ولماذا تُقطع أيديكم؟! ردًّا على الأسواني
منذ 2012-11-23
آثرت أن أبدأ المقال بهذا السؤال الاستفهامي الخاص بافتراض عجيب افترضه الدكتور علاء الأسواني في عنوان مقاله المنشور اليوم بجريدة (المصري اليوم)..
آثرت أن أبدأ المقال بهذا السؤال الاستفهامي الخاص بافتراض عجيب افترضه الدكتور علاء الأسواني في عنوان مقاله المنشور اليوم بجريدة (المصري اليوم).
لقد عنون الدكتور علاء مقاله بجملة غريبة قال فيها: "قبل أن تقطعوا أيدينا"!
ولم أفهم من المقال بعدها -صراحة- ما المطلوب أن نفعله قبل ذلك؟! لكن الأهم في رأيي وما لم ألتقطه كذلك هو ما هية السبب الذي افترض الدكتور لأجله أن هناك مَن يريد قطع يديه؟!
فمعلوم أن قطع الأيدي عقوبة شرعية خاصة بمن سرق مالاً أو متاعًا، وأعيذك بالله -يا دكتور- أن تكون من السراق! فلا أدري لماذا وضعت نفسك في ذلك الموضع الافتراضي غير المبرر؟!
والحقيقة أنني كنت في حالة نفسية بعد أحداث غزة وحادث أسيوط الأليم دفعتني إلى التوقف قليلاً عن سلسلة مقالات كنتُ قد شرعت فيها؛ ردًّا على بعض الشبهات التي يكثر تداولها اليوم حول الشريعة وتطبيقها، وكنتُ أظن عملاً بقواعد اللياقة المعروفة التي تقتضي بعض التهدئة أن البعض سيؤثرون تأجيل تلك المعارك لوهلة، ريثما تخرج البلاد من تلك الظروف الأليمة داخليًّا وخارجيًّا، لكن يبدو للأسف أن أولئك البعض -ومنهم الدكتور الأسواني- يأبون إلا النزاع.
لا بأس إذًا.. أجد نفسي مضطرًّا للرد بعد انتشار المقال، واعتبار البعض أن ما ذكره الدكتور يعد شبهات تشغب على فهمهم المستقر للشريعة، ولعلها فرصة طيبة لتعريف الناس ببعض القواعد الشرعية والأحكام الفقهية التي ربما تغيب عن كثير منهم في زحمة الحياة، وقلة وقت القراءة، وسأعدُّ ذلك مقامًا هو من الأهمية بمكان لتوضيح بعض الأصول العامة التي بدأ بها الدكتور، والفروع التفصيلية التي جعلها أمثلة؛ ظنًّا منه أنها تعضد وجهة نظره التي تفرق بين معنى الشريعة، ومعنى الأحكام الفقهية؛ وتزعم أن تلك الأخيرة بمجملها مجرد اجتهادات بشرية لا تصلح لزماننا.
المشكلة الرئيسة دائمًا أن مَن يشن هجومًا غالبًا ما تكون مهمته أسهل؛ فالشبهة لا تحتاج إلا إلى جملة أو أقل لتُطرح، بينما يحتاج الرد عليها لتفصيل أمين؛ ومِن ثَمَّ تصعب المهمة على الرادِّ؛ لا لصعوبة الشبهات، ولكن لكثرتها؛ ما يؤدى لطول المقال، وجلُّ الناس -للأسف- لا يصبرون على القراءة المطولة، والردود العلمية، وتستهويهم أكثر الهجمات المثيرة التي يجيدها الأستاذ علاء ويُكثر منها، بينما كان الأولى به إن أراد النقاش العلمي أن يطرح مسألة موضوعية، وتناقش تلك المسألة بهدوء، لكن ما دام قد فعل فسأكتب ردًّا تفصيليًّا متكاملاً، وربما بعد ذلك أعيد نشره مُجزءًا، ومَن شاء أن يطلع فليفعل، ومَن لم يشأ فعليه أن يعلم أن الرد موجود، وليرجع إليه متى تيسر له.
لقد بدأ الدكتور علاء الأسواني بضربة استباقية معتادة بطريقة مألوفة؛ وهي الطريقة الترهيبية التي يظن منتهجوها أنها تقطع الطريق على المخالف خوفًا من أن يقع في تهمة التكفير، التي تصدر بها تلك الطريقة دائمًا كما فعل الدكتور بسؤاله الذي استفتح به: "هل أنت مسلم؟!" ملمحًا إلى التشكيك في إيمان مَن يطرح مثل تلك الأطروحات حول الشريعة، وتطبيقها، والحكم بها.
والحقيقة أن الآيات القرآنية تَكثر في هذا الشأن، وفيها هذا السؤال الواضح الذي يستنكر بوضوح على مَن يدعو لاستبدال حكم الله وشرعه بغيره: "أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون".
ما المفترض أن يُفهم من مقالات كاملة تدبج في شأن واحد؛ وهو عدم صلاحية الشريعة، وأحكامها لكل زمان؟!
ما الذي يتصوره القارئ حينما يظل الدكتور -وغيره- طوال أسطر مقاله يطرح نماذجَ من الشريعة في إطار عدم مناسبتها واستحالة أو خطورة تطبيقها، ثم يختم مقاله بجملته الدائمة: "الديموقراطية هي الحل؟".
هل مفترض أن نفهم من تلك المقابلة أن الدكتور يدعو لتطبيق الشريعة مثلاً، أو أنه يقبلها ويوافق عليها، أم أنه يفضِّل حكم الشعب لنفسه بنفسه عن حكم الله، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}؟! [المادة:50]. أترك له هو الإجابة عن هذا السؤال بجملة من مقاله أعجبتني كثيرًا في الحقيقة؛ وهي قوله: "أي مسلم قطعًا يحب أن تطبق شريعة الإسلام" هكذا بلفظه، وأنا أشكره جدًّا على هذه الجملة فقد قصرت عليَّ طريقًا طويلاً.
الرجل مُعترف إذًا أن المسلم لا يسعه إلا أن يحب الشريعة؛ لكن المشكلة في رأيه أننا لا نفهم معنى كلمة الشريعة؛ ومِن ثَم يقرر أن يطرح لنا رأيه في معنى تلك الكلمة الربانية، والاصطلاح القرآني المحكم.
لقد عرَّف الدكتور علاء الشريعة بقوله: "إنها المبادئ الثابتة التي أنزلها الله، وهي تختلف في رأيه عن الأحكام التي هي -على حد قوله- من صنع الفقهاء، ولا تعدو كونها مجرد اجتهاد بشري!".
والحقيقة أنني بحثت جاهدًا عن أحد أهل العلم المتخصصين ممن سبقه بهذا التفريق أو التعريف، أو حتى بتعريف قريب منه أو يشبهه؛ فلم أجد.. ولقد كنت أبحث من باب الأمانة، وإلا فأنا أعلم علم اليقين أن هذا ليس تعريفًا علميًّا للشريعة، وإنما هو محض رأي من الدكتور علاء، ولو أن الشريعة كانت مجرد نظرية، أو فكرة، أو فلسفة أرضية؛ لربما قبل من الدكتور علاء أو مِن غيره أن يفسِّرها كما يشاء، ولربما وقف له أربابُ تلك الفلسفات الوضعية -حينئذٍ- معارضين أو مخالفين، وكل ذلك قد يُقبل في إطار الاجتهاد البشري العادي، لكن المشكلة أن الدكتور لم يلحظ -على ما يبدو- أن الشريعة مصطلح قرآني، ومنهج رباني طالما ذُكر في كتاب الله بلفظه، ومشتقاته، ومن خلال كلام الله يتبين معناها الاصطلاحي والشرعي، كما في قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:13].
ففرَّق ها هنا بين الوصية والوحي، وبيَّن أن ما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو من الشريعة، وأنها هي المنهج المتكامل والطريق والنظام الذي أوصى الله رسولَه وأمته باتباعه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ . إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية:18،19].
ولقد بيَّن الحق جل وعلا بوضوح وجلاء أن هذه الشريعة تختلف من أمة إلى أخرى، بخلاف العقيدة التي تتحد ولا تتباين؛ فقال: {..لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً..} [المائدة:48]. مِن ذلك وغيره مما يطول به المقام يتضح أن الشريعة كلمة توقيفية، وأنها نص قرآني ليس خاضعًا لآراء الرجال، وإنما هي علم ومنهج، وأعتقد أن الزميل الدكتور علاء -وهو بقدر الله زميل مهنة- يعلم جيدًا أن العلم يرجع فيه إلى أهله، وأننا كأطباء أسنان -على سبيل المثال- لا نملك أن نعرِّف التسوس بخلاف ما عرَّفه علماء مهنتنا، أو أن نخوض في تكوين طبقات الأسنان والأضراس على هوانا، دون الرجوع للأصول العلمية التي تعلمناها في كليات طب الأسنان؟! أوليس ذلك في حق الشرع المنزل من لدن حكيم خبير أولى بذلك؟!
من هذا المنطلق.. أتعجب من تعريف الدكتور علاء الذي لا يحمل أصلاً لغويًّا، أو دليلاً شرعيًّا يستند إليه، بخلاف تعريفات أهل العلم لكلمة الشريعة، والتي استمدوها من النصوص الشرعية، والأصول اللغوية المعروفة لكل طالب علم، ولو بحث الدكتور علاء سنين عمر سيدنا نوح عليه السلام لما وجد من العلماء أو المفسرين مَن عرَّفها بمثل تعريفه أنها المبادئ الثابتة.
التعريف الأشهر والأعم للشريعة هـو: "كل ما سنَّه الله تعالى لعباده من أمر أو نهي". وفي الموسوعة الفقهية: "أنها تطلق عند العلماء في الأصل على ما سنَّه الله تعالى لعباده من أحكام عقائدية أو عملية أو خلقية"، ثم ذكرت الموسوعة: "أنه شاع إطلاقها في العصر الحديث على ما شرعه الله من أحكام عملية، وأن مستند هذا العرف المعاصر قوله تعالى: {..لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا..}، إذ من المعلوم أن اختلاف شرائع الأنبياء إنما هو في الأمور العملية الفرعية، وأما الأحكام الأصلية فهي واحدة في كل الشرائع السماوية؛ ولذا أخرج البعض العقيدة من لفظ الشريعة، وجعلوها خاصة بتفصيلات العبادة والمعاملة".
المهم أنها في النهاية تشمل الجزء العملي من التكليف للمسلم؛ وبذلك يتبين أنها لا يمكن أن تفرق عن الأحكام، وخصوصًا تلك النوعية من الأحكام التي ضرب الكاتب بها مثالاً عجيبًا في عنوان مقاله المشير لحد السرقة، فحد السرقة -بالذات- ومثله الزنا والحرابة، والقصاص من الأحكام التي وردت في كتاب الله بتصريح، وليست -كما زعم الدكتور- من اجتهادات الفقهاء القديمة.
ولو تم إخراج الأحكام من التشريع، فكيف يكون الاختلاف بين الشرائع الذي أشرت إليه آنفًا في قول الله: {..لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا..}؟ والمعلوم أن المعاني العامة التي ذكرها الدكتور من حق وعدل وخير تتفق عليها كلُّ الرسالات، بل كيف سيطلب من النبي -كما في سورة المائدة- أن يحكم بين الناس بما أنزل الله، وألا يتبع أهواءهم، وأن يحذرهم أن يفتنوه عن بعض -مجرد بعض- ما أنزل الله إليه؟!
أما من حيث الثوابت والمتغيرات التي أشار إليها الدكتور في طيات كلامه؛ فلا شك أن داخل مصطلح الشريعة يأتي الأمران ويوجد القسمان، بل حتى تجد في الشق الخاص بالثوابت القطعية مساحة رائعة من المرونة؛ تتمثل في أحكام الاضطرار، والإكراه، وعموم البلوى؛ وهي أمور قد تصل أحيانًا إلى جواز أكل الميتة ولحم الخنزير، وهما محرمان قطعا واتفاقًا كما هو معلوم.
ولذلك فالفرضية المستمرة أن أحكام الشريعة لا تصلح لكل زمان ومكان -كما تكرر وتقرر في كلام الدكتور علاء وغيره- هي فرضية تشي بأن صاحبها يغفل هذا الجانب الرائع من الشريعة، وهو التيسير، ورفع الحرج، ويتغاضى عن تلك القواعد التي مآلها أنه حيثما كانت المصلحة فثمَّ شرعُ الله، ومقصدها الحفاظ على المقاصد العليا للشريعة من: حفظ للدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسل.
للأسف قد أغفل الدكتور علاء في مقاله الذي بناه على نقد المادة المفسِرة لمبادئ الشرعية الجزئية الخاصة بمصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة وهي: (الكتاب والسنة والإجماع والقياس).
قال الإمام الشافعي رحمه الله: "وليس لأحد أبدًا أن يقول في شيء: حَلَّ ولا حَرُم إلا من جهة العلم، وجهة العلم: الخبر في الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس" انتهى، الرسالة (39).
والبعض أضاف الاستحسان والاستصحاب وسد الذرائع والمصالح المرسلة والعرف..
ولإغفال الدكتور هذا التفصيل؛ بدا لمن يقرأ المقال أنها أمور جامدة لا تراعي زمانًا ولا ظروفًا ولا أحوالاً متغايرة، وكعادة الكثيرين يقع الدكتور في رجم بالغيب، ويتهم نية الإخوان والسلفيين -زاعمًا- أنهم يريدون فرض نموذج بعينه لأحكام فقهية قديمة، دون أن يعضد اتهامه لهذا الأمر الذي لا يطلع عليه إلا الله بدليل دامغ يفيد تلك الإرادة التي تتضافر الملابسات على نفيها؛ بدءًا بمطلب مرجعية الأزهر، ثم تلك المادة المفسِرة نفسها التي رغم اختلافي مع صياغتها؛ إلا أنها تنسف تلك الأمثلة التي بنى عليها مقاله نسفًا وبجملة واحدة ألا وهي: "مصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة" تلك المصادر التي أوضحتُها آنفا.
لقد بنى الدكتور علاء مقاله على اتهام للنية، أتبعه بإلزام مَن اتهمهم بمصنف بعينه قاطعًا الطريق على من يرفض هذا الإلزام بقوله: "لا يملك أحد من الإخوان والسلفيين أن يجرح في كتاب فقه السنة للشيخ سيد سابق رحمة الله عليه"، وكأن ضد القبول المطلق الذي يوحي به كلامه؛ هو التجريح، أو الطعن! أيُّ منطق هذا؟!
كتاب فقه السنة ليس تلمودًا مقدسًا لدى الإسلاميين، وهو -مع احترامي لمؤلفه طيب الله ثراه- في النهاية أحد الكتب التي تعج بها المكتبة الإسلامية العامرة، ونقده أو الاختلاف مع بعض ما فيه أمر مشروع، عليه وعلى غيره من الكتب؛ عدا كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه؛ ولا يُعد ذلك تجريحًا أو انتقاصًا، وإنما يُعد منهجًا علميًّا معروفًا.
لقد تلقى عوام المسلمين هذا الكتاب بالقبول لبساطة أسلوبه ويسره؛ ولعل ذلك دلالة على إخلاص مصنفه رحمه الله، لكنه في النهاية غير مُلزم لأحد، ولا يحصر تلك الجملة الواردة في المادة المذكورة "مصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة"، تلك الجملة التي تفتح المجال بسعة أمام المشرِّع للاختيار المناسب من بين مذاهب أهل السنة ومصادرهم المعتبرة، التي لا تكاد تخلو شبهة مما أوردها الكاتب بعد ذلك من قولٍ لأحد تلك المذاهب يخالف ما أثبته من اختيار الشيخ سيد سابق في كتابه.
وهذا ما فعله الدكتور (صوفي أبو طالب) رئيس مجلس الشعب الأسبق، حين قام في الجلسة الختامية للبرلمان عام 1982م ليعلن إنجاز تقنين للشريعة الإسلامية؛ فأعاد كل مواد القوانين إلى الأصول الإسلامية، وأشار إلى المصادر الفقهية التي استند إليها هذا التقنين؛ فأخرج الشريعة الإسلامية بمذاهبها الفقهية المعتبرة -منتقيًا الرأي المناسب من تلك المذاهب- في صورة تقنين حديث، تقوم فيه (الأصالة) بتحقيق المصالح المعاصرة؛ وذلك بالاستعانة بفريق متميز من علماء الشرع والقانون، تضافروا لتلك المحاولة الرائعة، ولإنجاز هذا المشروع الكبير.
فلذلك سأفند الشبهات الخمس التي أوردها الدكتور علاء في مقاله من خلال هذه القاعدة في المادة المفسِرة؛ وهي وجود قول في مذهب معتبر أو مصدر معلوم من مصادر التشريع يخالف ما زعم الدكتور علاء أن الإخوان والسلفيين يريدون فرضه على الناس.
ورغم أن قواعد الترجيح ليست بهذه البساطة، ورغم تأكيدي أنني أرى المادة غير كافية وأن هناك صيغًا أولى، إلا أنها على قصورها -في رأيي- كافية للرد على ما أورده الدكتور؛ لذلك سأستعملها تجوزًا، ومن منطلق الواقع الذي لا يريد الدكتور الاعتراف به؛ وإلا فقد يكون الراجح علميًّا تبعًا لقواعد الاستدلال خلاف ما سأذكره، وسواء عمل به أم لم يعمل؛ فأينما صحَّ الحديث فهو مذهبي؛ لكن فقط من باب النقاش العلمي، وإثبات نظريتي من أن الدكتور -للأسف- لم يكن أمينًا في نقله، ولا منصفًا في نقده.
بالنسبة للمسألة الأولى التي أوردها الدكتور؛ وهي قضية الشهادة، وهل تقبل شهادة غير المسلم على المسلم أم لا؟
طبعًا بغض النظر عن المثال الجدلي الذي ضربه الدكتور علاء حول سرقة صيدلية قبطي وكل الشهود أقباط فلا تقبل شهادتهم فيه؛ وذلك -في الحقيقة- أمر صعب في بلد مختلط لا يعيش فيه الأقباط وحدهم، لكن فلنعد إلى أصل المسألة.
نعم.. أغلب أقوال أهل العلم أنه لا تقبل شهادة غير المسلم على المسلم إلا في حالة الوصية لمن حضره الموت في السفر، بل نقل الإجماع على ذلك غيرُ واحدٍ من أهل العلم، وبالمناسبة هذه هي الحالة الوحيدة مما أورده الدكتور يمكنك أن تجد فيها إجماعًا.
لكن فلنأت هنا للتفصيل:
هل الشهادة هاهنا ضرورة أم ليست ضرورة؟
لقد ذكر الإمام القرطبي: "أنه لا مانع من اختلاف الحكم عند الضرورة، وأنه يجوز أن يكون الكافرُ ثقة عند المسلم، ويرتضيه عند الضرورة، وهذا يشير إلى أن جواز شهادة غير المسلم على المسلم إنما هو للضرورة، وفي حالة قيامها"، وقد نُقل عن ابن عباس ما يشير إلى ذلك أيضًا، وفيما نقل عن الإمام أحمد التصريح بأن جواز شهادة غير المسلمين على المسلمين هو ضرورة، وقد نقل الإمام ابن القيم عن شيخه الإمام ابن تيمية رحمهم الله أنه قال: "إن ما نقل عن الإمام أحمد من تقليل جواز هذه الشهادة، وقبولها للضرورة يدل على جوازها، وقبولها في كل ضرورة حضرًا وسفرًا؛ وأنه لو قيل: تقبل شهادتهم مع أيمانهم في كل شيء عُدِم فيه المسلمون؛ لكان له وجه، وتكون بدلاً مطلقًا".
وقال ابن القيم أيضًا: "إن القائلين بعدم جواز قبول شهادة غير المسلمين على المسلمين في أي مجال أو نطاق؛ لم يبنوا جميعهم آراءهم على أساس أن الشهادة من باب الولاية، وأنه لا ولاية لكافر على مسلم، وإنما بنى أكثرهم الرأي على معانٍ أخرى تتصل بالشروط، والمعاني التي اعتبروا توافرها أساسًا لقبول الشهادة، ولا نريد بما ذكرنا أن نستبيح حكمًا أو نقرر رأيًا في الموضوع" (من كتاب الشهادات لابن القيم).
وبشيء قريب من هذا قال الشيخ رشيد رضا، وأيضًا ذهبت بعض المجامع الفقهية الحديثة إلى اعتبار ذلك حال الضرورة في المجتمعات المختلطة، وعملاً بمبدأ رفع الحرج، وإعادة الحقوق، والحاصل فعليًّا أن شهادات جامعية، ورسائل علمية تقبل فيها تلك الشهادات من غير المسلمين كما هو معلوم لدى الدكتور.
إذًا فبحسب الافتراض الجدلي الذي أورده الدكتور فهناك قولٌ: "بأنه يجوز للقاضي اعتبار تلك الشهادة للذمي إن قدر ذلك اضطرارًا؛ من باب حفظ الحقوق وحماية الخلق في المجتمع المسلم". المسألة الثانية التي أوردها الدكتور الأسواني نقلاً عن الشيخ سيد سابق: هي مسألة حد شارب الخمر من غير المسلمين.
والحقيقة أن التوفيق قد خان الدكتور علاء في ذلك المثال جدًّا، فهذه المسألة بالذات قول المذاهب الأربعة فيها مخالف لما أورده، بل إن مسألة إقامة الحدود عامة على الذمي مختلف فيها، عدا حد القذف، أما حد الخمر بالذات فالعلماء يصرحون بأنه شأن خاص لهم إن كان جائزًا في ملتهم، ففي حين اتفق الفقهاء على أنه لا تجوز المعاملة بالخمر والخنزير بين المسلمين مطلقا؛ لأنهما لا يعدان مالاً متقومًا عند المسلمين، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "«ألا إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة ، والخنزير والأصنام»" (صحيح مسلم:1581).
أقر الفقهاءُ المعاملة بالخمر والخنزير بين أهل الذمة بنحو شرب، أو بيع، أو هبة، أو مثلها بشرط عدم الإظهار، والإظهار -بالمناسبة- ممنوعٌ الآن في القانون الوضعي، وعلى الجميع ويعاقب عليه بتهمة الفعل الفاضح؛ رغم أن مصانع الخمر ترخص في بلادنا، وتفرض عليها الضرائب، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وهذا يكاد يكون محل اتفاق بين الفقهاء في الجملة ويستدل الحنفية لذلك بقولهم: "إن الخمر والخنزير مال متقوم في حقهم، كالخل والشاة للمسلمين؛ فيجوز بيعه بينهم".
وإذا أتلف الخمر والخنزير لمسلم فلا ضمان اتفاقًا؛ لعدم تقومهما كنوع من الأموال في حق المسلمين، وكذلك إتلافهما لأهل الذمة عند الشافعية والحنابلة؛ لأن ما لا يكون مضمونًا في حق المسلم لا يكون مضمونًا في حق غيره، لكن الحنفية صرحوا بضمان متلفهما لأهل الذمة؛ لأنهما مال متقوم في حقهم، وبهذا قال المالكية: "إذا لم يظهر الذمي الخمر والخنزير"، يقول السرخسي: "إن الغرض من عقد الذمة ليس ماليًّا، بل يستهدف من ورائه إلى هُدى الذمي إلى الإسلام بالمعروف كما أمرنا القرآن".
تخيل يا دكتور علاء في مذاهب أهل السنة ليس فقط لا يعاقب غيرُ المسلم على شرب الخمر، بل وبعض المذاهب كالأحناف والمالكية يوجب الضمان المالي على مَن أتلف شيئًا من خمور أهل الذمة؛ لأنها تعتبر عندهم مالاً، فأين هذا في كلامك الذي بدا منه أنه لا يوجد حتى خلاف في المسألة؟!
لقد خوَّفت الناس على السياحة، وصوَّرت لهم أن السياح سيُضربون بالسياط في بلادنا؛ رغم أن الجمهور على خلاف ما أوردتَ، ورغم أننا لا نحكم من منطلق المصالح المالية؛ فالله يقول: "وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله"، لكن حتى هذه فلتت منك للأسف يا دكتور.
أما المسألة الثالثة التي أوردها الدكتور علاء فهي مسألة: القذف إن كان المقذوف غير مسلم.
ولقد خلط الدكتور في كلامه بين السب وهو ما لا حَدَّ فيه، وبين القذف بالزنا وهذا فيه الحدُّ، وصَوَّرَ الأمر على أنه مباحٌ في الشريعة في حق الذميِّ؛ لأنه قد نصَّ بعضُ العلماء: "أن مَن شروط الحدِّ أن يكون المقذوف مسلمًا"،
والحقيقة أن الصحيح في شأن قذف أعراض غير المسلمين بالزنا أنه محرم، وقد نصَّ العلماء رحمهم الله على تعزير مَن فعل ذلك.
وليراجع إن شاء: المغني (9/48)، الفروع (6/108)، الإنصاف (10/203)، نصب الراية (4/173).
والتعزير معلومٌ أنه نوعٌ من أنواع العقوبة، ومسموح للحاكم أن يغلظها ليردع مرتكبها؛ فالأمر إذا ليس مباحًا كما صوَّره الدكتور؛ بل قد تصل فيه العقوبة إلى درجات أشد بكثير مما هو في القانون الوضعي الحالي.
أما بالنسبة للسبِّ -بخلاف الزنا- فهو على الراجح محرم، ولا يعدُّ ما ورد به النص سبًّا؛ لأنه اعتقاد لدى المسلم.
كذلك الذي اعتذر عنه الدكتور حين نقله لفظ كافر عن الأقباط، وهو لفظ وصفهم به القرآن، ولا أدرى أيعتذر الدكتور عن لفظ يعتقده باعتقاده في كتابه، أم أنها الأخرى التي أعيذه منها.
لقد تكلمنا مرارًا عن معنى الكفر، وكيف أننا كفار بعقيدتهم في ألوهية المسيح، وهم يروننا كذلك، ونحن كذلك نعتقد أن اعتقاد بنوة المسيح لله أو ألوهيته كفرًا، وذلك لا علاقة له بحسن المعاملة، والبر والإقساط، لكن للأسف لا حياة لمن تنادي.
وفقهاءُ المسلمين من جميع المذاهب صرَّحوا وأكدوا أن على المسلمين دفع الظلم عن أهل الذمة، والمحافظة عليهم؛ لأن المسلمين حين أعطوهم الذمة قد التزموا دفع الظلم عنهم، وهم صاروا به من أهل دار الإسلام، بل صرَّح بعضهم: "بأن ظلم الذمي أشد من ظلم المسلم إثمًا" (ذكر ذلك ابن عابدين في حاشيته).
والسبُّ المطلق والإهانة دون سبب نوعٌ من أنواع الظلم بلا شك، وهو خلاف البرِّ المأمور به، وقد أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن مَن يظلم معاهدًا أو ينتقصه فهو حجيجُه يوم القيامة، وتلك من صيغ التحريم، ويحمي الإسلام كذلك عِرض الذمي وكرامته، كما يحمي عِرض المسلم وكرامته، فلا يجوز لأحد أن يسبه أو يتهمه بالباطل، أو يشنع عليه بالكذب أو يغتابه، ويذكره بما يكره في نفسه أو نسبه أو خَلْقِه أو خُلُقه، أو غير ذلك مما يتعلق به، يقول الفقيه الأصولي (المالكي شهاب الدين القرافي) في كتاب (الفروق): "إن عقد الذمة يوجب لهم حقوقًا علينا؛ لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا –حمايتنا- وذمتنا وذمة الله تعالى، وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودين الإسلام، فمَن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة؛ فقد ضيَّع ذمة الله، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذمة دين الإسلام" (الفروق: ج3، ص 14، الفرق التاسع عشر والمائة).
وفي الدر المختار من كتب الحنفية: "يجب كف الأذى عن الذمي وتحرم غيبته كالمسلم".
ويعلق العلامة ابن عابدين على ذلك بقوله: "لأنه بعقد الذمة وجب له ما لنا؛ فإذا حرمت غيبة المسلم حرمت غيبته، بل قالوا: إن ظلم الذمي أشد" (الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه: ج 3، ص 244 – 246، ط. استانبول).
أما عن المسألة الرابعة التي أوردها الدكتور علاء؛ وهي مسألة الدية حال القتل الخطأ أو شبه العمد، وأزيده: (والعمد)، فهنا أيضًا أغفل الدكتور الخلافَ الذي في المسألة، وأوردها على أنها قولٌ واحدٌ لا نزاع فيه؛ وهو أن دية غير المسلم نصف دية المسلم، وكذلك دية المرأة نصف دية الرجل!
والحقيقة أن هذا ليس محل إجماع؛ فقد ذهب الأحناف إلى أن دية الذمي والكافر المستأمن والمسلم سواء؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:92]. حيث أطلق سبحانه وتعالى القول بالدية في جميع أنواع القتل من غير فصل؛ فدل على أن الواجب في الكل واحد.
وفي الفتاوى الكبرى لابن تيمية: أنه يفرق بين العمد والخطأ؛ فيجب في العمد مثل دية المسلم، فقد قال رحمه الله: "ولا يجوز قتل الذمي بغير حق وتجب الدية"، فالمسألة خلافية كما هو واضح؛ فلماذا يلزمنا الدكتور بقولٍ واحدٍ؟! ومَن قال: إن الدية هي ما تحدد قيمة الإنسان كما زعم؟!
وهل لاحظ الدكتور علاء قبل أن يخوِّف المصريين من العقوبات الدولية التي ادعى أنها تنتظر مصر حال تطبيق هذا المذهب -لو طبق أصلاً- أن هذه العقوبات لم تطل مصر لعقود ظلت التعويضات فيها -وإلى اليوم- بمبالغ تافهة لا تستحق أن تذكر، في حين أنه حتى هذا النصف الذي لا يرضيه يبلغ قيمة خمسين ناقة؛ أي: بما يوازي مليون جنيه مصري، إن احتسبنا سعر الناقة -في المتوسط- عشرين ألف جنيه، رغم أنني أكرر أن المسألة أصلاً خلافية، وقد يختار قول الأحناف، وتعدُّ القيمة مساوية؛ وهي ما يوازي ثمن مائة ناقة.
أين المواثيق الدولية من تلك التعويضات؟ وهل تلك المواثيق المزعومة هي ما سنأخذ منه ديننا؟
ولماذا لم يحذر الدكتور من تلك المواثيق وعقوباتها في مسألة المواريث؛ وهي محكمة قرآنية بأن للذكر مثل حظ الأنثيين؟
أما المسألة الأخيرة والمعتادة فهي مسألة عدم قتل المسلم بكافر قصاصًا:
والعجيب أن تلك هي المسألة الوحيدة التي اعترف الدكتور بأن فيها خلافًا؛ بقوله: "بعض الفقهاء خالفوا هذا الرأي"، ونسي أن يذكر: من أولئك الفقهاء؟ فلا بأس مِن أن أذكره بهم وهم: (الشعبي، والنخعي، وابن أبي ليلى وأبو حنيفة)، وأصحاب الرأي الذين ذهبوا إلى أن المسلم يُقتل بالذمي، لعموم النصوص الموجبة للقصاص من الكتاب والسنة، ولاستوائها في عصمة الدم المؤبدة، ولما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلمًا بمعاهد قال: « أنا أكرم من وفَّى بذمته» (رواه عبد الرزاق والبيهقي، ضعَّف البيهقي هذا الخبر كما في السنن ج ـ 8 ص 30، وانظر تعقيب ابن التركماني في (الجوهر النقي) حاشية السنن الكبرى، وانظر: المصنف ج ـ 10 ص 101).
وما روي أن عليًّا أُتي برجل من المسلمين قتل رجلاً من أهل الذمة، فقامت عليه البيِّنة فأمر بقتله، فجاء أخوه فقال: "إني قد عفوت"، قال: "فلعلهم هددوك وفرقوك"، قال: "لا، ولكن قتله لا يرد علَيَّ أخي، وعوَّضوا لي ورضيتُ". قال: "أنت أعلم"؛ من كانت له ذمتنا فدمه كدمنا، وديته كديتنا (أخرجه الطبراني، والبيهقي، السنن الكبرى ج ـ 8 ص 34).
وقد ورد عن عمر بن عبد العزيز: "أنه كتب إلى بعض أمرائه في مسلم قتل ذميًّا، فأمره أن يدفعه إلى وليه، فإن شاء قتله، وإن شاء عفا عنه.. فدُفِعَ إليه فضرب عنقه" (المصنف لعبد الرزاق ج ـ 10 ص 101، 102).
قالوا: "ولهذا يُقطع المسلم بسرقة مال الذمي، مع أن أمر المال أهون من النفس، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يُقتل مسلم بكافر» (صحيح ابن ماجة: 2170)، فالمراد بالكافر الحربي، وبذلك تتفق النصوص ولا تختلف (يراجع في ذلك ما كتبه الإمام الجصاص في كتابه: أحكام القرآن، ج ـ 1 باب قتل المسلم بالكافر ص 140 144 ط، استنابول طبعة مصورة في بيروت).
وهذا هو المذهب الذي اعتمدته الخلافة العثمانية ونفذته في أقاليمها المختلفة منذ عدة قرون، أما مالك والليث فقالا: "إذا قتل المسلم الذمي غيلة يُقتل به وإلا لم يُقتل به" (نيل الأوطار ج ـ 7 ص 154)، وهو الذي فعله أبَان بن عثمان حين كان أميرًا على المدينة، وقتل رجل مسلم رجلاً من القبط قتله غيلة فقتله به، وأبَان معدود من فقهاء المدينة (انظر: الجوهر النقي مع السنن الكبرى ج ـ 8 ص 34).
إن المجمع عليه أن المسلم الذي يقتل ذميًّا عمدًا مذنب ويعاقب، واختلفوا -كما بينتُ- في العقوبة، وقد أجمع العلماءُ على حرمة دماء الذمي، كما نقل ابن حزم في مراتب الإجماع: "اتفقوا أن دم الذمي الذي لم ينقض شيئًا من ذمته حرام".
ولماذا لم نسمع من الدكتور علاء اعتراضًا على عقوبة القتل في القانون الوضعي الحالي، وهي ليست دائمًا الإعدام، بل هناك المؤبد الذي هو في النهاية عقوبة وقد بينا أن العقوبة موجودة في الشرع، وما أحسن قول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: «ألا مَن قتل نفسًا معاهدة، له ذمة الله وذمة رسوله؛ فقد أخفر بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفًا» (رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني).
وغير ذلك من الأحاديث التي ترهب من تلك الجريمة وتبين خطورتها؛ فكيف إذًا يغفل الدكتور كلَّ ذلك، ويصوِّر الأمر أنه سيكون دمًا مستباحًا، بل سيؤدي إلى حرب أهلية، كما تلفظ للأسف الشديد في جرأة ألومه عليها، وكنت أتمنى ألا يخوض غمارها حرصًا على تماسك هذا الوطن الجريح الذي لا تنقصه مثل تلك الادعاءات.
ثم يختم الدكتور علاء مقاله كالمعتاد بإعادة التهمة التي ينقصها الدليل؛ وهي أن نية الإخوان والسلفيين أن تطبق هذه الأحكام التي ذكرها تحديدًا، وهذه إن لم يعضد -كما قلتُ- بالبينة فهي مجرد دعوى طائشة لا يصح أن تخرج منه.
وما لا يصح أكثر هو ما أتبع به ذلك من سبٍّ يفترض أن يعاقب عليه القانون؛ فينهى عن خلق ويأتي بمثله، واصفًا خصومه بالمتطرفين المتلهفين لقطع الأيدي والرجم والجلد، ولا أدري كيف سمح لنفسه بإهانة مخالفيه بهذه الطريقة؛ بينما حرص كل الحرص على الاعتذار للأقباط عما استعمله الشيخ سيد سابق من عبارات! اللطيف أنه ختم مقاله بكلمته المعتادة: "الديمقراطية هي الحل"، بينما هدد بوضوح قبلها بسطر واحد "بأنه لن يقبل، ولن يعترف بدستور يفترض أنه سيأتي باستفتاء بآلية ديمقراطية"، وذلك -لعمري- تناقضٌ مذهلٌ لأحد عرَّابي الديموقراطية التي يبدو أنها من عجوة.
أما عن ظلام الماضي الذي يتوعدنا الدكتور أنه لن يسمح لنا بالعودة إليه، محرضًا شركاء الوطن على مساندته في ذلك؛ فسأختم بتلك الكلمات من تلك العصور التي يراها الدكتور (مظلمة)، وهي للفقيه الأصولي المحقق (شهاب الدين القرافي) شارحًا بها معنى البر الذي أمر الله به المسلمين في شأن أهل الذمة؛ فذكر من ذلك: "الرفق بضعيفهم، وسد خلة فقيرهم، وإطعام جائعهم، وكساء عاريهم، ولين القول لهم -على سبيل اللطف لهم والرحمة، لا على سبيل الخوف والذلة- واحتمال إذايتهم في الجوار -مع القدرة على إزالته- لطفًا منا بهم، لا خوفًا ولا طمعًا، والدعاء لهم بالهداية، وأن يجعلوا من أهل السعادة، ونصيحتهم في جميع أمورهم، في دينهم ودنياهم، وحفظ غيبتهم إذا تعرَّض أحد لأذيتهم، وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم، وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يعانوا على دفع الظلم عنهم، وإيصالهم إلى جميع حقوقهم.. إلخ".
وقد أفردتُ لمثل تلك الكلمات والمواقف التي يراها الدكتور من ظلام الماضي كتيبًا كاملاً سميته: (صور من تسامح الإسلام) لعله يومًا يمسك به بيديه اللتين لم يقل أحدٌ أنهما ستقطعان، إنما ستقطع يد مَن يعتدي على ماله -وخاصة ما يملك-.
وإن كنتَ ترى يا دكتور أن مِن واجبك أن تمنعنا مِن تلك الدعوة لتطبيق شرع الله؛ فثق أننا ندين لله بوجوب تلك الدعوة والعمل والبذل لأجل تحقيقها، و{قل كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} [الإسراء:84].
المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
- التصنيف: