كيف السبيل إلى نصرته صلى الله عليه وسلم؟
إن تمادي وسائل الإعلام الغربية في الإساءة للرسول الكريم، والتطاول على عرضه الشريف يُلقي على عاتق كل مسلم ومسلمة واجب نصرته، غير أن النصرة المطلوبة تتخطى حدود الانفعال والهياج العابر صوب التأسيس لمبادرات جادة تضع الحياة المحمدية في صلب الانشغال الفكري والتربوي والإعلامي.
دلت الأحداث التي صاحبت ظهور الفيلم المسيء للرسول صلى الله عليه وسلم على أننا أمام غرب متحضر في حدود ما تسمح به صليبيته، وأن العداء لديانة التوحيد وخاتم الأنبياء لا يندرج ضمن قائمة الحريات الفردية، كما يوهم بذلك الإعلام الغربي، بل هو انعكاس للوضع الشاذ الذي يعيشه المجتمع الغربي على مستوى القيم والأخلاق الموجهة لسلوك الأفراد.
كما دلت على أن الأمة الإسلامية لا زالت ترابط عند حدود الانفعال، غافلة عن حقيقة رسالتها الحضارية، وما تفرضه الخيرية والاصطفاء من تكاليف وأعباء. وهذا التقصير الذي تئن الأمة اليوم تحت وطأته يُحيلنا على ما يعانيه العقل المسلم من تصدعات ورضوض وسيادة للنظرة الجزئية، التي تحد من الإدراك الواعي لصميم المشكلة.
لقد تابعنا عبر الإعلام كيف انحرفت صيغ التعبير عن نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومظاهر الولاء للدين الحنيف عن مقصدها الأسمى، وهالتنا شحنة الغضب المدمرة التي أساءت للإسلام بدل أن تحقق له مكسبًا نوعيًا في ثباته الحاد أمام مخططات إنهاك العقائد واستبدال القيم.
وإذا كنا نحمد لمثل هذه التظاهرات إعلانها عن صدق التمسك بثوابت الدين، وتعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم، مما يغيظ الأعداء ويردهم خائبين، إلا أن روح الثأر ونزعة التخريب تُمعن في تشويه الحقيقة الإسلامية، وتُمكن الإعلام الغربي من تثبيت قراءاته المضللة في أذهان غير المسلمين، وتحميل الدين وزر سلوكيات وردود أفعال متشنجة وغير مدروسة.
إن الدفاع عن النبوة ودرء الشبهات التي يُلحقها الإعلام الغربي بشخص الرسول الكريم هو من البداهة بحيث لا يحتاج معه مسلم إلى حشد الأدلة والنصوص المؤيدة، لكن السؤال الذي يفرض نفسه بحدة كلما تطاولت جهة حاقدة على خاتم الأنبياء هو: كيف السبيل إلى نصرته؟ وهل يكمن الحل في الصراخ والوعيد والدعوة لمقاطعة المنتجات، أم أن الأمر يستدعي مواجهة حضارية تملك من التصورات والأدوات ما يؤهلها لاستعادة الموقع الريادي لأمة الإسلام؟
إن أول شروط النصرة الحقة هو تفعيل قانون التغيير الذاتي الذي حدده القرآن بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]. وهو: "تغيير لا يقف عند حدود الوثبة الروحية، وصحوة الوجدان، بل يمتد إلى سائر مكونات الذات المسلمة، فهو يمنح الإرادة البشرية المؤمنة فرصتها في صياغة المصير، في التشبث به واستعادته إذا ما أفلت من بين يديها، ومن ثم فإنه ما إن تتهيأ هذه الإرادة للعمل عن طريق الشحذ النفسي، والاستعداد الروحي والعقلي والأخلاقي والجسدي -كذلك- حتى تكون قادرة على مواجهة التحديات من أي نوع كانت، وبأي درجة جاءت، فتعجنها وتصوغها من جديد لصالح الإنسان، وهكذا يعود الإنسان -في المنظور الإسلامي- لينتصر على التحديات، وليستعيد قدرته الأبدية على التجدد والتطور والإبداع" (1).
ويقتضي الشرط الثاني إعادة التفكير في موقع السيرة النبوية ضمن المناهج التربوية، ذلك أن النصرة الجادة تفترض الإلمام الواسع بالحياة المحمدية، ورصد وقائعها وأحداثها، لا من منظور تاريخي فحسب، بل من منظور حركي ممتد في الزمان والمكان، كما أن من مقتضيات النصرة كذلك حفز الاهتمام بالنماذج المشرقة التي يحفل بها التاريخ الإسلامي، والتي يُسهم عطاؤها وتضحياتها في تغذية الوجدان والسلوك برؤى ومواقف إيجابية.
أما الشرط الأخير لتحقيق نصرة فعالة فرهين بإدارة المعركة الإعلامية بجدية واقتدار، والتركيز على تنويع الصيغ الدعوية، فعالمية الرسالة تفرض عالمية الخطاب والتخطيط السليم من لدن القائمين على الإعلام في العالم الإسلامي، كما تفرض تبني إستراتيجيات فعالة لمواجهة الحملات المغرضة وإزالة الشبهات، وتمكين المسلم المعاصر من الزاد الفكري والمعرفي الذي يُجنبه الاضطراب العقدي والانحياز للأطروحات المضللة.
إن تمادي وسائل الإعلام الغربية في الإساءة للرسول الكريم، والتطاول على عرضه الشريف يُلقي على عاتق كل مسلم ومسلمة واجب نصرته، غير أن النصرة المطلوبة تتخطى حدود الانفعال والهياج العابر صوب التأسيس لمبادرات جادة تضع الحياة المحمدية في صلب الانشغال الفكري والتربوي والإعلامي.
يقول الشيخ محمد الغزالي: "إن المسلمين يعرفون الآن عن السيرة قشورًا خفيفة لا تحرك القلوب ولا تستثير الهمم، وهم يُعظمون النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته عن تقليد موروث ومعرفة قليلة، ويكتفون من هذا التعظيم بإجلال اللسان، أو بما قلت مؤنته من عمل، ومعرفة السيرة على هذا النحو التافه تساوي الجهل بها، إنه من الظلم للحقيقة الكبيرة أن تتحول إلى أسطورة خارقة، ومن الظلم لفطرة نابضة بالحياة والقوة أن تُعرض في أكفان الموتى" (2).
حميد بن خبيش
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1): عماد الدين خليل: حول تشكيل العقل المسلم. سلسلة قضايا الفكر الإسلامي ع: 6 -1981- ص 164.
(2): محمد الغزالي: فقه السيرة النبوية. دار الشروق. ط 2 - 1424 هـ ص: 5.
- التصنيف:
- المصدر: