المفاضلة بين الزواج عن حب والزواج التقليدي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
هل الزواجُ عن حب أنجح أو الزواج التقليدي؟ وما الأسباب؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبه ومن والاه، أما بعدُ:
فقد كان الزواجُ الإسلامي، أو الشرعي، أو ما يُسميه الشباب بالزواج التقليدي، أو زواج الصالونات، إلى آخر تلك القائمة من الأسماء، هو المعروف في العالمين العربي والإسلامي إلى أن ظهرَت المدرسةِ التغريبية، أو مدرسة الحداثة، التي نشأت في أوائل القرن الماضي، والتي شَنَّت حربًا لا هوادةَ فيها طالت ثوابتَ الدين، واللغة العربية، والقيم، والمبادئ، والعادات والتقاليد، والعِفَّة، ولم يكن لهم إلا مطلبٌ واحد، وهو ترك الإسلام، وهجر العربية، وإبطالُ حكم القرآن، ونزع الأعراف والمبادئ الشرقية والعربية الراقية، ومساواة الرجل بالمرأة في الميراث والحقوق والواجبات.
والحاصل أنَّ الحداثيِّين دَعَوا لاستبدال ديننا وقيمنا العربية الطاهرة بأعرافٍ وقيمٍ وزُبالات أفكار الغرب الكافر، فكان مع الأسف ما تراه وما تَسمَعُه من غزوٍ فكري مقيت، طال جميعَ نواحي الحياة، ومنها الأسرة والأحوال الشخصية، وقد تصدَّى لهم، وبيَّن جهلَهم، وفند زيفهم، وبيَّن عمالتَهم المفضوحة للغرب وحربَهم القذرة على الإسلام - جهابذةُ عصرهم، ومَن تَبِعَهم من حُماة العقيدة واللغة العربية، وكل من سار على طريقهم إلى يوم الناس هذا، من أمثالِ شيخ الأدباء مُصطفى صادق الرافعي، وأمير البيان شكيب أرسلان، وشيخ العربية محمود شاكر، والأستاذ محمد محمد حسين في كتابه "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر"، وكتاب "حصوننا مهددة من الداخل"، والأستاذ سيد قطب في ظلاله، ومحمد قطب في أكثرِ مصنفاته، والأستاذ أنور الجندي في كتابه "الصحافة والأقلام المسمومة"، وغيرهم كثير.
فمنذ ذلك الحين بدأ الترويجُ لما يسمى بالحبِّ قبل الزواج، أو الزواجُ عن حب، والصَّداقة بين الجنسين، كمقابل للزواج الشرعي، وبديلاً عنه يتناسب مع العهد الجديد – زعموا - حتى أفسدتِ العبادَ والبلادَ، وتعمدوا أولئك الأعداء أنْ يُخفوا عن العامة أن الزواجَ الشرعي أو التقليدي هو الأوفر حظًّاً، والأقرب للنجاح، وأنه لم يَزَلِ المسلمون في مشارقِ الأرض ومغاربِها يتزوجون بالطريقة الشرعية، وينجحون في حياتهم الزوجية، وأنْجبوا للأُمَّةِ أجيالاً لا تقارن بأجيال عصر السقوط والتبعية.
والعجيب أنَّ الغرب قد توصَّل من خلال الدِّراسات الميدانية إلى أنَّ "الزواج يحقق نجاحًا أكبرَ إذا لم يكن طرفاه قد وقعا في الحب قبلَ الزواج"، كما في دراسة سول جور دون أستاذ علم الاجتماع الفرنسي.
ووصل للنَّتيجة نفسها الأستاذ الدكتور إسماعيل عبدالباري عميد كلية الآداب جامعة الزقازيق بمصر، في دراسة ميدانية منشورة له ومنتشرة، أثبت فيها أنَّ: 75 % من الزواج عن حبٍّ قبلَه انتهى بالطلاق، وأن تلك النسبة تنزل لأقلَّ من 5% في الزيجات التقليدية؛ يعني: التي لم تكن عن حبٍّ سابق.
هذا؛ والحب قبل الزواج أيضًا فيه مَحاذيرُ كثيرة، تقضي عليه بالفشل في أغلب الأحيان:
أولاً: أنه يتنافى مع شَريعَتِنا، فهو مُحرَّم لا يَجوز من الأساس، وقد سبق أن أصدرنا فتاوى في بيان ذلك منها: "حكم الحب المحترم"،، "حكم الدردشة مع الجنس الآخر، "الحديث مع الفتيات بكلام غير فاحش"، "حكم الدين في علاقات الشباب بالفتياتِ".
ثانيًا: كونه قائمًا على العاطفة فقط، فيَعْمَى الطَّرفان عن رُؤية عيوبِ الآخر، حتى ينكشف المستورُ بعد الزواج، فيُفاجأ كلاهما أنَّه تزوَّج شخصًا آخر غيرَ الذي يعرفه، فالْمَساوئ والعيوب إنَّما تظهر بعد الزواج عندما يصطدما بالمشكلات الحياتية، فيتحطَّم الحبُّ الزائف مع أولِ بادرةٍ في الطريق؛ لأنَّهما ما تعودا المسؤوليةَ، والتضحية، والتنازلَ؛ إرضاءً للآخر، فتنجلي الصورةُ الحقيقية، ويتبخَّر رِفقُ ولِينُ وتفاني المحبَّيْنِ المصطنع، وتطفو المشكلاتُ على السطح، ويستيقن الطرفان أنَّهما خُدِعَا وتعجَّلا، ويَحلُّ الندمُ مَحلَّ الحب، فتكون النتيجة الحتمية هي الطلاق.
ثالثًا: غالبًا ما يكون الحبُّ قبلَ الزواج محفوفًا بالمحرمات، والمحاذير الشرعية والأخلاقية، من الخَلْوة، والنظر، واللَّمس، والكلام الخائن المليء بالحبِّ والإعجاب، والمثير للغرائز والشهوات، وقد يصل إلى ما هو أعظم من ذلك، كما هو مشاهد وواقع في كثير من البلاد الإسلامية.
رابعًا: فرارُ كثير من الشباب من الفتاة التي خدعوها دون زواجٍ؛ لانعدام الثقة بها، ولو تَمَّ الزواج، فلا ينسى خيانتها لربِّها وأهلها معه، حتى يصاب بالوَسْوَاس في تصرفاتِها، وإن تابت، ويُحدِّث نفسَه بأنَّها ذاتُ ماضٍ مُظلم مع غيره أيضًا، فلا يزال به حتى يتركَها أو تتركه.
خامسًا: وهو أعظمها وأخطرُها لمن كان له قلبٌ، وهو أنَّ المتحابَّيْنِ قبل الزواج عرَّضَا نَفْسَيْهما لمكرِ الله وعقابه، ولعلَّ هذا هو السر الخفي في عدم توفيقهما في الزواج إن تزوجَا وفشلهما، والسببُ الرئيسي أنَّها قامت على مَعصية الله وعلى علاقات آثمة، ولو بهدف الزَّواج، فالغاية النبيلة لا تُحِلُّ الوسيلةَ المحرَّمة إلاَّ عند غير المسلمين، ولذلك ترى العقابَ الربانيَّ العادل لأهلها بالمرصاد؛ كما قال الله - تعالى -: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}[طه: 124]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96]، ففساد الزواج نتيجةٌ لقلة التقوى وانعدامها، كما أن الحياة الطيبة ثَمَرة للإيمان والعمل الصالح؛ كما قال الله - تعالى -: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
قال الإمام ابنُ القيم في "إغاثة اللهفان" (1/38): "إنَّ مَن أحبَّ شيئًا سوى الله - تعالى - ولم تكن مَحبته له لله - تعالى - ولا لكونه معينًا له على طاعة الله - تعالى - عُذِّبَ به في الدنيا قبل يومِ القيامة، كما قيل:
أَنْتَ الْقَتِيلُ بِكُلِّ مَنْ أَحْبَبْتَهُ *** فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ فِي الْهَوَى مَنْ تَصْطَفِي
فإذا كان يوم المعاد ولّى الحَكَم العَدْل - سبحانه - كل محب ما كان يُحبه في الدنيا، فكان معه: إما منعمًا أو معذبًا، ولهذا يمثل لصاحب المال ماله شجاعًا أقرع يأخذ بلهزمتيه؛ يعني: شدقيه، يقول: أنا مالك أنا كنزك، ويصفح له صفائح من نار يكوي بها جبينه وجنبه وظهره، وكذلك عاشق الصور إذا اجتمع هو ومعشوقه على غير طاعة الله - تعالى - جَمع الله بينهما في النار، وعُذِّبَ كلٌّ منهما بصاحبه؛ قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].
إلى أنْ قال: والمقصود: أنَّ من أحب شيئًا سوى الله - عزَّ وجلَّ - فالضرر حاصل له بمحبوبه: إن وَجَده، وإن فَقَده، فإنه إن فقده عذب بفواته، وتألم على قدر تعلق قلبه به، وإن وجده، كان ما يحصل له من الألم قبل حصوله ومن النكد في حال حصوله، ومن الحسرة عليه بعد فوته - أضعاف أضعاف ما في حصوله له من اللذة:
فَمَا فِي الْأَرْضِ أَشْقَى مِنْ مُحِبٍّ *** وَإِنْ وَجَدَ الْهَوَى حُلْوَ الْمَذَاقِ
تَرَاهُ بَاكِيًا فِي كُلِّ حَالٍ *** مَخَافَةَ فُرْقَةٍ أَوْ لِاشْتِيَاقِ
فَيَبْكِي إِنْ نَأَوْا شَوْقًا إِلَيْهِمْ *** وَيَبْكِي إِنْ دَنَوْا حَذَرَ الْفِرَاقِ
فَتَسْخَنُ عَيْنُهُ عِنْدَ التَّلاَقِي *** وَتَسْخَنُ عَيْنُهُ عِنْدَ الْفِرَاقِ
وقال في "الوابل الصيب" (ص 15): "وقد قضى الله - تعالى - قضاءً لا يرد ولا يدفع: أنَّ مَن أحب شيئًا سواه، عُذِّب به، ولا بد أنَّ من خاف غيره، سُلِّطَ عليه، وأن من اشتغل بشيء غيره، كان شُؤمًا عليه، ومن آثر غيره عليه، لم يبارك فيه، ومن أرضى غيره بسخطه، أسخطه عليه ولا بد". اهـ.
والحاصل أنَّ الحب بعد الزواج قائمٌ على التجربة والمعاشرة والمودة والرحمة، التي يجعلها الله بين الزوجين تفضلاً منه - سبحانه - وتزداد مع الأيام، فتملأ البيت دفأً وسرورًا ينعم فيه الأبناء، وإن اعتراها منغصات، فلا تعصف بالبيت ما دام الكل يؤدي ما عليه، ويتقي الله في الآخر.
قال الله - تعالى -: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 109].
ولعل بهذا البيان قد تبين أنه لا وجه للمقارنة بين الزواجُ عن حب والزواج الشرعي (التقليدي)، إلا كالمقارنة بين الحرام والحلال.
خالد عبد المنعم الرفاعي
يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام
- التصنيف:
- المصدر: