منع الزوج زوجته من الإنجاب
أبلغ من العُمر الخمسين، ولي من مطلَّقتي ابن وابنة، وقد تزوَّجتُ منذُ ثلاثِ سنواتٍ من ثيِّب، تبلُغ من العمر الأرْبعين، من أُسرة كريمة، ولها من مطلّقها ابنتان، والأولاد لا يعيشون معنا.
سافرتُ مع زوجتي إلى بلدٍ عربي للعمل، ولكن بعد سفرِنا أحسَّت زوْجتي بالوحدة والملل، خاصَّة وهى بعيدة عن بناتِها، فطلبتْ منِّي إنْجاب طفلٍ لحبِّها لي، ولتقْرِيب الأوْلاد بعضهِم لبعض، فوافقتُ لأنَّها بحاجةٍ شديدةٍ لهذا الطِّفْل الَّذي يربِط بيْني وبيْنها، فذهبْنا للطَّبيبة الَّتي قالتْ: إنَّه لا يوجد مانعٌ من الإنْجاب.
لكن بعد إخْبار أوْلادي بقرارِنا غضِبوا كثيرًا، وأهانوا زوْجَتي، واتَّهموها بأنَّها تريد الاستيلاءَ على أمْوالى، عكس بناتِها اللاَّتي فرِحْن كثيرًا بهذا القرار.
ومنذ ذلك اليوم وأنا وزوجتي في مشاكلَ كثيرة بِسبب غضَب أولادي، خاصَّة بعد رفضي لإنْجاب طفلٍ لإرْضاء أوْلادي، فهل أخطأْتُ في منْع زوجتي من الإنْجاب تلافيًا للمشاكل، ولكي أنعم بحياةٍ هادئة بدون إنجاب؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فقدْ أوْجب الشَّرع الحكيمُ على كلٍّ من الزَّوجين الصُّحْبة الجميلة، وكفَّ الأذى، وبذْل الإحْسان، وحسْن المعاملة، والمعروف من مثله لمثلها؛ قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228].
وعلى الزَّوجين أن يُسْعِد كلٌّ منهُما الآخر، ويحرص على إرضائِه في غير معصية الله، ومن ذلك حقُّ الإنجاب، الَّذي هو المقصود الأكبر في الزَّواج؛ كما قال -صلَّى الله عليْه وسلَّم-: « »؛ (رواهُ أحمد وأبو داود عن أنس بن مالك).
فلا يجوز للزَّوج منْع زوجتِه الإنجاب؛ فهو حقٌّ للمرأة كما أنَّه حقٌّ للرَّجُل، حتَّى نصَّ الأئمَّة على أنَّ الزَّوج لا يعْزِل عن الحرَّة إلا بإذْنِها، فإن أبت عليه، لم يعزل، وهو مذهب جُمهور العلماء من المالكيَّة، والشَّافعية، والحنابلة، وغيرهم.
قال صاحب "كشاف القناع": "ويَحرُم العزْلُ عنِ الحرَّة إلاَّ بإذنِها". اهـ.
وقال ابن قدامة في "المغني": "ولا يعزل عن زوجتِه الحرَّة إلا بإذْنِها.
قال القاضي: ظاهرُ كلام أحمد وجوب استِئْذان الزَّوجة في العزْل، ويحتمل أن يكون مستحبًّا؛ لأنَّ حقَّها في الوطْء دون الإنزال؛ بدليل أنَّه يخرج به من الفيئة والعنَّة، وللشافعية في ذلك وجهان.
والأول أوْلى؛ لما رُوِي عن عمر -رضي الله عنْه- قال: "نَهى رسول الله -صلَّى الله عليْه وسلَّم- أن يعزل عن الحرَّة إلا بإِذْنها"؛ (رواه الإمام أحمد في "المسند"، وابن ماجه)، ولأنَّ لها في الولد حقًّا، وعليْها في العزْل ضرر، فلم يجز إلا بإذنها".
ورُوِي عن ابنِ عبَّاس: تُسْتأمر الحرَّة في العزْل، ولا تُسْتأمر الجارية.
قال ابنُ عبدالبر في "التَّمهيد": "وقال الشَّافعي: وليْس له العزْل عن الحرَّة إلا بإذْنِها، وقد رُوِي في هذا الباب حديثٌ مرْفوع في إسنادِه ضعْف؛ ولكنَّ إجْماع الحجَّة على القول بمعناه يقضي بصحَّته". اهـ.
وأيْضًا: فإنَّ قطْع النَّسل بالكلِّيَّة لا يجوز؛ إلاَّ في حالة واحدة، وهي ما إذا أثبت الأطبَّاء الثِّقات أنَّ الحمل يعرِّض حياة الأم لخطر داهم.
أمَّا موقف أبنائك من ذلك؛ حرصًا منهم على ألاَّ يُشاركهم أحدٌ في ميراثهم، فلا يحلُّ لهم ذلك؛ فإنَّ للموت أجلاً لا يَعْلَم وقْتَه إلاَّ الله، ولا يدْري الإِنْسان هل سيكونُ وارثًا أوْ موْروثًا، فليتَّقِ هؤلاءِ الأبناءُ ربَّهم، فلا يجوز لهم إكْراه والدِهِم أو الضَّغط عليْه أو إحراجه للأمْر مظنون كهذا، وهو في علم الغيب؛ قال تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} [النساء: 7]، فإذا وُجِدت أسباب الإرْث، وتوفَّرت شروطُه، وانتفتْ موانعُه فإنَّه يثبت، ورزق الله ماضٍ، لا يَمنعه حرص حريص ولا منع مانع.
وعليْكَ أن تُحاول إقناعَهم بلطف، وأن تُبيِّن لهم أنَّهم يدْفعونك لما لا يَجوز، بِحرمان زوجتِك من حقِّها في الإنجاب، ويتعدَّوْن حدودَ الله بالتَّفكير بهذه الطَّريقة، وأنَّه يُخشى عليْهِم أن يَمكر اللهُ بهم -لا قدَّر الله- إن استمرُّوا على هذا الموقف؛ فإنَّ الله -تعالى- حكَمٌ عدْلٌ، أعْطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، ولجميع الأبْناء الحقُّ في ترِكة أبيهم، قلُّوا أو كثروا، زاد المال أو كثُر، ونظام المواريث في الإسلام له حِكَم جليلة، ومقاصد دقيقة، علِمَها مَن علِمها، وجهِلَها مَن جهلها، وعلى المسلم أن يسلِّم لأوامر الله - تعالى - وليخشَ عقابه، ولا يأمن مكره؛ قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].
فإنِ استجابوا فحَسَن، وإن كانَتِ الأُخْرى فتوكَّل على الله، ولا تحرِمْ زوجتَك حقَّها لضنِّ أبنائِك بِمالك على وارثٍ جديدٍ، يعلم الله مَنْ سيرثُ الآخَر،، والله أعلم.
خالد عبد المنعم الرفاعي
يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام
- التصنيف:
- المصدر: