ضمانُ الدَّرَك

منذ 2014-05-27
السؤال:

اشتريت بنايةً من شخص، وتعهد البائع بأنه لا يوجد أيُّ مشكلةٍ مترتبةٍ على البناية، وبعد مدةٍ تبين لي أن البناية فيها حقوقٌ لإخوة البائع، فهل لي الحق في استرجاع ثمنها؟ 

الإجابة:

أولاً: الصدق والأمانة والنصيحة من أعظم أخلاق التاجر المسلم، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التاجرُ الصدوقُ الأمينُ مع النبيين والصديقين والشهداء» (رواه الترمذي، وقال: حديث حسن). وعن رفاعة رضي الله عنه أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى، فرأى الناس يتبايعون، فقال: «يا معشر التجار، فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال: إن التجار يُبعثون يوم القيامة فجاراً إلا من اتقى الله وبرَّ وصدق» (رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح). فالصدق في البيع والشراء سببٌ لحصول البركة، وأما الكذب والغش والخيانة، فسببٌ لمحق البركة، فعن حكيم بن حزام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبيَّنا بُورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما مُحِقَ بركةُ بيعهما» (رواه البخاري ومسلم).

ثانياً: تعهد البائع بأنه لا يوجد أيُّ مشكلةٍ مترتبةٍ على البناية، يدخل تحت ما يسمَّى عند الفقهاء”ضمان الدَّرَك”وهو عند الحنفية: التزام تسليم الثمن عند استحقاق المبيع؛أي إذا ثبتت حقوقٌ لغير البائع في المبيع، ويعبر عنه الحنفية في الغالب بالكفالة بالدَّرَك. وعرفه الشافعية بأنه: أن يضمن شخصٌ لأحد العاقدين ما بذله للآخر إن خرج مقابله مُسْتَحَقَّاً أو معيباً أو ناقصاً لنقص الصَّنْجَة-قطعةٌ معدنيةٌ يُوزن بها-سواء أكان الثمنُ معيناً أم في الذمة. ويعبر عنه الحنابلة بضمان العُهْدَة. انظر الموسوعة الفقهية28/237، 311. وذهب المالكية والشافعية والحنابلة وصاحبا أبي حنفية إلى أن ضمان العُهْدَة في متعارف الناس هو نفسه ضمان الدَّرَك. وقال الشيخ مصطفى الزرقا: [ضمانُ الدَّرَك هو: التزامُ سلامة المبيع مما يمكن أن يلحقه ويدركه من حقوقٍ لغير البائع في عينه، وتَحَمُّلُ التَّبِعَةِ عند ظهور حقٍ فيه لأحد] بحث ضمان الدَّرَك د. الشندي ص13. وفي معجم لغة الفقهاء: [ضمان الدَّرَك: ضمان البائع تعويض المشتري عن فقدان الحقوق التي نقلها إليه بالبيع أو بعضها]. 

ثالثاً: ضمانُ الدَّرَك ليس خاصاً بالثمن كما قال الحنفية، بل الراجح أنه يشمل ما لو كان المبيع معيباً أو مُسْتَحَقَّاً لغير البائع أو ناقصاً، قال الشربيني: [ولا يختص ضمان الدَّرَك بالثمن، بل يجري في المبيع، فيضمنه للبائع، إذا خرج الثمن المُعيَّن مُستَحقََّاً، أو أخذ بشفعة سابقة، أو معيباً، أو ناقصاً، إما لرداءته، أو لنقصِ الصَّنْجَة] مغني المحتاج2/201. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ويصح ضمان عُهْدَة المبيع عن البائع للمشتري، وعن المشتري للبائع، فضمانه على المشتري هو أن يضمن الثمن الواجب بالبيع قبل تسليمه، وإن ظهر فيه عيبٌ أو استحق رجع بذلك على الضامن. وضمانه عن البائع للمشتري هو أن يضمن عن البائع الثمن متى خرج المبيع مُستَحَقََّاً أو رُدَّ بعيبٍ أو أرش العيب] المغني 5/74. وانظر بحث ضمان الدَّرَك د. الشندي ص 8-9.

رابعاً: قال جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم، يصح ضمان الدَّرَك؛ لأنه نوعٌ من الكفالة، وقد وردت الأدلة الشرعية على جوازها؛ فمن ذلك قوله تعالى: {قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} [سورة يوسف الآية 72]. والزعيم هو الكفيل. وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الزعيمُ غارمٌ» (رواه أبو داود والترمذي وأحمد، وصححه العلامة الألباني). وعن جابر رضي الله عنه قال: «مات رجلٌ فغسلناه وكفناه وحنطناه ووضعناه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث توضع الجنائز عند مقام جبريل، ثم آذنَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه، فجاء معنا فتخطى ثم قال: لعل على صاحبكم ديناً؟ قالوا: نعم ديناران. فتخلف قال: صلوا على صاحبكم. فقال له رجلٌ منا يقال له أبو قتادة: يا رسول الله هما عليَّ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هما عليك وفي مالك والميت منهما بريء. فقال: نعم فصلى عليه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقي أبا قتادة يقول: ما فعل الديناران؟ قال: قد قضيتهما يا رسول الله. قال الآن حين بردت عليه جلده» (رواه أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وحسَّنه العلامة الألباني). ومما يدل على جواز ضمان الدَّرَك أن الحاجة تدعو إليه. قال علي حيدر: [وقد شرعت الكفالة بالدَّرَك لتأمين حق المشتري في مراجعة البائع في ثمن المبيع] درر الحكام1/624.

خامساً: أخذ القانون المدني المطبق في بلادنا وفي الأردن بضمان الدَّرَك، فقد ورد في مجلة الأحكام العدلية المادة 616: [الكفالة بالدَّرَك: هي الكفالة بأداء ثمن المبيع وتسليمه أو بنفس البائع إن استحق المبيع].

وورد في القانون المدني الأردني:

[المادة 503/1: يضمن البائع سلامة المبيع من أي حقٍ للغير يعترض المشتري إذا كان سبب الاستحقاق سابقاً على عقد البيع. 2-ويضمن البائع أيضاً إذا استند الاستحقاق إلى سببٍ حادثٍ بعد البيع ناشئٍ عن فعله].

سادساً: من التطبيقات المعاصرة لضمان الدَّرَك في معاملات المصارف الإسلامية في المرابحة، طلب المصرف الإسلامي من الآمر بالشراء أن يكفلَ البائعَ صاحب البضاعة، كفالة حسن أداء، في حال أن الآمر بالشراء يريد شراء السلعة من جهةٍ خارج البلاد بعينها، وهو على معرفة بها، فيشترط عليه المصرف الإسلامي أن يتعهد بضمان البائع، فهذا الأمر لا حرج فيه، ورد في المعيار الشرعي للمرابحة من معايير هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ما يلي: [يجوز للمؤسسة أن تحصل من العميل الآمر بالشراء على كفالة حسن أداءِ البائع الأصلي لالتزاماته تجاه المؤسسة بصفته الشخصية، وليس بصفته آمراً بالشراء، ولا وكيلاً للمؤسسة، وعليه فلو لم يتم عقد المرابحة تظل كفالته قائمة. ولا تُطلب مثل هذه الكفالة إلا في الحالات التي يقترح فيها العميل بائعاً معيناً تشتري المؤسسة منه السلعة موضوع المرابحة. ويترتب على هذا الضمان تحمل العميل الضرر الواقع على المؤسسة نتيجة عدم مراعاة البائع لمواصفات السلعة وعدم الجدية في تنفيذ التزاماته، مما يؤدي إلى ضياع جهود المؤسسة وأموالها أو يترتب عليه الدخول في منازعات ومطالبات باهظة]. وبناءً على هذا المعيار فيجوز ضمان الآمر بالشراء لمورد السلعة المعين منه.

ورد في فتاوى هيئة الرقابة الشرعية لبنك دبي الإسلامي السؤال التالي: [هل يجوز شرعاً كفالة العميل للمُصَدِّر في البيع بالمرابحة؟ الجواب: بالنسبة للاعتمادات المستندية بالمرابحة، ولمعالجة حالات ظهور عيوبٍ أو قصورٍ في البضاعة أو الكمية وعدم إمكان الرجوع على البنك المراسل، وفي ظروف فقدان المعرفة المسبقة بالمصدر إلا عن طريق العميل، فإن في الفقه الإسلامي كما تساءلتم ما يجنب البنك الإسلامي من الوقوع في مثل هذا المأزق، وهو أن يطلب من العميل حين يرغب في شراء البضاعة التي سيقوم البنك بتملكها من مصدرٍ يختاره العميل، يطلب البنكُ من العميل أن يضمن حُسْنَ أداء المصدر بتوقيعه على كفالة بهذا الشأن، وهذه الكفالة تسمى"كفالة الدَّرَك"أي تَحَمُّل ما سيُدرك الطرفَ المكفول من أضرارٍ، وهى مما كان متعارفاً عليه ولا يزال بين التجار بكفالة من سينزل للتعامل في السوق. فإذا ترتبت عليه التزاماتٌ تنضم ذمة الكفيل إلى ذمة المكفول، والمكفول هنا المصدر، والكفيل هنا هو العميل، فإذا ظهر مثل المشار إليه من عيوبٍ أو قصورٍ في الكمية، أو أي خللٍ يؤثر على القيمة، كان أمام البنك جهتان أو ذمتان يمكنه الاستيفاء من إحداهما، ذمة المصدر، وذمة العميل الذي وقع على كفالةٍ بحسن أداءِ المُصَدِّر والتزامه ضمان ما يقع من خلل منه. وهذه الكفالة منفصلةٌ تماماً عن عملية المرابحة، من حيث الصلة التعاقدية، وإن كان نشوءها هو بسبب المرابحة، ومن المعلوم أن الكفالة تجتمع مع عقودٍ أخرى، لأنها توثيق لها، لكن الكفالة هنا ليست مرتبطةً بعقد المرابحة، لأنه لم يقع بعد، وإنما هي مرتبطةٌ بالرغبة والمواعدة التي تسبق المرابحة]. 

وورد في فتاوى الشبكة الفقهية [فلا حرج في طلب البنك أو غيره من الآمر بالشراء ضمان البائع الذي يعينه للبنك ليشتري السلعة منه. . . وهذا الضمان قبل نشوء المعاملة، وحيث إن الآمر هو الذي اختار المُصَدِّر على مسئوليته، فلا حرج في طلب كفالته إياه دفعاً لما قد يقع من ضرر على البنك أو غيره في حال النزول عند رغبة الآمر بالشراء، وهذا لا يترتب عليه كون الكفيل صار مالكاً للسلعة أوكيلاً لمالكها حتى يقع المحذور المذكور أو تقوى شبهةُ العينة، فالضمان هنا لحسن الأداء والوفاء بالالتزامات فحسب، وبالتالي فلا حرج فيه]. 

وخلاصة الأمر أن الصدق والأمانة والنصيحة من أعظم أخلاق التاجر المسلم، وأن الكذب والغش والخيانة في البيع سببٌ لمحق البركة، وأن ضمان الدَّرَك هو ضمان البائع تعويضَ المشتري عن فقدان الحقوق التي نقلها إليه بالبيع أو بعضها. وأن ضمان الدَّرَك ليس خاصاً بالثمن، بل الراجح أنه يشمل ما لو كان المبيع معيباً أو مُسْتَحَقَّاً لغير البائع أو ناقصاً، وقال جمهور الفقهاء بصحة ضمان الدَّرَك؛لأنه نوعٌ من الكفالة، وقد وردت الأدلة الشرعية على جوازها، وأن القانون المدني المطبق في بلادنا أخذ بضمان الدَّرَك، وأنه يجوز للمصارف الإسلامية الطلب من الآمر بالشراء في المرابحة أن يكفل البائع صاحب البضاعة كفالة حسن أداء، في حال أن الآمر بالشراء يريد شراء السلعة من جهة خارج البلاد بعينها، وهو على معرفة بها، وأنه يجوز لمشتري البناية المذكورة في السؤال استرجاع الثمن الذي دفعه بالإضافة لكل المصاريف المرافقة للبيع تطبيقاً لضمان الدَّرَك.

والله الهادي إلى سواء السبيل. 

حسام الدين عفانه

دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.