شريعة الله، أم شريعة البشر؟
إن المتأمل في واقع الحال يجد أنه لم ينجح أي قانون وضعي في إقامة العدل المطلق والمساواة التامة والأخوة الحقيقية بين الناس، مما ترتب على ذلك القلاقل والفتن والمؤامرات والثورات والحقد الطبقي وأكل الأقوياء لحقوق الضعفاء.
ما من مجتمع من المجتمعات يستطيع أن يعيش وأن يتطور دون وجود تشريع يضبط حركاته وأحكامه، وتعتبر أكثر الدول حضارة هي أقلها تشريعاً في الغالب، فإن كثرة التشريعات وتقلبها، لدليل واضح على القلق وعدم الاستقرار، فالهدف الأساسي الذي وجدت من أجله التشريعات هو حماية الأفراد وصيانة الأمن وإقامة العدل وتحقيق تكافؤ الفرص للجميع، والمساوة أمام القانون وإرشاد جموع الأمة لتحقيق الخير العام للأفراد والوطن.
لقد ضلت كثير من الدول عن الصراط المستقيم عندما وضعت تشريعاتها، إذ أنها جعلت القانون في خدمة فرد أو جماعة أو قبيلة أو حزب مضحية بذلك بأمن الناس وحرية الكلمة وميزان العدل. ولو أن دولة من الدول قد تخلصت من الهوى، فإنها تصبح في حقيقة أمرها مجرد شرطي سلبي، تفرض الضرائب على كاهل شعبها لتحميه من المجرمين في الداخل ومن غزاة الخارج، ولكنها وفي ذات الحال قلَّ اهتمامها بالأخلاق ويقظة الضمير ونقاء النفس وطهارتها وسلامة القلب.
إن التشريع الوضعي إنما يتم وضعه ليكون رادعاً للناس من اغتصاب حقوق الغير أو الإضرار به، وقلَّما يهتم تشريع وضعي بإشاعة المحبة فيما بين الناس والسمو الروحي ونزع الكراهية من القلوب، فيا ضيعة البشرية إذا ما كانت المقاييس لديها هي تلك المقاييس المادية البحتة فقط التي تحدّد العلاقات فيما بين البشر الذين هم خلفاء الله في الأرض.
إن الشارع في كل مكان وزمان لا يمكن أن يخرج عن ذاته وعن هواه، وإن حاول جهده أن يكون محايداً ولا شبهة في إخلاصه وحسن نواياه، ولن يستطع مهما أوتي من ذكاء وفطنة وسعة أفق أن يلم بكل القضايا والدوافع والنوازع والأحداث والملابسات، فعلى سبيل المثال: فالرجال وهم الأكثرية وهم الحكام والمشرعون والقضاة، يُشرّعون قواعد وقد يكون ذلك بحسن نية تزيد في حقوقهم على حساب حقوق المرأة، فكان نتيجة لذلك عصور من الضياع التي نكبت بها البشرية.
إن المشرع في التشريعات الوضعية فشل فشلاً ذريعاً في أن يجعل الناس رُقباء على أنفسهم يحاسبون ذواتهم على الهنات والهفوات والشبهات قبل أن يحاسبوها على الكبائر، بل كان أقصى ما نجح فيه أن وضع عقوبات على المخالفات والجرائم، كما أن هذه العقوبات لا ينالوها إلا من وقع في قبضة القانون درءاً لما توهم أنه يقود إلى فساد المجتمع، فعاش الناس بقلوب واجفة بدلاً من أن يعيشوا بأفئدةٍ راضية، وقلوب مطمئنة؛ فيرفرف على المجتمع أجنحة المحبة والسلام.
إن المتأمل في واقع الحال يجد أنه لم ينجح أي قانون وضعي في إقامة العدل المطلق والمساواة التامة والأخوة الحقيقية بين الناس، مما ترتب على ذلك القلاقل والفتن والمؤامرات والثورات والحقد الطبقي وأكل الأقوياء لحقوق الضعفاء.
إن الله خالق الناس أجمعين: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الرعد: من الآية 9]، {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} [سبأ: من الآية 3]، {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: من الآية 79]، {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه: من الآية 98]، {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}، قد شرع للناس ما يضمن لهم سعادة الدنيا والآخرة، ولكن غرور البشر وطمعهم فيما بين بعضهم البعض، جعلهم يعرضون عن شرع الله ليسطروا بأيديهم شقاءهم.
إن شريعة الله تجعل همَّها وهدفها أن تشحذ الهمم وتطهر الضمائر، وتهذب النفوس، وتشفي القلوب، وتقوي أواصر الأخوة الإنسانية، وتزين الاستقامة، وتحض على الإصلاح، وتنفر من البغي والاعتداء، وتشجع على البر والتقوى والتعاون، وتأمر بالعدل والإحسان، وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.
إن الحقيقة المسلمة التي لا غبار عليها أن شريعة الله لا تميل مع هوى الحاكم او المحكوم، بل إنك تجد أن الكل أمام العدل الإلهي سواء، فالجزاء الأوفى يكون لمن أستجاب وأناب وأطاع، والعذاب الأليم لمن عصى وأعرض، فاتباع شريعة الله تعالى يكون ثمرته للبشر تحقيق سعادة الدنيا والأخرة.
إن شرعة الله؛ ذاك المنهج الإلهي غايته تحقيق كرامة الإنسان ويمنحه الحرية الحقيقية ويُحرّره من العبودية، بجميع أنواعها ومختلف مسمياتها، يُحرّره من العبودية للناس ويعدوه إلى عبودية الخالق ربّ الناس، إن شرعة الله إنما جُعِلت حتى تُقيم للناس إلهاً وسيداً واحداً وتقف سداً منيعاً حائلاً بين أن يكون الناس آلهة لبعض.
إن الله يختص بعلمه، ذلك العلم المطلق الذي يحتاج إليه وضع وتأسيس منهج للحياة ودستور للبشرية، وقد وضع الله تعالى لنا هذا المنهج الرباني؛ أفليس من خطأ الرأي أن نجتنبه ونحيد عنه، وأن نتبع أهواء أناس من البشر مهما بلغ علمهم وارتقى فكرهم فهم بشر لهم اجتهاداتهم التي قد تُصيب وقد تخطأ ولهم نوازعهم التي قد تُورِد المهالك ولهم أماني التي في غالبها تتسم بالشخصية والذاتية، ولهم وسوساتهم التي تسول لهم الباطل حقاً والحق باطلاً؟
سؤال يطرح نفسه منذ الالتفات عن شريعة الله ألا وهو ماذا قاد التشريع الوضعي للناس؟ لقد نخر الفساد والانحلال والأمراض العضوية والعصبية والنفسية في جسد البشرية، تبجح الشذوذ العقلي والجنسي في جسم الحضارة، وأصبحت البشرية تعاني من التميع والاستهتار والاستخفاف بكل عقيدة وكل رأي ومذهب، وأضحى العالم على شفا جرف هار، فصارت العودة إلى الله هي وحدها طوق النجاة.
إن من رفق القدر بنا، أن بين أيدينا كتاباً منيراً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لقد برهن لنا هذا الكتاب كماله في التشريع وكونه دستوراً يقود البشر بما أثبته ذلك مع سلف هذه الأمة حين اتبعوه قادهم إلى المجد، وسيقودنا حتماً إذا ما عدنا إليه إلى العزة والكرامة والقوة والأمن والسلام.
لقد زعم فريق من الذين لا يتعمقون في فهم الأشياء، أن الإسلام ليست له نظرية اقتصادية متكاملة يمكن تطبيقها في هذا العصر، ولكنهم تناسوا أن هذه النظرية قد طبقت واقعاً في صدر الإسلام لما كان الشرق الأوسط كله يسعد بتطبيق شريعة الله، الشريعة الإسلامية، إنها طبقت في عهد الخليفة هارون الرشيد يوم أن كانت رقعة الدولة الإسلامية تكاد أن تكون العالم المتحضر كله في ذلك الوقت.
إن المال في الإسلام ليس مال أحد من البشر ولكنه مال الله تعالى، والناس مستخلفون فيه، فلا ينبغي كسب المال إلا من السب التي شرعها الله تعالى وحددها فهو الصاحب الحقيقي للمال، وأن يتم توجيه الإنفاق في السبل التي حددها الله تعالى للإنفاق، فأما إن أساء المستخلف في مال الله ولم يوفه حقه فللحاكم أن ينزع ذلك المال منه وأن يوجهه للخير العام، إن الحكومة في شريعة الله هي الساهرة على تنفيذ أوامر الله تعالى ونواهيه، فإن لم تقم بواجبها فعلى الشعب أن ينحيها عن الحكم. فإن قصَّر الشعب فإن الله تعالى يُذهب الجميع ويأتي بخلقٍ جديد، وليس ذلك على الله بعزيز.
قضى الإسلام على عبادة المال وهدم طغيان الثروات، ونبَّه وعرف ضرورة دوران المال وأنه كالدم للجسم لابد وأن يدور دورته الكاملة في جسم الإنسان حتى يظل معافى يؤدي كل عضو فيه وظيفته على أكمل وجه، لذلك ذم الله البخل وحرّم كنز الأموال وفي المقابل حثَّ على الصدقات والإنفاق في سبيل الله.
ولا يرضى الإسلام أن يكون المال في أيدي قلة من الناس لا يعملون على الإنفاق في الخير العام وإصلاح المجتمع والتواصل الاجتماعي، إن الإسلام لا يرضى أن يكون المال هو أداة تُثير طبقة على طبقة فتسيل من أجل ذاك المال سيول من الدم، فالقاعدة الراسخه في الإسلام أن المؤمنون إخوة. والإسلام لا يرضى عن الطغيان، فسواء عنده الطغيان هو طغيان الرأسماليين أو طغيان العمال، فالإسلام أساسه العدل، ويعطي كل ذي حقٍ حقه، فهو يضرب على أيدي العابثين بلا تفريق، حتى يصل بالمجتمع إلى حياة أكثر رخاء وغنى ورفاهية، ويصل بالمجتمع إلى العدل الحقيقي غير المزيف والحياة الحرة الكريمة كما أرادها الله تعالى للناس.
إن حقيقة المال في الإسلام أنه عقيم -بمعنى أنه لا يلد وحده- بل لابد من امتزاجه بالعمل حتى تحصل الثمرة، وله أن يشترك في هذه الثمرة سواء أكانت حلوة أم مرة ، فإذا كانت الثمرة كسباً شارك في الكسب، وإذا ما كانت خسارة تحمل نصيبه منها ولا مناص.
فالمال وحده عاجز عن أن يؤدي وظيفته منتجة بذاتها، أما المال فهو لا يستحق ربا، بينما العمل وحده يستطيع أن يثمر فيستحق المكافأة، أي يستحق الأجر، أم المال فهو لا يستحق ربا، لأن الفائدة لا تؤدي أي منفعة عامة ولا تحقق رخاء في الدنيا، بل إنها تعمق شروخ المجتمع وتعزز الحقد الطبقي وتفاوت الطبقات واختلال ميزان التكافل الاجتماعي، بل حقيقتها أنها تنهش بمخالبها الفتاكة أفئدة المدينين وتسلبهم كرامتهم وكبريائهم وقد ينتهي بهم المطاف إلى سلبهم حريتهم.
جرَّم الإسلام الربا وحرمها لأنه ابتزاز سافر لأموال المدينين، ولأنه يتعارض مع حقيقة الإسلام التي تنادي بالمحبة والعدل وتحريم الظلم، ولأن الربا يساهم بشكل أساسي في إيجاد طبقة من العطلين الذين يعيشون على إقراض الناس فائض أموالهم أو ما ورثوه عن آبائهم من غير جهد ولا عمل، بينما الإسلام برسالته الإنسانية السامية يقدّس العمل ويحترم العاملين ولا يرضى أن يؤول الحال في المجتمع إلى قطيع من مصاصي الدماء.
إن الربا لا يُعكّر الانسجام الاجتماعي أو يقطع أواصر النسيج الإنساني فحسب، بل إنه يفضي إلى العدوان الاقتصادي بزيادة ثروات المرابين على حساب المدينين. بل ولا يقتصر الأمر على ذلك بل يتعداه إلى فرض سيطرة أفراد على أفراد مثلهم، بل يتعدى مستوى الأفراد إلى سيطرت مجتمعات دائنة على مجتمعات فقيرة مدينة، وسيطرت دول دائنة على دول فقيرة ومدينة، مما يؤدي بطبيعة الحال إلى شعور قاسيٍ بالمرارة بين المدينين سواء كانوا أفراداً أو مجتمعات أو دول، الأمر الذي يفضي إلى عداوة مستترة سرعان ما تكشف عن وجهها.
إن الإقراض في الإسلام شيء مستحب فهو من باب المعونة وليس من باب العملية التجارية، لأن الإسلام دين مكارم الأخلاق قبل كل شيء، فرسول الإسلام صلى الله عليه وسلم قد بُعِث ليتمم مكارم الأخلاق، وإنَّ من أسمى وأعلى مكارم الأخلاق هو مد يدِ العون إلى الأخر وأهم أنواع العون هو ما تقدمه لفك ضائقة مادية إلى أخٍ لك، وعلى خلاف تلك الرسالة السامية أن يستغل الفرد ضيقة أخيه لتحقيق كسب دون مجهود أو عمل.
حدد التشريع السماوي الرباني الخطوط العريضة للقضايا التي تيسر وتسهل للناس حياة عادلة سعيدة مستقرة وكريمة، وترك للبشر الاجتهاد في وضع ما يصلح لدنياهم على هدي القوانين الإلهية، المستمدة من القرآن والسنة ونهج أهل السنة والجماعة، وقد حقق رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك النهج السماوي، الشريعة الإسلامية، فكانت سنته منهجاً للمسلمين من بعده، ليجدوا في رحابها الصراط المستقيم والنجاة بخيري الدنيا والدين والوصول بالمجتمع الإنساني حقيقة السعادة والتي تتمثل في سعادة الدنيا والآخرة.
والله أسأل أن يجعل شريعته دستوراً يُنيرُ قلوبنا وحياتنا، وأن يُجنبنا الشطط والزلل، وأخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
د. أحمد عبد الرحيم
- التصنيف: