صراع الأيدلوجيات والمصالح في مالي
من جديد تنفجر الأوضاع في الشمال الأفريقي منذرة بحلقة جديدة من حلقات العدوان الغربي على العالم الإسلامي على خلفية تاريخية لن تنتهي تداعياتها على ما يبدو إلى قيام الساعة . ففرنسا ممثلة العالم الغربي والأوروبي تقصف بكل ما أوتيت من قوة شمال مالي بدعوى حماية البلاد من الوقوع في قبضة المتشددين الإسلاميين واستعادة السلطة الشرعية لزمام الأمور، وهي في ذلك لا تستطيع أن تخفي سوءة عدوانها الجديد بمبررات إنسانية أو إستراتيجية ومسوغات أممية، ففجاجة العدوان على مالي بدا للجميع دون لف أو دوران، إنه عدوان من أجل المصالح الدنيوية والأحقاد الدينية، شأنه في ذلك شأن سائر الحملات الأوروبية على العالم الإسلامي عبر التاريخ، إنها ثنائية المال والدين، أو صراع المصالح والأيدلوجيات.
أمريكا والغرب حريصة منذ أحداث سبتمبر الكاشفة لكثير من مخططات وتدابير العالم الغربي تجاه العالم الإسلامي، حريصة كل الحرص على عدم تمكين مجاهدي السلفية الجهادية أو ما يطلق عليه إعلاميًّا اسم تنظيم القاعدة، من إيجاد بقعة من الأرض تكون بمثابة دار هجرة لكل المجاهدين على مستوى العالم، وبؤرة تصدي وممانعة ـ حقيقية وليست ورقية أو استعراضية مثل إيران وسوريا ـ لمشاريع الهيمنة والنفوذ والتوسع الغربي على حساب العالم الإسلامي، ومنذ نجاح الأمريكان وحلفائهم من الأوروبيين في احتلال أفغانستان سنة 2001، وأمريكا حريصة على بقاء التنظيم الجهادي في إطاره السري العنقودي، خلايا متفرقة تعمل هنا وهناك دون تنسيق أو ترتيب، ولا يجمعهم سوى الإطار الفكري والعقدي والرؤية الحركية، غير ذلك فأمريكا وأوروبا حرصتا على منعه بأي ثمن، وهو ما جعلهم يتدخلون سريعًا لإجهاض تجربة حركة الشباب الصومالية، وتجربة الإمارة الإسلامية العراقية، حتى كانت جاءت اللحظة التي لم يحسن الأمريكان والأوربيون تقديرها فوجدوا أنفسهم بغتة في معضلة كبرى تنذر بمواجهة شاملة في الشمال الأفريقي.
ولكن كيف صنع الغرور الأمريكي والأوروبي هذه الفرصة الذهبية للمجاهدين؟
ففي الوقت الذي كانت فيه طائرات الناتو تدك كتائب وحصون القذافي في ليبيا، وتساهم بفاعلية في إنهاء النظام الديكتاتوري التي ساهمت في بنائه وتضخيمه، وتفتح الطريق أمام الثوار الليبيين وجلهم من ذوي الصبغة الإسلامية، وكثير منهم أصحاب خبرات سابقة في أفغانستان والبوسنة والشيشان، في هذا الوقت كان مجاهدو القاعدة يعملون بذكاء واحترافية وهدوء كبير في مناطق عديدة من القطاع الصحراوي الشاسع، على إيجاد موطئ قدم لهم في شمال مالي لبناء أول دويلة لهم بالمعنى المعروف، وذلك باستغلال حالة الفراغ السياسي بسبب الصراع العرقي المزمن بين الطوارق والماليين في شمال مالي، ورغبة الطوارق في الاستقلال بإقليم "أزواد" الشاسع والمليء بالثروات الطبيعية والمعادن النفيسة، وفي هدوء حذر تحرك مجاهدو تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي من شرق الجزائر، ومن الصحراء الجزائرية حيث معقل الحركة وهم جنسيات مختلفة وأغلبهم من الجزائر وتونس والمغرب ومالي وموريتانيا والنيجر، تحركوا في بعض مئات فقط ناحية شمال مالي، وقد ساعدهم على التقدم وجود آلاف الجنود الماليين في القتال إلى جانب القذافي في ليبيا، وعودة الكثير من الطوارق للعمل الميداني في شمال مالي بعد سقوط القذافي، واكتملت وتهيأت كل الأسباب لسرعة استيلاء تنظيم القاعدة والطوارق على ثلثي مالي مع سقوط القذافي وانفتاح مخازن السلاح على مصراعيها، وتحولت ليبيا لأكبر مصدر للسلاح غير القانوني في العالم، ويكون تنظيم القاعدة أول وأكبر المستفيدين من هذا السلاح، أضف إلى ذلك فاجعة أخرى للأمريكان والأوربيين تمثلت في استيلاء المجاهدين على العتاد الحديث للجيش المالي المنهار، فقبل استيلاء المجاهدين على شمال مالي في أبريل الماضي، كان الأمريكان قد زودوا الجيش المالي بمعدات قتالية متنوعة وجديدة، ووسائل اتصال حديثة، وتقنيات مكافحة الإرهاب لمراقبة تنظيم القاعدة في الصحراء الجزائرية، إضافة إلى هذه المعدات والتجهيزات، ورث تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي أيضًا المستودعات التي تركها الجيش المالي، بما في ذلك مدافع وراجمات صواريخ واحتياطات كبيرة من الأسلحة الخفيفة، ويسيطر التنظيم على المطارات المدنية في " تمبكتو وغاو وكيدال"، إلى جانب واحدة من أكبر القواعد الجوية في بلدة تساليت قرب الحدود الشمالية مع الجزائر.
وغير الأوضاع الميدانية التي هيأت للمجاهدين العرب والطوارق أن يحكموا سيطرتهم على شمال مالي في مساحة شاسعة تمتد إلى 300 ألف كيلو متر مربع أي ما يوازي 3 أضعاف مساحة إنجلترا، كانت هناك أوضاع سياسية مواتية، فالجيش المالي عقب هزيمته المروعة أمام الطوارق والمجاهدين في الشمال، وبإيعاز من فرنسا صاحبة النفوذ الكبير في مالي قام بالتمرد على الرئيس المنتخب "أحمد توماني" والرئيس الذي تولى بعده جاء لأهداف معينة ولخدمة رغبات السيد الأوروبي والأمريكي، والمتمثلة في السماح للقوات الأوروبية والأمريكية بالتقدم والتوغل والعدوان على قطعة غالية من العالم الإسلامي.
ولأن العقلية العسكرية قد تغيرت منذ العدوان على العراق، وتغيرت السياسات الأمريكية تجاه أمثال هذه الحروب، فقد سار الأمريكان والفرنسيون على نفس خطوات نهج العدوان على العراق مع تعديل جديد، وذلك باستصدار قرار أممي يبيح العدوان على مالي بحجة استعادة الشرعية، ونجدة إحدى الدول الأعضاء في الأمم المتحدة من العدوان التي تتعرض له ـ كأن الذي يحدث في سوريا منذ عامين مشاجرة بين الأطفال في المدرسة ـ ثم تفعيل مشروع "الباب المفتوح" لمشاركة دول الجوار والمحيط الإقليمي في القتال، حتى لا تتحمل أمريكا أو دولة بعينها تكلفة العدوان المتواصل على العالم الإسلامي، وبالفعل تم استصدار القرار 2085 من الأمم المتحدة للتدخل في مالي، وقامت قوات منظمة دول غرب أفريقيا المعروفة باسم "إيكواس" وتضم السنغال والنيجر وساحل العاج وبوركينا فاسو بالانضمام إلى بقايا الجيش المالي، وتحت غطاء جوي مكثف من فرنسا شن هذا التحالف المريب هجومًا لاستعادة مدينا "كونا " الإستراتيجية من يد المجاهدين الإسلاميين، وذلك بعد معارك عنيفة كشفت عن قوة تنظيم المجاهدين وأفضليته الميدانية وأيضًا العسكرية.
البعض ربما يتعجب من تباطؤ الأمريكان والأوربيين تجاه الأوضاع في شمال مالي، ولماذا صبروا طيلة الشهور الماضية على وجود مجاهدين إسلاميين في هذه المساحة الكبيرة؟! ولماذا تحركوا الآن؟! والإجابة على هذا التساؤل عند الجزائريين أصحاب الخبرة الطويلة والدامية مع التنظيمات الجهادية، حيث تخوفت الجزائر وحق لها أن تتخوف من عاقبة الدخول في مواجهات مسلحة مع المجاهدين؛ لأن ذلك سيفتح أبوابًا للمواجهة ستمتد بطول الشمال الأفريقي كله، وستكون دول الشمال وعلى رأسها الجزائر وليبيا أكثر من ينكوي بنيران هذه المواجهات، كما أن الجزائر وجدت في هذه المناسبة فرصة لا تعوض في استعادة نفوذها الإقليمي في مواجهة الضغوط الفرنسية، وميل فرنسا الواضح ناحية محور المغرب ـ النيجر على حساب الجزائر، لذلك حاول الجزائريون تأخير هذا الهجوم وفتح الباب أمام الدبلوماسية، ولكن فشل الجزائريين في مواجهة الضغوط الأمريكية والفرنسية خاصة بعد زيارة الرئيس الفرنسي الأخيرة إلى الجزائر منذ أسابيع حسمت بصورة نهائية العمل العسكري، أضف إلى ذلك استيلاء المجاهدين على مدينة "كونا" والتي تعتبر بمثابة مفتاح الجنوب، كل ذلك سرَّع من وتيرة الاستعداد للعدوان على مالي.
والذي قد لا يعرفه الكثيرون أن ثمة تقاطعًا كبيرًا في المصالح الاقتصادية والسياسية بين أمريكا وفرنسا في هذه المنطقة، سينتهي بمشيئة الله عز وجل إلى فشل هذا العدوان الجديد، فالاستثمارات الأميركية في قطاع النفط في الجزائر استثمارات ضخمة جدًّا، وكذلك الاستثمارات الأميركية في ليبيا، و20% من بترول أمريكا يأتي من الشمال الأفريقي، وبالتالي يعني أي عدوان على الأرض سيؤدي إلى عدم استقرار في المحيط الإقليمي، وكذلك أي انتصار للحركات الجهادية في شمال مالي سيؤدي بكل المنطقة إلى عدم الاستقرار. أما فرنسا فلها مصالح اقتصادية ضخمة في شمال مالي تريد أن تحميها، كما أنها صاحبة النفوذ التقليدي والتاريخي في المنطقة، وتريد أن تعيد رسم دائرة نفوذها في مواجهة المد المتزايد للنفوذ الأمريكي، وأمريكا تريد أن تبني قاعدة عسكرية ضخمة في إحدى دول المنطقة لتتمكن من مراقبة المنطقة الشاسعة الممتدة من الصومال إلى موريتانيا وهي مساحة أكبر من ضعفي مساحة قارة أوروبا كلها، ولن يتم تغطيتها أمنيًّا عبر طائرات استطلاع أو قوات خاصة أو مراكز متنقلة، فلابد لها من قاعدة عسكرية ضخمة شبيهة بتلك التي في ألمانيا.
ومهما يكن من مستقبل العمليات العسكرية في مالي في الأيام المقبلة، فإن التجربة قد أثبتت لنا عدة مرات أن أمثال هذه الضربات لا تعود بالنفع على أحد، فلا هي ستقضي أبدًا على التنظيمات الجهادية، بل ستشعل جذوة الجهاد عند الكثيرين، والطبيعة الدينية للشعب المالي المسلم والمسالم ستجعل العمليات القتالية وقودًا يحول الكثيرين منهم لمجاهدين ضد الغازي الصليبي، وهو الأمر الذي بدت بوادره في الظهور بعد فتوى علماء مالي بوجوب التصدي للعدوان الصليبي على مالي، ولن تحقق الاستقرار السياسي في مالي وفي المنطقة، ولن تحفظ على فرنسا وأمريكا مصالحها، بل ستتعرض المصالح وكذا الرعايا لهجمات وضربات متتالية، فضريبة الدماء البريئة ضريبة ثقيلة وباهظة التكلفة، وسيأتي اليوم الذي سيندم فيه كل من اشترك في العدوان على العالم الإسلامي بأسماء زائفة مثل الحرب على الإرهاب أو نشر الديمقراطية أو مساندة السلطة الشرعية، والحقيقة أنه صراع المال والدين على أرض اللبن والعسل.
- التصنيف: