أمركـة فرنسا
على الرغم من أن هولاند قد جاء إلى حكم فرنسا بخلفية اشتراكية تنادي بترك التدخل في شئون الآخرين، والاهتمام بالقضايا الداخلية، إلا أنه ساهم في تدخلات عسكرية سريعة في فترة وجيزة، في الصومال وفي مالي، فهل انتقلت أيدلوجية المحافظين الجدد إلى فرنسا؟
كان لنجاح السلطان صلاح الدين الأيوبي في تحرير بيت المقدس سنة 583 هـ رجة كبرى في العالم (المسيحي)، فقد هلك بابا روما جريجوري الثامن من هول الصدمة، وتداعى ملوك أوروبا وأمراؤها وفرسانها وبتحريض مباشر من كرسي البابوية من أجل شن حملة صليبية ثالثة على العالم الإسلامي لاستعادة بيت المقدس ووقف الزحف الإسلامي الممتد على الكيانات الصليبية التي أنشئت عقب احتلال سواحل الشام على يد الحملة الصليبية الأولى، وبالفعل استجاب ملوك فرنسا وألمانيا وإنجلترا والمجر وقبرص والمدن الإيطالية وغيرهم كثير من أجل الاشتراك في هذه الحملة التي كانت أضخم حملة صليبية عرفتها أوروبا، وكانت الحملة رسميًّا تحت قيادة ملك فرنسا التي كانت تعتبر دائمًا أكثر الدول الأوروبية مشاركة في الحروب الصليبية ضد المسلمين.
في أتون هذه الحملة المشتعلة وقع خلاف كبير بين ملك إنجلترا (ريتشارد قلب الأسد) وملك فرنسا (فليب أوغسطس) بسبب شهرة ملك إنجلترا وجراءته في القتال، وحب الجنود له، حتى أن قيادة الحملة انتقلت فعليًّا إلى ريتشارد على الرغم من كونها رسميًّا تحت قيادة فرنسا، ناهيك عن أن إنجلترا كانت تعد لزمن طويل إقطاعًا تابعًا لفرنسا، وعبثًا حاول فليب استعادة قيادة الحملة وتحجيم ريتشارد ففشل، وانتهت المنافسة بينهما إلى انسحاب فليب من الحملة بجنوده وكان انسحابه سببًا مباشرًا لفشل الحملة الضخمة على الشام.
فرنسا من دون الدول الأوروبية تعتز بخصوصيتها الثقافية والتاريخية وهويتها القومية، وهي من أكبر الدول الأوروبية مساحة وأكثرها سكانًا، وصاحبة السجل الأكبر واليد العليا في الحملات الاستعمارية في التاريخ المعاصر، فلم يُعلم دولة احتلت عددًا من الدول أو مساحة من الأرض مثلما احتلت فرنسا، فيكفي أن معظم القارة الأفريقية كانت مغتصبة فرنسيًّا لعشرات السنين، وهذه الذاكرة الفرنسية المتخمة بمشاهد استعراض القوة والغطرسة والسيطرة على مساحات شاسعة من الأرض لم تَنْمحِ أبدًا من هذه الذاكرة، فهو حنين لم يغادر مخيلة قادة الإليزية أبدًا.
فعلى الرغم من أن هولاند قد جاء إلى حكم فرنسا بخلفية اشتراكية تنادي بترك التدخل في شئون الآخرين، والاهتمام بالقضايا الداخلية، وجاء على خلفية غضب المرشح الفرنسي من سياسات ساركوزي التي قزَّمت فرنسا وجعلتها تابعًا مطيعًا لأمريكا، على الرغم من ذلك كله إلا أن هولاند لم يستطع أن يخرج من رغبة فرنسا في استعادة الأمجاد وبناء الإمبراطورية من جديد، وسرعان ما لحس وعوده، وتحول من باراك أوباما إلى جورج بوش بتدخلات عسكرية سريعة في فترة وجيزة، في الصومال وفي مالي؛ ليؤكد من جديد على أن قادة فرنسا لهم أجندتهم الخاصة نحو بناء مكانة خاصة ومميزة بهم وسط الأوروبيين القانعين بلعب دور السنيد للبطل الأمريكي في مشاهد العصر مما يدفعنا للتساؤل: هل انتقلت أيدلوجية المحافظين الجدد إلى فرنسا؟
المحافظون الجدد تيار بدأ في الظهور في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات على يد مثقفين وكتّاب في أغلبهم يهود، لم يكونوا على وفاق مع القيم التحررية التي سادت العالم الغربي وقتها، وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي وانتهاء حقبة الحرب الباردة أصبحت هذه الأيدلوجية الأكثر رواجًا وتأثيرًا في السياسة الأمريكية، وتعتبر هذه الأيدلوجية المرجعية الفكرية والحركية لمشروع القرن الأمريكي الجديد الذي جعل من أمريكا أكبر إمبريالية عرفها العصر الحديث.
هذه الأيدلوجية لها عدة سمات هامة:
أولًا: تَعتَبر القوة العسكرية هي كلمة الفصل في أي صراع ينشأ بين الأمم، ومن ثم كان الإنفاق العسكري المتعاظم عامًا بعد عام لتصل أمريكا لأكبر قوة عسكرية معاصرة.
ثانيًا: معاداة الأفكار والسياسات التي تدعو إلى السلام العالمي أو التعاون الدولي؛ لأنها حسب رؤية القائمين عليها تحد وتضعف من حرية أمريكا في التدخل في شئون الآخرين.
ثالثًا: عدم الثقة بشكل تام في حلفاء أمريكا الأوروبيين، ومعاداة الوطن العربي والعالم الإسلامي الذي يمثل خطرًا مستمرًّا على أمريكا بسبب الثقافة والدين والقومية، أما الكيان الغاصب لفلسطين فهو الشريك المطلق الذي يتفق مع أمريكا ثقافيًّا واستراتيجيًّا.
والناظر إلى السياسات الفرنسية منذ المشاركة في الهجوم على ليبيا سنة 2011 يتأكد أنها قد بدأت فعليًّا في اعتناق هذه الأيدلوجية الحربية، فهولاند الاشتراكي الذي نجح بسبب جمهوريته وبساطته على ساركوزي المتغطرس تعرض لنكسة شعبية تمثلت في ارتفاع وتيرة السخط الداخلي؛ نتيجة فشله في تحقيق وعوده الانتخابية، وبهت بريقه سريعًا، لذلك كان خيار تفعيل أساليب المحافظين الجدد هو الخيار المفضل لهولاند المتداعية شعبيته، والإعلام الفرنسي الباحث عن قائد يُحيي آمال الإمبراطوريات البائدة هلَّل للعملية، وتبنِّى الخطاب الرسمي والرئاسي، فـ (شَرعن) الهجمات ورفض إطلاق أي صفة (استعمارية) عليها، وسلاحه في ذلك: قرار أممي مؤيد، وطلب النجدة من الرئيس المالي وترحيب من الماليين، ودعم غالبٍية الأحزاب في الداخل الفرنسي، وبعض الصحف والقنوات التلفزيونية الرسمية أتقنت في الأيام الأخيرة فنَّ الدعاية الحربية على الطريقة الأمريكية أيضًا، فهلَّلت لانتصارات باكرة وقدَّست حربًا غير مصوَّرة ينفذها جنود أبطال ضد الإرهابيين الأشرار، وتجاهلت نشر صور قائد الكومندز الفرنسي المقتول في الصومال، وتصريحات من عينة (ساحلستان) على غرار أفغانستان، ظهرت على الصفحات الأولى في ممارسات صحافية لبلد يتغنى أهله بأنه بلد الحرية والعدل.
منذ بدء الألفية الثالثة وأمريكا تلعب دور شرطيّ العالم الذي يعربد في أي بقعة في العالم اعتمادًا على قوة عسكرية كاسحة، وفرنسا بدورها تحاول أن تلعب نفس الدور ولكن على المستوى القاري، ونعني طبعًا القارة الأفريقية، فشرطي القارة السمراء اعتمادًا على نفوذه القديم في شمال وغرب ووسط أفريقيا، وعلاقاته المتميزة مع قادة دول المنطقة، والجاليات الفرنسية الكبيرة المقيمة في هذه الدول، والمصالح والروابط الاقتصادية المتينة معها، وقبل ذلك كله عقلية استعمارية مقيتة، وخليط نتن من الاستعلاء العنصري والحقد الديني والهوس القومي، كلها أمور جعلت فرنسا تتمسك بلقب شرطي القارة في مواجهة غير معلنة مع شرطي العالم (أمريكا).
ولكن هذه الحرب الصليبية الجديدة على مالي المسلمة لن تحقق لفرنسا هدفها المرجو، بل على الأغلب ستطيح بهذا النظام وهذه الحكومة كما حدث في الستينيات أيام حرب السنغال، وستكون هذه الحرب الدينية الصريحة بسبب الدفعة القوية التي ستأتي للمجاهدين في كل مكان، وستضخ دماء جديدة في شرايين التنظيمات الجهادية، وسيرتفع الشعور الديني والقومي لدى العرب والمسلمين في كل مكان، وستتعرض مصالح فرنسا وأمن مواطنيها للخطر في كل مكان، ولعل ما حدث في أمناس بالجزائر ولو طال أمد الحرب الفرنسية في مالي المسلمة أكثر من ثلاثة شهور فستبلع رمال مالي العسكرية الفرنسية، وستكون صحراءها القاحلة مقبرة لطموحات هولاند الصليبي وأيدلوجيته الجديدة.
شريف عبد العزيز الزهيري
[email protected]
- التصنيف: