مع الطبيب إلا إذا كان الرجل أحد محارمها.

وعلى الطبيب إذا باشر علاج امرأة أن يحتاط لنفسه ويطلب السلامة لدينه ويتقي الله ما استطاع؛ فقد جاء في الفتاوى الهندية: "امرأة أصابتها قرحة في موضع لا يحل للرجل أن ينظر إليه، لا يحل أن ينظر إليها، لكن يعلم امرأة تداويها، فإن لم يجدوا امرأة تداويها ولا امرأة تتعلم ذلك إذا علمت، وخيف عليها البلاء أو الوجع أو الهلاك فإنه يستر منها كل شيء إلا موضع تلك القرحة، ثم يداويها الرجل، ويغض بصره ما استطاع إلا عن ذلك الموضع".أ.هـ، فعلم بذلك أن الحرج في هذا الأمر شديد، وأنه لا يباح من ذلك إلا ما تدعو إليه ضرورة حفظ النفس.

وعليه فإن السعي في قصر الخدمة في مجال النساء والتوليد على النساء مطلب شرعي تتحقق به كثير من المصالح وتنتفي كثير من المفاسد عن الرجال والنساء معاً؛ فيجب تشجيع الطبيبات على الانخراط في هذا المجال والتفوق فيه؛ ولا يعني ذلك منع الرجال منه بل يكون منهم عدد؛ بحيث إذا دعت ضرورة أو حاجة إلى الاستعانة بهم حصل ذلك من غير عناء، والعلم عند الله تعالى.

عبد الحي يوسف

رئيس قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الخرطوم