همسة في أذن شيخ
منذ 2005-05-19
13/2/1419هـ
إن كان للشباب قوة وفتوّة، فإن للشيوخ حكمة وثباتاً.. وإن كان للشباب عزم وإقدام، فإن للشيوخ خبرة وتجربة.. وما الشباب إلا ساحل بحر مؤدٍ إلى عمق الشيخوخة المليء بالدرر والكنوز النفيسة.. أفلا يستحق من بلغ هذا المبلغ، حتى أخذت جواهر الحكمة تتقلب بين يديه، وأصبحت رجاحة عقله تزن الجبال، أفلا يستحق منا همسة نذكّره فيها بنفاسة عمره، وغلاء جواهره؛ فإن كان غافلاً تَنَبّه، وإن كان منتبهًا، أيقظ غيره من سبات الغفلة لاستقلال ما بقي من سويعات عمره، ودقائق حياته.
فهاهي يا شيخنا الكريم: همسة في أذنك، أرجو أن تتقبّلها من أحد أولادك، لا يحمل بين جوانحه إلا الحب والتقدير لك، وكيف لا أكن لك التقدير وبالغ الاحترام وديني العظيم يأمرني بذلك، ورسول الأمة يوصيني بتوقيرك، يقول أَنَسُ ابْنُ مَالِكٍ: « جَاءَ شَيْخٌ يُرِيدُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَبْطَأَ الْقَوْمُ عَنْهُ أَنْ يُوَسِّعُوا لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنا » رواه
الترمذي.
فهنيئاً لك هذا التكريم، وهنيئاً لك ذلك التوقير من أفضل مخلوق عرفته البشرية صلى الله عليه وسلم. ولكن هل أحسست بمسؤولية تكريم الرسول صلى الله عليه وسلم لك؟ هل تظنه يأمر بتكريمك لطول عمرك فقط ، أو لضعف بنيتك فحسب؟ كلا، إنه يقدّر فيك شيخوختك في الإسلام، ويوقر فيك قِدَمك في العبادة..
فلسانك هذا قد سبق أمة من الناس إلى توحيد الله تعالى، وجوارحك تلك قد عرفت الله تعالى بالخضوع والتذلل قبل أن تذل له جوارح الملايين من الخلق، هل تظن أن ديننا يتناسى خبرتك في الحياة، وتجربتك معها؟ أم تظنه أنه يتجاهل ما بذلته من جهد وعطاء في تربية الأجيال ، وتنشئتهم على الصلاح؟ كيف يمكننا أن نقول مثل هذا والله من فوق سبع سموات يوصينا وصية مؤكدة، أن نصحب الكبير بالمعروف، ونتلطف معه في الحديث، وينهانا أن نضجر من ضعفه، فيقول جل من قائل عليماً: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } .
شيخنا الجليل، يا من جمّل الشيب عارضيه، وزادت العصا من هيبته ووقاره، ينبغي أن تتذكر في كل لحظة من لحظات حياتك نعمة الله عليك أن أمد في عمرك، وأمهلك في أجلك، حتى مكّنك من تدارك العمر في الطاعة، والرجوع إلى الله بعد التقصير في حقه، وإنك لتعلم أن للشباب هفوات وزلات، قد تتذكرها فتقلق فكرك، وتحزن نفسك، فانتبه أن تسيء الظن بخالقك، وقد آمنت بأنه غفور رحيم يقبل التوبة من عباده، فبادر نفسك بالتوبة النصوح، واملأ قلبك باليقين بأن الله قابل للتوب، غافر للذنب، فإن الله عز وجل يقول في الحديث القدسي: « أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ » رواه أحمد وأصله متفق عليه.
هذا شيخ كبير يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يَدَّعِمُ عَلَى عَصًا لَهُ، فَقَالَ:« أرأيت من عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئاً، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلا أتاها، فهل لذلك من توبة ؟
قال: فهل أسلمت؟ قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، قال :تفعل الخيرات، وتترك السيئات، فيجعلهن الله لك خيرات كلهن. قال وغدراتي وفجراتي؟ قال: نعم، قال :الله أكبر، فما زال يكبر حتى توارى » صححه الألباني.
هذا إن كنت قد أسرفت على نفسك في شبابك بالمعاصي، أما إذا كنت لا تذكر إلا خيراً، صلاةً وصياماً، وحجاً واستغفاراً، وشكراً وحسنَ خلق، فاحمد الله على ذلك، واطلبه المزيد من هذه الأعمال الصالحة، واسأله سبحانه أن يختم لك حياتك على ما تحب من الطاعات والقربات، فإنما الأعمال بالخواتيم، فإن الاستقامة في العمل، والتقوى في القلب، والاستمرار عليهما حتى الموت وصية من وصايا الخالق سبحانه، حيث يقول: { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ }.
إن البقاء على الإيمان سر الفلاح في الدنيا والآخرة، فماذا يبتغي المرء كبيراً كان أم شاباً غير أن يبلغه الله جنة عرضها السموات والأرض، وإنما هي سلعة غالية لمن قضى عمره في الطاعة وختم له فيها عليها.
ودعني أمتّع سمعك بهذه الواقعة الظريفة، هذا خَرَشَةَ بْنِ الْحُرِّ يقول: « قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَجَلَسْتُ إِلَى شِيَخَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ شَيْخٌ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَصًا لَهُ، فَقَالَ الْقَوْمُ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا، فَقَامَ خَلْفَ سَارِيَةٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ: قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ؛ الْجَنَّةُ لِلَّهِ يُدْخِلُهَا مَنْ يَشَاءُ، وَإِنِّي رَأَيْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رُؤْيَا؛ رَأَيْتُ كَأَنَّ رَجُلا أَتَانِي فَقَالَ لِي: انْطَلِقْ فَذَهَبْتُ مَعَهُ، فَسَلَكَ بِي فِي نَهْجٍ عَظِيمٍ، فَعُرِضَتْ عَلَيَّ طَرِيقٌ عَلَى يَسَارِي، فَأَرَدْتُ أَنْ أَسْلُكَهَا، فَقَالَ إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِهَا، ثُمَّ عُرِضَتْ عَلَيَّ طَرِيقٌ عَنْ يَمِينِي فَسَلَكْتُهَا، حَتَّى إِذَا انْتَهَيْتُ إِلَى جَبَلٍ زَلَقٍ فَأَخَذَ بِيَدِي فَزَجَّلَ بِي فَإِذَا أَنَا عَلَى ذُرْوَتِهِ فَلَمْ أَتَقَارَّ وَلَمْ أَتَمَاسَكْ، وَإِذَا عَمُودٌ مِنْ حَدِيدٍ فِي ذُرْوَتِهِ حَلْقَةٌ مِنْ ذَهَبٍ فَأَخَذَ بِيَدِي فَزَجَّلَ بِي حَتَّى أَخَذْتُ بِالْعُرْوَةِ، فَقَالَ:
اسْتَمْسَكْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَضَرَبَ الْعَمُودَ بِرِجْلِهِ فَاسْتَمْسَكْتُ بِالْعُرْوَةِ، فَقَالَ: قَصَصْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : (رَأَيْتَ خَيْرًا، أَمَّا الْمَنْهَجُ الْعَظِيمُ، فَالْمَحْشَرُ، وَأَمَّا الطَّرِيقُ الَّتِي عُرِضَتْ عَنْ يَسَارِكَ، فَطَرِيقُ أَهْلِ النَّارِ وَلَسْتَ مِنْ أَهْلِهَا، وَأَمَّا الطَّرِيقُ الَّتِي عُرِضَتْ عَنْ يَمِينِكَ، فَطَرِيقُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الْجَبَلُ الزَّلَقُ، فَمَنْزِلُ الشُّهَدَاءِ، وَأَمَّا الْعُرْوَةُ الَّتِي اسْتَمْسَكْتَ بِهَا، فَعُرْوَةُ الإِسْلامِ، فَاسْتَمْسِكْ بِهَا حَتَّى تَمُوتَ )، فَأَنَا أَرْجُو أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَإِذَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ » رواه ابن ماجه وأصله في البخاري.
واحذر يا شيخنا -رعاك الله- أن تغتر بطاعتك وإن كثرت، وتزهو بعبادتك وإن عظمت، فتعتقد أنك ستدخل الجنة بعملك، فإن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: « لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، قَالُوا:
وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّه؟ قَالَ: لا، وَلا أَنَا، إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا » متفق عليه.
وإن من أسباب رحمة الله بخلقه أن تنشرح صدورهم لاتباع سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم، وأنت يا كبير القوم بها أولى، فإن كنت قد مَنّ الله عليك بالمحافظة على الفرائض، وما زال في جسدك قوة تستطيع أن تتحمل بها النوافل فلا تكسل عنها، فإن الاعتياد على النوافل من الثبات على دين الله تعالى، فلربما كانت آخر لحظة من دنياك سجدة، وآخر لفظة من لسانك تسبيحة، ولك في سلف الأمة أسوة.
« يقول مَوْلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ انْطَلَقَ مَعَ أُسَامَةَ إِلَى وَادِي الْقُرَى فِي طَلَبِ مَالٍ لَهُ فَكَانَ يَصُومُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَقَالَ لَهُ مَوْلاهُ لِمَ تَصُومُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ وَأَنْتَ شَيْخٌ كَبِيرٌ؟ فَقَالَ إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ وَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إِنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ تُعْرَضُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ » رواه أبو داود. إنها همة عالية، وصدق في التعامل مع الله تعالى، واستقامة على طريق الهداية إلى آخر نفس.
وقد يتبادر إلى الذهن أن الدوام على فعل الخير إلى بلوغ الكبر أمر هيّن.. كلا، فإن هذه الغاية تحتاج إلى صدق المعرفة بالله تعالى في الرخاء والشدائد، وإلا فكم شيخ كبير في سنه أبى إلا أن يصر على المعاصي والفجور، لم يعرف لله قدراً، ولا لرسوله حقاً، ولا لدينه تعظيماً وإجلالاً، استمرأت نفسه الكبائر، واستحقرت الصغائر، فغابت عنه رقابة الله تعالى، فضل وأضل بغير علم، لا يعرف إلى المساجد طريقاً، ولا إلى التوبة النصوح مسلكاً، غرق في الذنوب، وأهلكته الموبقات، وأعرض عن السنن، واستهزأ بالصالحين.. جف لسانه من ذكر الله، وخبثت جوارحه من المنكرات، سقطت حواجبه على عينيه وهو ينظر بها في الحرام، وكلت أذنيه، وهو يسمع بها الغنا والخنا، خان الله ورسوله ونفسه، تتعوذ من جرائمه كل قطرة من دمه، وتستغيث من فعاله الأيام والليالي، زهد العمر فيه، وملت الدقائق من عبثه، وخجلت شعراته البيضاء من قلة حيائه..
نعوذ بالله من طول عمر يصحبه سوء عمل، لأن الذنب إن كان قبيحاً من الشاب، فهو من الشيخ أقبح.. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم « ثَلَاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ، قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، شَيْخٌ زَانٍ وَمَلِكٌ كَذَّابٌ وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ » رواه مسلم.
هذا رجل يدعى أبا سعدة، كذب في حق سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حينما سأل عنه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شكوى رفعت إليه ضده، فيشهد أبو سعدة زوراً وبهتاناً في حقه رضي الله عنه، فرفع سعد بن أبي وقاص يديه يدعو عليه فقال: ( أَمَا وَاللَّهِ لأَدْعُوَنَّ بِثَلاثٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَأَطِلْ عُمْرَهُ وَأَطِلْ فَقْرَهُ وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَنِ ) ويستجيب الله تعالى لسعد رضي الله عنه دعوته، فيكبر هذا الرجل ويشيخ، ويفتنه الله في النساء مع كبر سنه وشيبته، حتى إذا سئل عن ذلك قال عن نفسه: ( شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ، قَالَ عَبْدُالْمَلِكِ فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الْكِبَرِ وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ ). رواه البخاري.
إن تجربتك توحي إليك يقيناً أن الإناء إنما يفيض بم امتلأ به، فما أصاب هذا الرجل في كبره إلا من مما اكتسبت يداه في شبابه. ولعلك يا شيخنا الكبير تسامعت عن ذلك الرجل الذي أعرض عن سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم غطرسة وكبراً، فما كان له جزاءً إلا إن يقبضه الله على الكفر والعياذ بالله تعالى ، فهاهو الرسول صلى الله عليه وسلم يقَرَأَ سورة النَّجْمَ، فلما وصل آية السجدة سَجَدَ فِيهَا وَسَجَدَ مَنْ مَعَهُ، واستكبر شَيخ أن يسجد فأَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ من الأرض فَرَفَعَهُ إِلَى جَبْهَتِهِ وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا، قال رواي الحديث: فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرًا. رواه البخاري.
فاملأ قلبك ما استطعت بمحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأتبع ذلك باتباع أوامرهما، ولتكن الآخرة همّك وشغلك؛ فإنها همّ سلفك الصالحين، ليس في عبادتهم فحسب، بل في كل ساعة من ساعات حياتهم، فإن كان هذا سمت لشبابهم، فكيف بكبار السن فيهم، يقضي أحدهم عمره في خدمة هذا الدين، دعوة وجهاداً وعبادة وتضحية، ومع ذلك فهو على وجل من لقاء ربه، ليس كراهية لذات اللقاء -حاشاهم ذلك- وإنما خوفاً من حسابه وجزائه.
فهذا شيخ أو رجل -هكذا ورد الشك في الحديث- يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: « مَتَى السَّاعَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلاةٍ وَلا صِيَامٍ وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ فَأَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ » رواه البخاري واللفظ لأحمد.
وبعد يا شيخنا -حفظك الله من كل سوء-: اعلم علم اليقين أن الكمال يأبى أن يكون إلا لله وحده، وأنه ما تم شيء إلا نقص، فجسمك هذا الذي أبليته في شبابك سيبدأ يحط رحاله، وتسكن ثورة الدم في عروقه، فلا تضجر من شدة التعب، وتكالب المرض، فذلك اختبار لإيمانك وصدق توكّلك على الله تعالى، فإن صبرت وفقت، وإلا فلا..
احذر أن يحيطك الشيطان بسياج القنوط واليأس من رحمة الله وفرجه، فتنسى الشكر على نعم سبقت، وتتثاقل عن الحمد على ما حل من بلاء، فيجرّك هذا إلى تمني الموت، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: « لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ إِمَّا مُحْسِنًا، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ » أي أن يتوب ويحسن. رواه البخاري.
ولعلك توافقني الرأي أن جملة من كبار السن لا يرغبون أن يواجهوا بتقدم أعمارهم، كما لا يقف بعضهم عند هذا الحد، بل تجدهم يهربون من شيخوختهم حتى ولو بتغيير ملامحهم التي جعلها الله له نوراً في وجههم وعارضيهم، إنني أقصد ما انتشر في صفوف كبار السن من التساهل في صبغ الشعر بالسواد، وهذا حرام لا يجوز، فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما « أتي بأبي قحافة يوم فتح مكة. ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غيّروا هذا بشيء، واجتنبوا السواد) ». رواه مسلم.
فانظر كيف حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على تغيير البياض هذا، ولكن حرّم أن يكون التغيير بالسواد، فلا تعلق على رأسك شارة الحرام، وافتخر بشيبك في الإسلام، ولعل أفضل بديل بالحلال عن الحرام في صبغ الشعر هو الحناء ونحوه، لقول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ أَحْسَنَ مَا غُيِّرَ بِهِ الشَّيْبُ الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ ». رواه الترمذي، والكتم شبيه بالحناء.
واحذر أن تهرب من شيبك هذا بالنتف أيضاً؛ روى الترمذي نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك أيضا « عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ نَتْفِ الشَّيْبِ وَقَالَ إِنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ » قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
ولا أنسى أن أذكرك في ختام همستي هذه بثلاثة أمور:
أولها: قرة عين وزينة.
وثانيها: اطمئنان من خوف.
وثالثها : تقليد الأمانة لمن بعدك.
أما الأول: فسبيله الدعاء للذرية بالفلاح والصلاح كما هو منهج عباد الرحمن، فإنه تعالى امتدحهم في كتابه بقوله عز وجل: { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } .
وأما الثاني، فهو تشييد بناء التقوى في نفسك، فإن ذلك سبيل إلى الأمان النفسي على الذرية بعد الموت، فإن الله تعالى يقول: { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً }.
وأما الثالث: فأعني به وصية من بعدك بتقوى الله تعالى، والتمسك بتعاليم الدين، وتبيين ما عليك وما لك من حقوق مع الخلق، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: « مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي
فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ » متفق عليه.
وأخيراً: أحِب لقاء الله ليحب الله لقاءك، لا أقصد أنك تحب الموت، فإن النفوس قد جبلت على كراهيته؛ ولكن اسمع لهذا الحديث:
« عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ، أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ، كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ، قَالَ: لَيْسَ ذَاكِ؛ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ
الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ) ». رواه البخاري.
اللهم بارك لنا في والدينا وشيوخنا وكبارنا، اللهم ثبتهم على الإيمان، وزدهم ورعاً وتقوى، وألهمهم ذكرك وحسن عبادتك، وارزقهم صحة في أبدانهم وعقولهم، وبارك اللهم في ذرياتهم، إنك سميع مجيب.
إن كان للشباب قوة وفتوّة، فإن للشيوخ حكمة وثباتاً.. وإن كان للشباب عزم وإقدام، فإن للشيوخ خبرة وتجربة.. وما الشباب إلا ساحل بحر مؤدٍ إلى عمق الشيخوخة المليء بالدرر والكنوز النفيسة.. أفلا يستحق من بلغ هذا المبلغ، حتى أخذت جواهر الحكمة تتقلب بين يديه، وأصبحت رجاحة عقله تزن الجبال، أفلا يستحق منا همسة نذكّره فيها بنفاسة عمره، وغلاء جواهره؛ فإن كان غافلاً تَنَبّه، وإن كان منتبهًا، أيقظ غيره من سبات الغفلة لاستقلال ما بقي من سويعات عمره، ودقائق حياته.
فهاهي يا شيخنا الكريم: همسة في أذنك، أرجو أن تتقبّلها من أحد أولادك، لا يحمل بين جوانحه إلا الحب والتقدير لك، وكيف لا أكن لك التقدير وبالغ الاحترام وديني العظيم يأمرني بذلك، ورسول الأمة يوصيني بتوقيرك، يقول أَنَسُ ابْنُ مَالِكٍ: « جَاءَ شَيْخٌ يُرِيدُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَبْطَأَ الْقَوْمُ عَنْهُ أَنْ يُوَسِّعُوا لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنا » رواه
الترمذي.
فهنيئاً لك هذا التكريم، وهنيئاً لك ذلك التوقير من أفضل مخلوق عرفته البشرية صلى الله عليه وسلم. ولكن هل أحسست بمسؤولية تكريم الرسول صلى الله عليه وسلم لك؟ هل تظنه يأمر بتكريمك لطول عمرك فقط ، أو لضعف بنيتك فحسب؟ كلا، إنه يقدّر فيك شيخوختك في الإسلام، ويوقر فيك قِدَمك في العبادة..
فلسانك هذا قد سبق أمة من الناس إلى توحيد الله تعالى، وجوارحك تلك قد عرفت الله تعالى بالخضوع والتذلل قبل أن تذل له جوارح الملايين من الخلق، هل تظن أن ديننا يتناسى خبرتك في الحياة، وتجربتك معها؟ أم تظنه أنه يتجاهل ما بذلته من جهد وعطاء في تربية الأجيال ، وتنشئتهم على الصلاح؟ كيف يمكننا أن نقول مثل هذا والله من فوق سبع سموات يوصينا وصية مؤكدة، أن نصحب الكبير بالمعروف، ونتلطف معه في الحديث، وينهانا أن نضجر من ضعفه، فيقول جل من قائل عليماً: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } .
شيخنا الجليل، يا من جمّل الشيب عارضيه، وزادت العصا من هيبته ووقاره، ينبغي أن تتذكر في كل لحظة من لحظات حياتك نعمة الله عليك أن أمد في عمرك، وأمهلك في أجلك، حتى مكّنك من تدارك العمر في الطاعة، والرجوع إلى الله بعد التقصير في حقه، وإنك لتعلم أن للشباب هفوات وزلات، قد تتذكرها فتقلق فكرك، وتحزن نفسك، فانتبه أن تسيء الظن بخالقك، وقد آمنت بأنه غفور رحيم يقبل التوبة من عباده، فبادر نفسك بالتوبة النصوح، واملأ قلبك باليقين بأن الله قابل للتوب، غافر للذنب، فإن الله عز وجل يقول في الحديث القدسي: « أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ » رواه أحمد وأصله متفق عليه.
هذا شيخ كبير يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يَدَّعِمُ عَلَى عَصًا لَهُ، فَقَالَ:« أرأيت من عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئاً، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلا أتاها، فهل لذلك من توبة ؟
قال: فهل أسلمت؟ قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، قال :تفعل الخيرات، وتترك السيئات، فيجعلهن الله لك خيرات كلهن. قال وغدراتي وفجراتي؟ قال: نعم، قال :الله أكبر، فما زال يكبر حتى توارى » صححه الألباني.
هذا إن كنت قد أسرفت على نفسك في شبابك بالمعاصي، أما إذا كنت لا تذكر إلا خيراً، صلاةً وصياماً، وحجاً واستغفاراً، وشكراً وحسنَ خلق، فاحمد الله على ذلك، واطلبه المزيد من هذه الأعمال الصالحة، واسأله سبحانه أن يختم لك حياتك على ما تحب من الطاعات والقربات، فإنما الأعمال بالخواتيم، فإن الاستقامة في العمل، والتقوى في القلب، والاستمرار عليهما حتى الموت وصية من وصايا الخالق سبحانه، حيث يقول: { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ }.
إن البقاء على الإيمان سر الفلاح في الدنيا والآخرة، فماذا يبتغي المرء كبيراً كان أم شاباً غير أن يبلغه الله جنة عرضها السموات والأرض، وإنما هي سلعة غالية لمن قضى عمره في الطاعة وختم له فيها عليها.
ودعني أمتّع سمعك بهذه الواقعة الظريفة، هذا خَرَشَةَ بْنِ الْحُرِّ يقول: « قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَجَلَسْتُ إِلَى شِيَخَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ شَيْخٌ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَصًا لَهُ، فَقَالَ الْقَوْمُ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا، فَقَامَ خَلْفَ سَارِيَةٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ: قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ؛ الْجَنَّةُ لِلَّهِ يُدْخِلُهَا مَنْ يَشَاءُ، وَإِنِّي رَأَيْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رُؤْيَا؛ رَأَيْتُ كَأَنَّ رَجُلا أَتَانِي فَقَالَ لِي: انْطَلِقْ فَذَهَبْتُ مَعَهُ، فَسَلَكَ بِي فِي نَهْجٍ عَظِيمٍ، فَعُرِضَتْ عَلَيَّ طَرِيقٌ عَلَى يَسَارِي، فَأَرَدْتُ أَنْ أَسْلُكَهَا، فَقَالَ إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِهَا، ثُمَّ عُرِضَتْ عَلَيَّ طَرِيقٌ عَنْ يَمِينِي فَسَلَكْتُهَا، حَتَّى إِذَا انْتَهَيْتُ إِلَى جَبَلٍ زَلَقٍ فَأَخَذَ بِيَدِي فَزَجَّلَ بِي فَإِذَا أَنَا عَلَى ذُرْوَتِهِ فَلَمْ أَتَقَارَّ وَلَمْ أَتَمَاسَكْ، وَإِذَا عَمُودٌ مِنْ حَدِيدٍ فِي ذُرْوَتِهِ حَلْقَةٌ مِنْ ذَهَبٍ فَأَخَذَ بِيَدِي فَزَجَّلَ بِي حَتَّى أَخَذْتُ بِالْعُرْوَةِ، فَقَالَ:
اسْتَمْسَكْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَضَرَبَ الْعَمُودَ بِرِجْلِهِ فَاسْتَمْسَكْتُ بِالْعُرْوَةِ، فَقَالَ: قَصَصْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : (رَأَيْتَ خَيْرًا، أَمَّا الْمَنْهَجُ الْعَظِيمُ، فَالْمَحْشَرُ، وَأَمَّا الطَّرِيقُ الَّتِي عُرِضَتْ عَنْ يَسَارِكَ، فَطَرِيقُ أَهْلِ النَّارِ وَلَسْتَ مِنْ أَهْلِهَا، وَأَمَّا الطَّرِيقُ الَّتِي عُرِضَتْ عَنْ يَمِينِكَ، فَطَرِيقُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الْجَبَلُ الزَّلَقُ، فَمَنْزِلُ الشُّهَدَاءِ، وَأَمَّا الْعُرْوَةُ الَّتِي اسْتَمْسَكْتَ بِهَا، فَعُرْوَةُ الإِسْلامِ، فَاسْتَمْسِكْ بِهَا حَتَّى تَمُوتَ )، فَأَنَا أَرْجُو أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَإِذَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ » رواه ابن ماجه وأصله في البخاري.
واحذر يا شيخنا -رعاك الله- أن تغتر بطاعتك وإن كثرت، وتزهو بعبادتك وإن عظمت، فتعتقد أنك ستدخل الجنة بعملك، فإن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: « لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، قَالُوا:
وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّه؟ قَالَ: لا، وَلا أَنَا، إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا » متفق عليه.
وإن من أسباب رحمة الله بخلقه أن تنشرح صدورهم لاتباع سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم، وأنت يا كبير القوم بها أولى، فإن كنت قد مَنّ الله عليك بالمحافظة على الفرائض، وما زال في جسدك قوة تستطيع أن تتحمل بها النوافل فلا تكسل عنها، فإن الاعتياد على النوافل من الثبات على دين الله تعالى، فلربما كانت آخر لحظة من دنياك سجدة، وآخر لفظة من لسانك تسبيحة، ولك في سلف الأمة أسوة.
« يقول مَوْلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ انْطَلَقَ مَعَ أُسَامَةَ إِلَى وَادِي الْقُرَى فِي طَلَبِ مَالٍ لَهُ فَكَانَ يَصُومُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَقَالَ لَهُ مَوْلاهُ لِمَ تَصُومُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ وَأَنْتَ شَيْخٌ كَبِيرٌ؟ فَقَالَ إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ وَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إِنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ تُعْرَضُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ » رواه أبو داود. إنها همة عالية، وصدق في التعامل مع الله تعالى، واستقامة على طريق الهداية إلى آخر نفس.
وقد يتبادر إلى الذهن أن الدوام على فعل الخير إلى بلوغ الكبر أمر هيّن.. كلا، فإن هذه الغاية تحتاج إلى صدق المعرفة بالله تعالى في الرخاء والشدائد، وإلا فكم شيخ كبير في سنه أبى إلا أن يصر على المعاصي والفجور، لم يعرف لله قدراً، ولا لرسوله حقاً، ولا لدينه تعظيماً وإجلالاً، استمرأت نفسه الكبائر، واستحقرت الصغائر، فغابت عنه رقابة الله تعالى، فضل وأضل بغير علم، لا يعرف إلى المساجد طريقاً، ولا إلى التوبة النصوح مسلكاً، غرق في الذنوب، وأهلكته الموبقات، وأعرض عن السنن، واستهزأ بالصالحين.. جف لسانه من ذكر الله، وخبثت جوارحه من المنكرات، سقطت حواجبه على عينيه وهو ينظر بها في الحرام، وكلت أذنيه، وهو يسمع بها الغنا والخنا، خان الله ورسوله ونفسه، تتعوذ من جرائمه كل قطرة من دمه، وتستغيث من فعاله الأيام والليالي، زهد العمر فيه، وملت الدقائق من عبثه، وخجلت شعراته البيضاء من قلة حيائه..
نعوذ بالله من طول عمر يصحبه سوء عمل، لأن الذنب إن كان قبيحاً من الشاب، فهو من الشيخ أقبح.. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم « ثَلَاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ، قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، شَيْخٌ زَانٍ وَمَلِكٌ كَذَّابٌ وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ » رواه مسلم.
هذا رجل يدعى أبا سعدة، كذب في حق سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حينما سأل عنه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شكوى رفعت إليه ضده، فيشهد أبو سعدة زوراً وبهتاناً في حقه رضي الله عنه، فرفع سعد بن أبي وقاص يديه يدعو عليه فقال: ( أَمَا وَاللَّهِ لأَدْعُوَنَّ بِثَلاثٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَأَطِلْ عُمْرَهُ وَأَطِلْ فَقْرَهُ وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَنِ ) ويستجيب الله تعالى لسعد رضي الله عنه دعوته، فيكبر هذا الرجل ويشيخ، ويفتنه الله في النساء مع كبر سنه وشيبته، حتى إذا سئل عن ذلك قال عن نفسه: ( شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ، قَالَ عَبْدُالْمَلِكِ فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الْكِبَرِ وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ ). رواه البخاري.
إن تجربتك توحي إليك يقيناً أن الإناء إنما يفيض بم امتلأ به، فما أصاب هذا الرجل في كبره إلا من مما اكتسبت يداه في شبابه. ولعلك يا شيخنا الكبير تسامعت عن ذلك الرجل الذي أعرض عن سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم غطرسة وكبراً، فما كان له جزاءً إلا إن يقبضه الله على الكفر والعياذ بالله تعالى ، فهاهو الرسول صلى الله عليه وسلم يقَرَأَ سورة النَّجْمَ، فلما وصل آية السجدة سَجَدَ فِيهَا وَسَجَدَ مَنْ مَعَهُ، واستكبر شَيخ أن يسجد فأَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ من الأرض فَرَفَعَهُ إِلَى جَبْهَتِهِ وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا، قال رواي الحديث: فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرًا. رواه البخاري.
فاملأ قلبك ما استطعت بمحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأتبع ذلك باتباع أوامرهما، ولتكن الآخرة همّك وشغلك؛ فإنها همّ سلفك الصالحين، ليس في عبادتهم فحسب، بل في كل ساعة من ساعات حياتهم، فإن كان هذا سمت لشبابهم، فكيف بكبار السن فيهم، يقضي أحدهم عمره في خدمة هذا الدين، دعوة وجهاداً وعبادة وتضحية، ومع ذلك فهو على وجل من لقاء ربه، ليس كراهية لذات اللقاء -حاشاهم ذلك- وإنما خوفاً من حسابه وجزائه.
فهذا شيخ أو رجل -هكذا ورد الشك في الحديث- يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: « مَتَى السَّاعَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلاةٍ وَلا صِيَامٍ وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ فَأَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ » رواه البخاري واللفظ لأحمد.
وبعد يا شيخنا -حفظك الله من كل سوء-: اعلم علم اليقين أن الكمال يأبى أن يكون إلا لله وحده، وأنه ما تم شيء إلا نقص، فجسمك هذا الذي أبليته في شبابك سيبدأ يحط رحاله، وتسكن ثورة الدم في عروقه، فلا تضجر من شدة التعب، وتكالب المرض، فذلك اختبار لإيمانك وصدق توكّلك على الله تعالى، فإن صبرت وفقت، وإلا فلا..
احذر أن يحيطك الشيطان بسياج القنوط واليأس من رحمة الله وفرجه، فتنسى الشكر على نعم سبقت، وتتثاقل عن الحمد على ما حل من بلاء، فيجرّك هذا إلى تمني الموت، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: « لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ إِمَّا مُحْسِنًا، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ » أي أن يتوب ويحسن. رواه البخاري.
ولعلك توافقني الرأي أن جملة من كبار السن لا يرغبون أن يواجهوا بتقدم أعمارهم، كما لا يقف بعضهم عند هذا الحد، بل تجدهم يهربون من شيخوختهم حتى ولو بتغيير ملامحهم التي جعلها الله له نوراً في وجههم وعارضيهم، إنني أقصد ما انتشر في صفوف كبار السن من التساهل في صبغ الشعر بالسواد، وهذا حرام لا يجوز، فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما « أتي بأبي قحافة يوم فتح مكة. ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غيّروا هذا بشيء، واجتنبوا السواد) ». رواه مسلم.
فانظر كيف حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على تغيير البياض هذا، ولكن حرّم أن يكون التغيير بالسواد، فلا تعلق على رأسك شارة الحرام، وافتخر بشيبك في الإسلام، ولعل أفضل بديل بالحلال عن الحرام في صبغ الشعر هو الحناء ونحوه، لقول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ أَحْسَنَ مَا غُيِّرَ بِهِ الشَّيْبُ الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ ». رواه الترمذي، والكتم شبيه بالحناء.
واحذر أن تهرب من شيبك هذا بالنتف أيضاً؛ روى الترمذي نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك أيضا « عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ نَتْفِ الشَّيْبِ وَقَالَ إِنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ » قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
ولا أنسى أن أذكرك في ختام همستي هذه بثلاثة أمور:
أولها: قرة عين وزينة.
وثانيها: اطمئنان من خوف.
وثالثها : تقليد الأمانة لمن بعدك.
أما الأول: فسبيله الدعاء للذرية بالفلاح والصلاح كما هو منهج عباد الرحمن، فإنه تعالى امتدحهم في كتابه بقوله عز وجل: { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } .
وأما الثاني، فهو تشييد بناء التقوى في نفسك، فإن ذلك سبيل إلى الأمان النفسي على الذرية بعد الموت، فإن الله تعالى يقول: { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً }.
وأما الثالث: فأعني به وصية من بعدك بتقوى الله تعالى، والتمسك بتعاليم الدين، وتبيين ما عليك وما لك من حقوق مع الخلق، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: « مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي
فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ » متفق عليه.
وأخيراً: أحِب لقاء الله ليحب الله لقاءك، لا أقصد أنك تحب الموت، فإن النفوس قد جبلت على كراهيته؛ ولكن اسمع لهذا الحديث:
« عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ، أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ، كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ، قَالَ: لَيْسَ ذَاكِ؛ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ
الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ) ». رواه البخاري.
اللهم بارك لنا في والدينا وشيوخنا وكبارنا، اللهم ثبتهم على الإيمان، وزدهم ورعاً وتقوى، وألهمهم ذكرك وحسن عبادتك، وارزقهم صحة في أبدانهم وعقولهم، وبارك اللهم في ذرياتهم، إنك سميع مجيب.
المصدر: مجلة الأسرة العدد رقم 70 ، صفر - 1420هـ
- التصنيف: