الهوية الضائعة

منذ 2005-08-05
إن الدراسة والتخطيط والمتابعة السليمة القائمة على أسس أصيلة صحيحة، من سمات نجاح أي مشروع؛ فبغض النظر عن طبيعة المشاريع التي تُطرح للمناقشة على طاولة المفاوضات، لن يتمكن واضعوها والقائمون عليها من تحقيق أهدافهم باعتمادهم الارتجال كمبدأ عام؛ فتحديد الهدف ابتداءً، ثم التنظيم والمثابرة، وعدم التطلّع لنتائج فوريّة حاسمة، من السمات الأساسيّة لتحقيق الغاية المنشودة في أي منها.

إن ما نحتاجه كشعوب إسلاميّة وعربيّة هو الاعتراف بأن نظرتنا الفاحصة في قضايانا الإستراتيجيّة والمبنيّة على حقائق واقعيّة، وأرقام إحصائيّة معتمدة، من أهم ما نفتقده في هذا المجال، مقارنة بطبيعة الحال ببعض الدول، فمشاريعنا على الأغلب تكاد تُبنى على ما يشبه الارتجال، أو على دراسات مستوردة سطحيّة غير معمّقة، وآنية الأبعاد، وبالتالي نحصد نتائج مخيّبة للآمال والتطلّعات؛ فالتخطيط المتعلق بمستقبل التعليم والصحة والأمن والوضع الاجتماعي والاقتصادي يبقى قاصراً لا يلامس طموحات شعوبنا، وتطلّعاتهم.

ولكن الأخطر من ذلك كله، ما نراه في دراسات وعمل دؤوب، تهدف لإلغاء الهُوِيّة الذاتيّة لدى المسلمين، كديانة وتاريخ وأرض، فقد توالت مؤخراً قرارات سلطويّة صادرة عن ولاة الأمر في بعض البلاد الإسلاميّة بهدف إلغاء وتقليص العلوم الإنسانيّة، التي من شأنها ربط المتلقي بدينه أولاً ثم ببلاده لغة وتاريخاً وجغرافية ثانياً، علوم تلامس كيان الإنسان ووجوده واعتزازه بنفسه!!

وأنا هنا لن أناقش أصحاب هذه القرارات في مضامينها، أو في أضرارها على مجتمعاتهم، فهذا شأن يتكفل به علماء أفاضل ننتظر منهم التحرك بفاعلية في هذا المنحى بإذن الله، ولكنّي استأذن المقرّرين في عرض دراسة حديثة، جعلت جلّ اهتمامها ينصبّ على تحصين الهويّة الدينيّة لأبنائها من الضياع والذوبان!!

وإليكم قصة هذه الدراسة، كتب (ناثان غوتمان) في صحيفة (هآرتس) عن اجتماع تمّ في الأيام الماضية في (مزرعة واي) قرب واشنطن، نظمه معهد تابع لـ(الوكالة اليهودية).. هدف هذا الاجتماع ينحصر في البحث عن الحلول لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الهويّة اليهوديّة المهدّدة بالانقراض عام 2025م، ولقد اجتمع لهذه الغاية رجال الدين والاجتماع والسياسة والمال، أذكر منهم: المحامي (ألان درشوفيتس)، (ستيوارت آيزنشتات) نائب وزير المالية الأمريكي سابقاً، (ناتان شارانسكي)، الحاخام (شموئيل سيرات) -الحاخام الأكبر لفرنسا سابقاً -، و(مايكل ستنهارت)، وهو من أكبر المتبرعين اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية، (ودينس روس)، والبروفيسور (يحزقيل درور)، و(وجاك أتالي)، والحاخام (يوفال شارلو)، والبروفيسور (يهودا راينهارتس) الذي يرأس جامعة براندايس.. وغيرهم ممن طلب إبقاء مشاركته في هذا الاجتماع طيّ الكتمان!!

وقد تحدث رئيس الاجتماع (آفي غيل) عن أهداف هذا الاجتماع فقال: "هدفنا هو فهم ما ينبغي فعله اليوم من أجل أن يكون الشعب اليهودي في المستقبل في حالة أفضل". أما عن الكيفية التي يتحقق من خلالها مستقبل أفضل لليهود؛ فقد وضحها البروفيسور (راينهارتس)؛ إذ قال: "إنه كمعظم المشاركين الآخرين، يعتقد أن هناك خشية حقيقيّة من خسارة الهويّة اليهوديّة، وتدنّي حجم الشعب اليهودي بشكل يجعل من المتعذر عليه مواصلة الوجود كشعب"!

لقد توافق معظم المشاركين في هذا الاجتماع في أن الخطر الأكبر الذي يتهدّد الشعب اليهودي في العقود القريبة هو ضعف الهويّة اليهوديّة؛ ففي الواقع المعاصر تتنافس الهويّة اليهوديّة في سوق كبير من الأفكار والأيديولوجيّات المفتوحة أمام كل إنسان، والصعوبة التي تواجه ربط أبناء الشعب اليهودي - خصوصاً الشبان - بالهُويّة اليهوديّة تقود مع مرور الوقت إلى ابتعاد هؤلاء عن حياة الجماعة اليهوديّة، وابتعادهم عن دولة إسرائيل..) كما أكّد: "أن أزمة الهويّة اليهوديّة قائمة ليس فقط في صفوف يهود الشتات، فالوثيقة التي أعدها المعهد تشير إلى أن هناك خشية حتى من داخل إسرائيل من ضعف جوهري في الهويّة اليهوديّة"!!

وبعد مداولات مطوّلة لدراسات ومناقشات وتوصيات تم عرضها أمام الأعضاء، انتهى الاجتماع بإصدار بيان ختامي، جاء فيه : "إن الشعب اليهودي مصاب بافتقاره لقيادة روحيّة مؤهلة لبلورة فحوى روحيّة جديدة للهويّة اليهوديّة، توفّر إلهاماً، وجوهراً وتكون ذات صلة"!! كما أثنى المشاركون في هذا الاجتماع على الطائفة الأصوليّة الأرثوذكسيّة التي حافظت على الهويّة اليهوديّة بشكل تام، فالتعليم يهوديّ 100 %، وزواج المختلط صفر في المئة، ونسبة التكاثر عالية، مؤكدين أن الطائفة اليهوديّة في حالة طوارئ، وتحتاج إلى تمويل كبير وفي كل الميادين، كما تحتاج إلى وقوف المؤسسة التنظيميّة والدينيّة إلى جانبها.

إن هذه النتائج كانت بالنسبة لهم من الأهمية بمكان، دفعتهم لعرضها أمام مؤتمر رؤساء المنظمات اليهوديّة في الولايات المتحدة الأمريكيّة، وقريباً سيتم تكريس جلسة خاصة في الحكومة الصهيونيّة لمناقشتها.

الهويّة اليهوديّة، والتكاثر السكاني اليهودي، من الأولويّات التي استقطبت رجال الدين والعلم والسياسة والمال، الذين اجتمعوا ليناقشوا الكيفيّة التي من خلالها يحافظ أبناؤهم على الهويّة اليهوديّة.. وأنا هنا لا أناقشهم في فساد خططهم تلك، ولكني أعجب كيف جاز لولاة الأمر في بعض البلاد الإسلامية، إصدار قرارات بهدف تقليص علومنا الإنسانية التي من شأنها ربط أبنائنا بخصائصنا الدينيّة، وبلغتنا العربيّة، اللغة التي اصطفاها المولى سبحانه لكتابه الكريم، وبتاريخنا ومقدرتنا الثقافيّة، في حين نتابع تحركات يهوديّة وصهيونيّة مضادّة دفعها الخوف من تضييع أبنائها للهويّة اليهوديّة لدراسة السبل التي من شأنها تقوية الانتماء اليهودي الديني في نفوسهم، و انتهوا إلى ضرورة تدعيم ذلك بالسلطة السياسيّة والماليّة العالميّة..

ثم، لماذا هم يخططون للحفاظ على الهويّة اليهوديّة، في حين يخطط بعضنا لضياع هويّتنا الإسلاميّة العربيّة الوطنيّة؟ ولِمَ يخشون على خصائصهم من الضياع، في حين انسلخ بعضنا منها وخطط لانسلاخ غيره؟!

ولهؤلاء أقول: ستبقى كلمة الله هي العليا ولو كره وخطط الكارهون.. إنه وليّ ذلك والقادر عليه.
المصدر: أميمة بنت أحمد الجلاهمة - موقع الإسلام اليوم
  • 1
  • 0
  • 17,367

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً